يُعدُّ التاريخ المعاصر منذ عام 1945م أي منذ انتصار الحلفاء وتشكيل نظام دولي جديد تسيَّدت فيه القوَّتان العظميان صدارة العالم، وقد يأتي في السياق الزمني للحقبة المتأخرة من التاريخ الحديث الذي بدأ مع الثورة الفرنسيَّة والثورة الصناعيَّة، أمَّا الفترة المبكرة للعصر الحديث فقد بدأت منذ أواخر القرن الخامس عشر؛ أي منذ اكتشاف العالم الجديد (أميركا) عام 1492م، وهذه الأحداث التاريخيَّة شكَّلت معالم فاصلة للتاريخ بشكلٍ عام. ولا شكَّ أنَّ حركة التاريخ وتحديد فواصله لا تقاس وفقًا لأحداث إقليم معيَّن على كوكب الأرض، بل تفرزه الأحداث التاريخيَّة الكبرى، ومن خلال سلسلة مترابطة من الأحداث والتحوُّلات العالميَّة التي تُلقي بظلالها على مختلف الأقاليم العالميَّة والتي تُعيد تشكيل خريطة العالم وبلورة نظام عالمي جديد كما حدث في بداية التاريخ المعاصر، حيث أفرزت الحرب العالميَّة الثانية شكلًا جديدًا للخريطة السياسيَّة الدوليَّة، وشكَّلت نظامًا عالميًّا جديدًا ما زال صامدًا حتى اليوم رغم إرهاصات التغيير.
غالبًا ما تتضافر عدَّة عوامل في تشكيل حركة التاريخ، حيث تعتمد على معايير محدَّدة أبرزها القوَّة، بالإضافة إلى الثورات الاجتماعيَّة والصناعيَّة والتقنيَّة والتطوُّرات العلميَّة. والقوَّة هنا بمختلف جوانبها العسكريَّة والاقتصاديَّة والعلميَّة التي تحسم المشهد العالمي لصالح الأطراف المتصدرة، ولكَيْ لا نوغل كثيرًا في تفسير محدِّدات التاريخ، ولإفساح المجال لسياق الفكرة الرئيسة ومحاورها نؤكِّد أنَّ ما يحدث بالعالم في هذا التاريخ يُشكِّل فواصل مهمَّة في حركة التاريخ وإرهاصات دالَّة على تشكيل نظام عالمي جديد بدأت ملامحه تتضح على المشهد العالمي.
الصراع القطبي العالمي بعد الحرب العالميَّة قسَّم العالم إلى محوريْنِ شرقًا وغربًا، وقد حسمت الحرب الباردة النتيجة لصالح الغرب الذي تتزعمه الولايات المتَّحدة بعد سقوط الاتِّحاد السوفيتي، حينها تصدَّرت وسائل الإعلام عناوين ونظريَّات مِثل صراع الحضارات ونهاية التاريخ، وربَّما ذهب بعض الباحثين والمفكرين إلى أنَّ الشرق سوف يُعيد تنظيم أدوات القوَّة ليبرز على المسرح الدولي في غضون نصف قرن، وكان أبرز أقطابه قوى صاعدة علميًّا وصناعيًّا أمثال الصين والهند اللتيْنِ كانتا وما زالتا تُمثِّلان أكبر دوَل العالم سكَّانًا، وأضاف بعض المفكرين اليابان وروسيا ونمور آسيا لتشارك في حركة التغيير العالمي القادم. واليوم بعد ثلاثة عقود منذ سقوط الاتِّحاد السوفيتي يتضح أنَّ العالم يتَّجه نحو تشكيل نظام جديد متعدِّد الأقطاب وتتَّجه الصين بتسارع مطَّرد لتبوُّؤ الصدارة العالميَّة.
