تتنافس دول العالم في الشرق والغرب على وضع أنظمة وقوانين مرنة ومعاصرة وجديدة في مجال التطوير الإداري؛ لتتناغم مع المتغيرات الحديثة دون الإخلال بخدمة الجمهور المستفيد، أو بجودة العمل، أو التقليل من مُمكنات الاقتصاد الوطني الذي يُعد أساس الرخاء الاقتصادي للدول والمجتمعات.
وقد جرت العادة في معظم قطاعات الإنتاج في مختلف الدول منذ منتصف القرن العشرين على تحديد ساعات العمل اليومية ما بين 7 إلى 9 ساعات ولمدة 5 أيام في الأسبوع، وذلك في القطاعين العام والخاص بهدف المحافظة على جودة المنتج وكميته، بينما تعمل الوزارات الخدمية والمؤسسات التعليمية على تواجد موظفيها في المكاتب والالتزام بالدوام الرسمي بهدف إنجاز المعاملات وإرضاء المراجعين في محطاتها ومنافذها المختلفة. وكان الكل يعتقد أنه كل ما زادت ساعات العمل وعدد أيام الدوام تتحققت الأهداف المرسومة لهذه القطاعات، وخاصة القطاع الاقتصادي والصناعي على وجه الخصوص.
لكن الأمور لم تعد كذلك على الإطلاق.. فقد أظهرت الدراسات التي أعدتها دول وشركات عالمية عابرة للقارات مؤخرًا، أن إنتاجية الموظفين والعاملين أصبحت أفضل عندما تقل ساعات العمل؛ حيث إن ساعات العمل الأقل لا تعني بأي حال من الأحوال تراجع إنتاجية الموظف. وتفاجأ أصحاب الشركات والمصانع بزيادة الإنتاجية وجودة المنتج بعد تقصير ساعات العمل! وفي مقدمة هذه التجارب الرائعة آيسلندا؛ هذه الدولة الأوربية الصناعية التي تعد أول دولة في العالم تطبِّق نظام عمل 4 أيام في الأسبوع في عام 2015، ثم حذت حذوها العديد من الدول الأوربية مثل بلجيكا. وأكد العاملون- الذين خضعوا لدراسات علمية مطولة- أنهم تخلصوا من توتر الدوام وأن صحتهم تحسنت ولديهم مزيد من الوقت لقضائه مع الأسرة، وكذلك ممارسة الرياضة وإنجاز الأعمال الشخصية.
أما تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة التي طبقت نظام 3 أيام إجازة في إمارة الشارقة و3 أيام ونصف اليوم في الإمارات الأخرى؛ فكانت ناجحة بكل المقاييس. والدراسة التي أجراها المجلس التنفيذي في إمارة الشارقة خلُصت إلى أن نظام العمل الجديد ساهم في ارتفاع العوامل الإيجابية المتعلقة ببيئة العمل والإنتاجية للموظفين، كما انخفضت الحوادث المرورية والوفيات بنسبة تصل إلى 40% بالمقارنة بالعام السابق 2021، قبل تطبيق إجازة 3 أيام في الأسبوع! بينما كشفت عهود الرومي وزيرة الدولة للتطوير الحكومي في أبوظبي عن نتائج واعدة لتطبيق العمل لمدة 4 أيام في الأسبوع؛ إذ تجلى ذلك في انخفاض مستويات تغيُّب الموظفين عن الدوام الرسمي بنسبة 55%، بينما ذكر 70% من العاملين بأنهم يعملون بكفاءة غير مسبوقة، كما إن إنجاز الأعمال يتحقق بطريقة مُبهرة لجميع الأطراف.
الأمر المُفلت للانتباه، اختفاء الإجازات المرضية التي كانت تنتشر بكثرة وبشكل يومي، كذلك ارتفع سقف دافع العمل والإنجاز بين الموظفين كافة في جميع الدول التي اعتمدة إجازة أسبوعية تمتد 3 أيام.
