يتساءل الكثير منَّا عند زيارته لأي دولة أوروبية- على سبيل المثال- عن سر انضباط تلك المجتمعات، ومدى قدرتها على التحكم في الوقت دون الإخلال بأي واجب من واجبات الحياة ومتطلباتها، وخاصة في العمل، على الرغم من أنها مجتمعات كبيرة ومتنوعة، إلّا أن الانضباط أسلوب حياة مُترسخٌ في مختلف المناحي، وكأنَّ كل شيء معهم يمضي وفق خطة مدروسة ولا يمكن أن يتغير أو يختل نظامهم!
هذا ما لمسته عند زيارتي الأخيرة لجمهورية ألمانيا، تلك الزيارة التي تم التنسيق لها بشكل مسبق وبترتيب وانسجام تام، فالبرنامج كان جاهزًا بكل التفاصيل من حيث الزمان والمكان دون إخلال وكأنهم يضبطون الساعة على مواعيدهم. هذا ما يدفعني دائمًا إلى إمعان التفكير في العوامل التي تتمسك بها تلك المجتمعات لتتمكن من تحقيق مفهوم “الانضباط” في كل وقت وحين وأينما حلوا أو ارتحلوا؟!
الزائر لأي دولة أوروبية عادة ما يُعجب للغاية بالتجربة الغربية، والتفوق الحضاري، عندما نتأمل في الأسباب والسر في ذلك كما تساءلت وأجبت سابقاً تكمن في “الانضباط والإنتاجية”، والتي تعني الالتزام والإحساس بالمسؤولية والالتزام بالمواعيد؛ وهو أمر غاية في الأهمية، ولديهم الحرص الكبير على أن يتم تقديم كل شيء وفق ما تم الاتفاق عليه وعلى أكمل وجه.
نحن لسنا أقل من هذه الشعوب بالتأكيد، فنحن نملك حضارتنا وثقافتنا، لكن التمسك بها تراجع لأسباب كثيرة، قد نعزوها لتغير الأولويات، والانفجار المعرفي، وإيقاع الحياة المتسارع، لكن ما غاب عن أذهاننا، هو أن كل ذلك في حد ذاته يجب أن يدعونا للانضباط وترتيب حياتنا، خاصة وأن الضغوط التي تفرضها الحياة، تُلزمنا في الوقت نفسه ببذل المزيد من الجهد من أجل التعاطي مع هذا النوع من المفاهيم التي من المُخجل أن البعض منَّا نسيها، أو أصبح لا يكترث بها، ويعتقد أن الآخر مُجبرٌ على تقبُّل وتحمُّل طريقته العشوائية في الحياة.
الانضباط سبب رئيسي في تعلُّم الإنسان للعديد من الأمور، والالتزام بالوقت، والتحلي بصدق الكلمة، والوفاء بالعهد، وبذل الجهد في كل ما له ارتباط بمناحي الحياة، وأولها الالتزام مع النفس بما لها وما عليها، وبمجرد ما يُطبِّق الفرد منا هذا الأمر على نفسه، سينعكس ذلك على المجتمع.
خلال زيارتي لألمانيا، رأيت النظام والانضباط في كل تفاصيل الحياة هناك، في الشارع، في التنقل بين الأحياء، وفي تعاملاتي مع البشر.. فالشوارع منظمة تستطيع استيعاب كافة وسائل النقل، من الدراجة الهوائية إلى القطار، والأحياء مُنظّمة بما يتناسب مع تكوينها، وكل مكان هناك قابل لأن يكون مزارًا سياحيًا، بدءًا من مناجم الفحم القديمة، وانتهاء بالمنازل التي تحولت لمتاحف بمرور الزمن؛ الأمر الذي يجعلك تقف عند دهشة هذا التحول وقدرة هذه الدول على إيجاد قيمة حقيقية من اللا شيء.
إنه النظام في التفكير، والنظام في وضع الخطط والاستراتيجيات، والنظام في تعاطي البشر مع ما تتطلبه منهم مجتمعاتهم، إنه النظام التام في تقديم حياة تتناسب مع رؤيتهم لانفسهم بعد 20 عامًا من الآن.
ما أودُ توضيحه أننا لسنا أقل منهم بالتأكيد، فقد كان آباؤنا وأسلافنا مرتبطين بالانضباط التقليدي الذي يعتمد في أساسه على مواعيد ومواقيت الصلاة؛ بحيث إنك تجدهم ينامون مبكرًا بعد صلاة العشاء، ويستيقظون مبكرًا أيضًا عند صلاة الفجر، ثم يذهبون لحقولهم وأعمالهم، وينطلقون كلٌ حسب توجهاته الحياتية، بحثًا عن لقمة العيش ليعملوا بجد واجتهاد، وليعودوا بعد ذلك عند صلاة الظهر، فقد كانت مواعيد الصلاة الضابط الأول لإيقاع حياتهم اليومية، وهو درس يجب أن نتعلم منه نحن أبناء هذا الجيل، خاصة وأننا نمتلك بالأساس كل سبل الانضباط التي لم يكن يمتلكها لربما أبناء الجيل السابق.
وختامًا.. علينا أن نتعلم تقدير الوقت وتقديس العمل، والتفاني في الواجب، واحترام الآخر، والتعامل مع كل تفاصيل حياتنا بنظام، كي تنهض بلادنا وتحقق ما نرجوه من رخاء واستقرار.
مدرين المكتومية