تُشكِّل العمليَّة العسكريَّة الروسيَّة الخاصَّة في أوكرانيا أهمَّ مشهد عسكري للفرز العالمي بين الشرق والغرب، بل تُمثِّل أهمَّ الأحداث العالميَّة، بينما تُشكِّل القوَّة الاقتصاديَّة الصينيَّة قاعدة التغيير. ويأتي التحالف الصيني الروسي لِيؤسِّس بروز قوَّة عالميَّة بالشرق وربَّما يتفجر صراع قطبي آخر على شكل حربٍ باردة أو مواجهة عالميَّة، وقد يُحسم الصراع لصالح الشرق على حساب الغرب الذي بدأ يضمُر اجتماعيًّا وينكمش اقتصاديًّا ويتراجع سياسيًّا، وهناك قوى إقليميَّة أخرى مرتبطة بهذا التغيير العالمي، بعضها حدَّد موقعه من الصراع، والآخر ينتظر اللحظة المناسبة لإعلان ذلك. وهناك دوَل بدأت تشقُّ طريقها وتحجز مكانها في الخريطة العالميَّة الجديدة مِثل السعودية وإيران وتركيا والبرازيل، وهذه الدوَل تمتلك الأدوات والعناصر والإرادة لتزاحم في التموضع الإقليمي والدولي.
الوطن العربي أيضًا يقع ضِمْن هذه الكتل الإقليميَّة التي تتأثر بكُلِّ ما يحدث في سياقات الأحداث العالمية، ولا شكَّ أنَّ الظروف التي عاشها العرب خلال الحقبة الماضية تُعدُّ استثنائيَّة؛ بسبب التركيز العالمي على هذه المنطقة؛ باعتبارها أكبر مورد للطاقة وتوسُّط موقعها الجغرافي بين الشرق والغرب وإشرافها على أهمِّ المعابر الملاحيَّة الدوليَّة ولوجود الكيان الصهيوني الذي تمَّ زراعته في قلب الوطن العربي، وبالتَّالي ضرورة حمايته من قِبل القوى الدوليَّة. هذه المعطيات شكَّلت ضغطًا كبيرًا على الدوَل العربية التي وجدت نفسها في ظلِّ تداعٍ عالمي من قِبل الغرب، لا سِيما بعد رحيل جيل القادة العرب في مرحلة الستينيَّات، وتنامي نفوذ الولايات المتَّحدة وبريطانيا في المنطقة وغياب مصر عن أداء دَورها المحوري وتشرذم الدوَل العربيَّة دونما تحقيق وحدة سياسيَّة أو سوق اقتصاديَّة أو حلف عسكري، وغاب العمل العربي المشترك وتبعثرت مقدَّرات الأُمَّة العربيَّة في ظلِّ وجود أنظمة سياسيَّة وقعت تحت نفوذ قوى دوليَّة متوحِّشة، ومن حاول تشكيل قراره السيادي المستقل وتحقيق تنمية وطنيَّة في بلده وُرِّط في أزمات ثمَّ عزلة دوليَّة وحروب، كُلُّ ذلك ضِمْن مُخطَّط إمبريالي أراد أن يضع الوطن العربي ضعيفًا ومقسَّمًا ضمانًا لأمن «إسرائيل» ومحاولة تنفيذ مشاريع استعماريَّة متنوِّعة، ولم يكن ممكنًا الخروج من هذا الواقع المرير في ظلِّ نظام قطبي جائر والمشاهد قد أثبتت تلك الحقائق.
اليوم هناك متغيِّرات ومواجهات عالميَّة ضِمْن سياقات المواجهة في أوكرانيا بين الشرق والغرب، هذه المواجهة القاصمة التي جنّدت فيها طاقات عالميَّة وما زالت محتدمة يدرك فيها المحوران ما تعنيه نهاية الحرب في حركة التاريخ، كما أنَّ الصعود الاقتصادي الصيني اللافت يقدِّم عنصرًا قويًّا في انطلاقة الشرق، ومن خلال هذه المعطيات فإنَّ التغيير قادم لا محالة، وبات العالم على مشارف ولادة نظام عالمي جديد لن يتأخر كثيرًا. ولا شكَّ أنَّ هذه الأحداث تُلقي بظلالها على العالم قاطبة بمختلف أقاليمه، وبات على العرب استثمار هذه السانحة التاريخيَّة لإعادة إحياء المشروع العربي بالتعاون مع القوى الإقليميَّة في المنطقة والقوى الصاعدة لحجز مكان لهم في خريطة العالم الجديد.
خميس بن عبيد القطيطي