يبدو لي أن العالم من أقصاه إلى أقصاه يتجه نحو تطبيق النظام الجديد؛ لكونه يُحقق نتائج إيجابية في جميع النواحي؛ ففي بريطانيا مثلًا بدأت الشركات الكبرى تقليص أسبوع العمل إلى 4 أيام دون تخفيض رواتب العاملين في هذه الشركات. ويمكن الإشارة أيضًا إلى تجربة شركة مايكروسفت العملاقة التي بدأت تطبيق هذه التجربة منذ 2019 في فرعها باليابان؛ إذ تم توفير الكثير من الموارد المالية والإدارية.
وفي سلطنة عُمان.. أعتقد أنَّ الكل يتطلع في هذا البلد للحاق بركب الدول التي طبَّقت تلك الأنظمة؛ للاستفادة من هذه التجارب الناجحة التي بلا شك مُقنعة للحكومة الرشيدة لدراسة نظام العمل الجديد، ومن ثم تطبيقه في أسرع وقت ممكن. لكن الرسائل التي وردت من المعنيين بهذا الموضوع تسودها الضبابية وعدم الوضوح؛ فهناك- مثلًا- نفي من وزير العمل حول إمكانية العمل بتقليص أيام العمل الأسبوعية، بينما وكيل الوزارة المختص بتنمية الموارد البشرية أوضح أن الوزارة “قد تدرس” في الفترة المقبلة زيادة أيام الإجازة الأسبوعية؛ لتكون 3 أيام في الأسبوع بدلًا من يومين.
لا شك أن تقليص أيام العمل إلى 4 أيام في القطاعين العام والخاص لا يُمكن أن يؤثر بأي حال من الأحوال على الإنتاج؛ بل سوف يشجِّع الموظفين على المثابرة وإنجاز العمل في أسرع وقت مُمكن، كما إن الوزارات والشركات ستوفر جزءًا كبيرًا من الطاقة الكهربائية وفاتورة المياه والمشروبات الساخنة التي تقدمها في المكاتب للموظفين، وكذلك تحافظ على استهلاك الأثاث ووقود السيارات والمكالمات الهاتفية التي يستخدمها البعض من المكاتب الحكومية، هذا فضلًا عن تخفيف الازدحامات المرورية وتكدس السيارات على الطرق، وتقليل التلوث في الأماكن العامة والمحافظة على البيئة بشكل عام.
يجب الاعتراف أن هناك وظائف ذات طبيعة خاصة وتخصع لأنظمة مرتبطة بوزارات وشركات معينة، مثل: الأطباء والمُعلمين والإعلاميين وغيرهم، الذين يتطلب عملهم أياما وساعات أطول وأكثر من الموظفين في القطاعات الأخرى، وكذلك هناك من يخضعون لنظام الورديات (المناوبات) في أوقات مختلفة يتطلبها الدوام في تلك المؤسسات، فهؤلاء جميعًا يجب أن يكون لهم نظام مختلف يتناسب مع طبيعة وظائفهم وواجباتهم اليومية.
وفي الختام.. الازدحام المروري وتكدس السيارات في أوقات الذروة في محافظة مسقط أصبح أمرا لا يُطاق؛ إذ نلحظ زيادة مُزعجة للمدة الزمنية التي يقضيها الشخص بين طوابير السيارات التي تتحرك ببطء، وتسبب للناس الكثير من المتاعب والقلق والتلوث وضياع الوقت، ولا توجد حلول لهذه المشكلة إلّا بتقليص أيام العمل الأسبوعية إلى 4 أيام، كذلك توزيع فترات العمل في الوزارات إلى أوقات مختلفة غير الفترة الصباحية على نفس نظام الدوام المرن، الذي تم تطبيقه في شهر رمضان لهذه السنة 1444هـ.
د. محمد بن عوض المشيخي- أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري