احتفت جامعة الدول العربية قبل ثلاثة أعوام وذلك في الـ٢٢ من مارس ٢٠٢٠م باليوبيل الماسي بمرور (٧٥) عامًا على إنشائها، حيث تمَّ التوقيع على ميثاق جامعة الدول العربية بتاريخ الـ٢٢ من مارس عام ١٩٤٥م في قصر الزعفران بالقاهرة ووقَّع عليه رؤساء حكومات (٥) دول عربية هي: مصر وسوريا والعراق ولبنان وشرق الأردن، ثمَّ وقَّعت السعودية واليمن لاحقًا. وضمَّ ميثاق الجامعة (٢٠) مادَّة حدَّدت أُطُر العمل للجامعة بعد الاستقرار على تسميتها (جامعة الدول العربية) لتضمَّ كلَّ الدول العربية المستقلَّة في هذا الكيان الوليد. وهنا يتبادر تساؤل لبعض الأشقَّاء العرب حول ما يتمُّ ترويجه عن الدَّور البريطاني في الإيعاز بالموافقة الضمنية لتأسيس هذا الكيان العربي، وهو من المغالطات التي ما زال بعض العرب يقع فيها للتقليل من الجامعة، وتقزيم هذا الكيان العربي الذي سَعَتْ من أجْله قيادات عربية منذ بدايات النصف الأول من القرن العشرين. ولتفسير هذه الفكرة المغلوطة، فقد صدر بيان من وزير خارجية بريطانيا أنتوني إيدن في الـ٢٩ من مايو عام ١٩٤١م كان قد أعلن تأييد حكومة بلاده لأيِّ خطَّة تلقى من العرب موافقة عامَّة، وهذا البيان جاء في وقت كان الحلفاء يحاولون استمالة العرب إلى جانبهم في الحرب العالمية الثانية. وأكد إيدن مجددًا ذلك في بيان آخر صدر في فبراير عام ١٩٤٣م، بالإضافة إلى وعود عديدة من قبل الإنجليز لدعم استقلال الدول العربية في حال مساعدة الحلفاء في الحرب العالمية، وهو ما لم تلتزم به بريطانيا وفرنسا بعد انتهاء الحرب العالمية، وهذا يؤكد أنَّ هذه الوعود والبيانات مجرَّد تسويق سياسي ولم يكن جديدًا بالنسبة لهذه القوى الدولية؛ فوعد بلفور واتفاقية سايكس ـ بيكو أثناء الحرب العالمية الأولى ومراسلات حسين ـ ماكماهون بما حملت من وعود لقيام دولة عربية واحدة لم تكن غائبة عن الذاكرة. الأمْرُ الآخر أنَّ فكرة الوحدة وإنشاء كيان يجمع العرب كانت فكرة سبَّاقة لدى كثير من مفكِّري العرب قَبل ذلك، والفكر السياسي العربي السائد كان يسير بهذا الاتجاه، فتوَّج تلك الفكرة دعوة من رئيس وزراء مصر مصطفى النحاس الذي دعا فيها إلى اجتماع رؤساء حكومات عدد من الدول العربية لمناقشة مشروع الوحدة، وجرت عدَّة اجتماعات بحضور بعض القيادات العربية آنذاك من أجل مناقشة قيام كيان يجمع العرب، وهو ما تمَّ الاتفاق عليه بعد توقيع بروتوكول الإسكندرية في أكتوبر ١٩٤٤م، ثمَّ تلاه توقيع نصِّ الميثاق في القاهرة، وهو يُعدُّ تاريخ إعلان ميلاد جامعة الدول العربية وذلك في الـ٢٢ من مارس ١٩٤٥م، وبالتالي فإنَّ ما يُسوَّق من قِبل البعض حول التأييد البريطاني ما هو إلَّا لتحقيق أغراض سياسية مرحلية، وفي ذات الوقت هو تحصيل حاصل لفكرة عربية توافق عليها أغلب القادة والمفكرين والأحزاب والقوى العربية. وبلا شكٍّ هي فكرة عظيمة لأُمَّة واحدة؛ نظرًا لِما يجمعها من عوامل مشتركة كالجغرافيا والتاريخ والهُوِيَّة واللغة العربية والعادات والتقاليد لجميع الأقطار العربية من مضيق جبل طارق إلى مضيق هرمز، واستمرَّت جامعة الدول العربية منذ ذلك التاريخ تُمثِّل البيت الذي يجمع العرب بما حملت من إنجازات أو إخفاقات خلال تاريخها، فهي على الدوام تُمثِّل البيت العربي الذي يجمع الأشقَّاء في مختلف الأزمات. ولا شكَّ أنَّ العرب من خلال جامعة الدول العربية حاولوا توجيه مقدَّراتهم لخدمة قضاياهم العربية مدركين أهمِّية هذا الكيان الجامع الذي ظلَّ مقرُّه في القاهرة حتى اليوم عدا الفترة التي أعقبت كامب ديفيد (٧٩/١٩٩٠م) حيث انتقل فيها مقرُّ الجامعة إلى تونس، ثمَّ عادت لمقرِّها الأساسي بعد ذلك. ومرَّت الجامعة بعدَّة قضايا عربية مصيرية، وعقدت اجتماعات تاريخية كمؤتمر الخرطوم أو قمَّة اللاءات الثلاث أعقاب حرب يونيو ١٩٦٧م التي خسرها العرب، وفي كلِّ الأحوال فإنَّ جامعة الدول العربية تُمثِّل الدول العربية وتُعبِّر عن قوَّة هذه الدول وأوضاعها السياسية، وما تملك من آليَّات عمل يكفلها ميثاق الجامعة. وهنا أرى أنَّ فكرة جامعة الدول العربية هي فكرة عظيمة حافظت على الحدِّ الأدنى من التوافق العربي والتشاور في خدمة قضايا الأُمَّة، وتفعيل آليَّات وأُطُر العمل العربي المشترك.
