شاء الله وما قدّر فعل، ولا اعتراض على حكم الله تبارك وتعالى، لا أبالغ إن قلت إن عيوني تدمع وأنا أسطر هذه الكلمات لأنها تأخذني إلى تسعينيات القرن الماضي، تحديداً العام 1992 أيام مسرحية سيف العرب، عام معرفتي بشخصية كويتية وفية محبّة، صادقة محترمة وفيّة، مؤمنة ومحتسبة، رحلت عنّا جسداً، لكن لا يمكن أن أنسى أطيب قلب وأوفى أخ وصديق، الفنان الكبير أحمد جوهر.
هكذا هي الدنيا دائماً ما تضعنا في مفترق طرق، تمتحن صبرنا، تحبطنا وتشد من أزرنا، وما بينهما ذاك الخيط الرفيع الذي ينقطع مع كل فقدان لأشخاص سكنت قلوبنا، فكم كنت أتمنى أن أسرد مآثر صديقي وأخي الراحل وهو على قيد الحياة على أن أذكرها وهو رحل عنّا، لكن ماذا نقول؟ “إنا لله وإنا إليه راجعون”، عزاؤنا أن يسكن الدار الذي يستحق مع العليين.
ما يعتصر قلبي أنني كنت معه قبل أيام قليلة من سفره إلى لندن لتلقي العلاج، وطلب مني أكلة عراقية ووعدته بها، واتفقنا أن نسافر معاً إلى إحدى الدول، لكن لم حال الموت بينه وبين تنفيذ هذا الوعد، مع شديد الأسف، لكن إن الموت حق علينا، وعنده تقف كل الاعتبارات، لكن من غير الممكن ألا يشكل غيابه عني فراغاً كبيراً ويسبب الألم الكثير.
لمن لا يعلم، إن الراحل أحمد جوهر، أو كما كنت أحب أن أناديه “أبو جوهر”، رحل عن عمر يناهز الـ 65 عاماً، بعد صراع مع المرض، وهو فنان كويتي تولد العام 1958، كاتب تلفزيوني ومخرج مسرحي مهم، لكن ظلمته الحياة، وظلمته الكويت التي لم تقدّر أعماله القيّمة والجديرة بأن تكون أيقونات تدرّس في الجامعات والمعاهد ذات الصلة، فهل أعتب أم ألوم أم أغضب؟ لأن الراحل أفضل من عُني بالتراث وبخاصة تراث الكويت والخليج، وخاض غمار إنتاج هذه الأعمال في تسعينيات القرن الماضي، ماذا أذكر لأذكر، هل أذكر مسلسله “طش ورش”، أو “طير الخير”، و”مسافر بلا هوية”، و”الأخطبوط”، والمعزب، و”العضب”، كما قدم للمسرح عدداً كبيراً من المسرحيات أبرزها “محاكمة علي بابا” و”سيف العرب” و”استجواب” و”مافي هالبلد إلا هالولد”، ولم ينسَ الأطفال أيضاً، فكان له الجزء الثاني من “افتح يا سمسم”.
إن كنت أنا على الصعيد الشخصي، قد خسرت أخاً وصديقاً، فالكويت خسرت قامة كبيرة، مهما قدمت له الآن من تكريمات، لن يشفع لها ظلمه في حياته، يستحق أن يكون اسمه كبيراً على أحد مسارح الكويت أو دورها التعليمية يستحق من الكويت الكثير لأنه قدّم لها الكثير، لكن أصبح التكريم والاهتمام يتعلق بالفن الهابط إن جاز التعبير، إن أتت فنانة ما لا عجب أن نجد الإعلانات عنها في كل مكان وهذا برسم وزارة الإعلام الكويتية، إن لم يتم إنصاف أبناء الكويت في عزهم فهذه مصيبة كبيرة.
أخي وحبيبي أبو جوهر، إن لم تحصد التكريم ممن كان يجب أن يكون، فثق أنت في قلب كل كويتي، في قلب كل عربي، في قلب كل شخص عرفك عن قُرب أو رأى أعمالك التي كنت تنجزها بصمير المحب والعاشق لمهنته، قلمك لمن لا يعرفك، يُضاهي أكبر الكتّاب، لا أقول ذلك إلا لأني لمست ذلك عن قرب، سنوات طويلة ونحن أصدقاء ورفاق في بلدٍ واحد وكما أنا أحد عشّاق المسرح، زاد حبي له بسببك، وزاد حبي للقراءة وللكتابة بسببك، فأحتاج إلى الوقت الطويل لأستوعب فقدك وخسارتك، لأني ورغم إيماني مقتنع بحق الله تبارك وتعالى، لكن قلبي لا يحتمل أنك غير موجود وأنك رحلت وهذه المرة بلا عودة.
فإن ذكرت مآثرك، وأنت أشد المنتقدين لتدهور أحوال المسرح والدراما العربية، ربما لهذا السبب عزف الكثيرون عن تكريمك، فأنت الذي كنت تطالب بالأعمال الهادفة وتشدد على ضرورة رفع الوعي لما تراه كنت من انحطاط أخلاقي في الأعمال الدرامية، وكنت ترى إن لم يتم احترام العقل العربي والمشاهد فعلى الدنيا السلام، لقد قضيت أربع عقود في عشق حب الفن الكويتي وقد تركت علامة بارزة في الفن الهادف الذي يحمل رسالة وهذه كانت رسالتك في حياتك.
الراحل، بدأ من الصفر وطوّر نفسه بنفسه وتشجيع المقربين منه، كان يُتّهم بنقده اللاذع، لكن دائماً ما كان جوابه “لا يوجد عمل بلا أخطاء، والنقد مباح للارتقاء”، لم يُخفِ يوماً كيف بدأ مسيرته وكيف اكتشف نفسه ككاتب تلفزيوني أو مؤلف بعد العديد من التجارب في هذا المجال، فكان يقرأ النصوص التي تقدم له رغم أنها جميلة وبها حبكة درامية إلى ان فيها الكثير من الأخطاء من هذا المنطلق يضطر إلى تعديل النص وأحياناً يعيد صياغة النص من جديد ويحذف بعض المشاهد الغير لائقة ويضيف مشاهد وتحصل هذه الأعمال على نجاح كبير وترسخ في أذهان الجمهور مثل مسلسل زمان الأسكافي و مسلسل دلق سهيل والعديد من الأعمال التي قام بتعديلها، وحين العرض يتم عرض اسم الكاتب الأساسي، لكن لم يشكل ذلك أي مشكلة لديه لسعة قلبه الكبير، إنما فتح أعينه على قدرته على الرقص مع الكلمات وإضافة الكثير من الحوارات والنصوص والسيناريو، فكان من أهم الأقلام التي عرفت وحصد في هذا المضمار عشرات الجوائز والتكريمات، إلى جانب الإقبال الكبير على أعماله.
صديقي وأخي وحبيبي، الراحل أبو جوهر، لقد كنت خير من كتب وأخرج ونقد وصادق وأخلص لكل من حوله، لا غرابة في ذلك وهو الذي رسم لنفسه خطاً متفرداً عن غيره تميز من خلال الكتابة والتمثيل والانتاج حيث عاصر جيل الرواد وجيل الشباب، أستطيع القول إنك بكل صدق مخضرم، لقد كنت مهتم بطرح عملك كل عام في شهر رمضان المبارك، وهذه ميزة إضافية إلى أخلاقك العالية، فكنت ترى أن شهر رمضان هو تراث وهو شهر فضيل ولابد من احترامه للأعمال التي تقدم خصوصاً ان الناس تكون في حالة تعبد من صيام وصلاة وقراءة القرآن لابد أن تكون أعمالاً محترمة لا أعمال هشك بشك، والعمل التراثي لابد أن يكون في شهر رمضان كما ليس شرطاً أن تكون من أحمد جوهر لأنها مرغوبة في رمضان والأعمال التراثية التي نقدمها لتوعية الجيل الجديد حتى يعرفوا ماضيهم وعاداتهم وتقاليدهم لأن أغلب هذه العادات تم مسحها الآن وإرضاء الناس غاية لا تدرك حيث لا تستطيع أن تجبر الناس ان يروا تراثاً لكن يفضل ان يروا مثل هذه الأعمال.
ماذا أقول لقد خسرناك جميعاً، خسرتك الكويت والعالم العربي خسرك محبوك وأصدقائك، لقد تركت ألماً في قلبي، لكن رحمة الله أوسع من كل القلوب وأنت معه الآن، المؤكد أننا سنفتقد أعمالك في شهر رمضان، وسيفتقدك المسرح، وسيفتقدك العاملون معك من فريقك، ستفتقدك أسرتك ومحبيك وأهلك، سنفتقدك جميعاً، ولا يسعني هنا إلا أن أعزي الأمة العربية وأعزي الكويت وأشرة الراحل وذويه ومحبيه، وأشد على أيديهم، وأقول إنا معهم ونحن امتداد للقلب الكبير والأخ الطيب والصديق الوفي، أبو جوهر، سنحافظ على ذكراه وتذكره ولم ننساه ما حيينا، على أن يدعو لنا من مكانه بالرحمة ويدعو بهذه الأمة بأن تهتدي، وكما بدأت أختم، شاء الله وما قدّر فعل، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.