وجود كيان عربي يجمع العرب في حدِّ ذاته يحمل أهمِّية وحدوية، لكنَّ هذه الأهمِّية لا يمكن أنْ تتحقق في ظلِّ حالة السُّبات المستمرِّ الذي يجسِّد الحالة العربية منذ (٥) عقود تقريبًا. فقد كان آخر عهد للتضامن العربي في عام ١٩٧٣م أثناء التنسيق والإعداد لمعركة العرب الكبرى، ومنذ ذلك الحين لم تشهد جامعة الدول العربية أيَّة بوادر عمل عربي حقيقي أو محاولة تأسيس مشروع عربي، وهذا الأمْرُ لا شكَّ يعكس حالة التشرذم العربية، ولا يمكن أنْ نتجاهل أيضًا التدخلات الخارجية (الاستعمارية) في الدول العربية ممَّا تثير حفيظة الشعوب العربية للعمل على لملمة هذا الانقسام والتِّيه. فهل ستبقى جامعة الدول العربية في هذا الوضع لا تحرِّك ساكنًا لإعادة أمل وحدة الصَّف العربي، والعمل على بناء المشروع العربي الذي يحقق تطلعات الأُمَّة العربية، وهذه كلها آمال جديرة بالاهتمام تتطلب العمل بأعلى مستوى لمواجهة هذا الهَمِّ العربي.
موضوع تفعيل أدوار وآليَّات عمل جامعة الدول العربية يُتداول منذ عقديْن في بدايات الألفية تقريبًا، ولكنَّ الإرادة الحقيقية لم تكن متوافرة لتغيير واقع الجامعة. لكنْ أعتقد أنَّ الظروف الدولية اليوم باتت سانحة لكَيْ يُعبِّر العرب عن تطلُّعاتهم في التموضع في الخريطة الدولية، وأوَّل هذه الإجراءات ينبغي أن يكون ملف إصلاح جامعة الدول العربية وتفعيل أدوارها وتطوير آليَّات عملها، والانعتاق من واقع العقود الخمسة الماضية التي لم تحقق فيها الجامعة أيَّ بوادر أمل عربية، فقط مجرَّد بيانات ختامية تعكس حالة خيبة الأمل لدى الشعوب العربية. ومن هنا أقترح أولًا: الدعوة إلى عقد اجتماع عربي على مستوى وزراء الخارجية العرب لإحياء وتفعيل أدوار جامعة الدول العربية، وتطوير آليَّات العمل فيها، وتحسين أدائها بما يتواكب مع المرحلة المقبلة. ثانيًا: تشكيل لجنة عمل عربية مُشكَّلة من المندوبين الدائمين لدراسة مقترحات تطوير آليَّة عمل جامعة الدول العربية. ولا شكَّ أنَّ هذه المتغيِّرات الدولية وأهمِّية اضطلاع العرب بِدَوْر فاعل تتطلب إنعاش جامعة الدول العربية لتواكب المرحلة المقبلة. ومن المقترحات التي طرحت سابقًا موضوع تداول منصب أمين عام الجامعة، وعدم حكره على دولة المقر مع أهمِّية بقاء مقرِّ الجامعة في جمهورية مصر العربية؛ لِما تُمثِّله من محورية في الوطن العربي. ومن هنا نأمل أنْ يحرِّك النظام الرسمي العربي ملف إصلاح جامعة الدول العربية وتفعيل أدوارها مواكبةً للمستقبل، ولِما يحمله تقويم هذا الكيان بالمستوى الذي يُلبِّي طموحات العرب.
خميس بن عبيد القطيطي