يُمثِّل الوقف اليوم أحد أهم أعمدة الاقتصاد المستدام، ونُمو حركة الاستثمار فيه، وارتباط الوقف بالشريعة الإسلاميَّة ضَمن له الاستدامة في المنتج الوقفي، والقوَّة في الخيارات، والتنوُّع في الفرص والمصارف الوقفيَّة، كما أنَّ طرح أنواع مختلفة من الوقف في التاريخ الإسلامي أسْهمَ بشكلٍ كبير في رفع سقف التوقُّعات الاقتصاديَّة والاستثماريَّة والاجتماعيَّة منه في المُجتمعات الإسلاميَّة. وفي سلطنة عُمان وعلى مرِّ تأريخها، شكَّل الوقف حضورًا فاعلًا في مَسيرة بناء الدولة، وجسَّدت نماذج الوقف في حياة المُجتمع العُماني صورة تكامليَّة تتناغم مع أبجديَّات التحوُّل، ولامست اهتمامات الإنسان وسَعَتْ إلى رفع مستوى المعيشة لدَيْه في ظلِّ معطيات كُلِّ مرحلة، منطلقةً من مبادئ التعاون والتعاضد والتكافل الاجتماعي، كما أنَّها وفَّرت له موجِّهات اقتصاديَّة واجتماعيَّة ضمنت قدرته على الاستفادة من الوقف في الإصلاح الأُسري والاجتماعي وترسيخ الوعي وإحداث نقلة نوعيَّة في المُجتمع. وقد رُصدت أنواع عديدة من الوقف في سلطنة عُمان تزيد على (50) نوعًا مارسها العُمانيون في تأريخهم الحضاري، وهي أنماط ونماذج وقفيَّة لازمت الإنسان العُماني في مختلف مواقفه وظروفه، وشملت مختلف المجالات الحياتيَّة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والدينيَّة والثقافيَّة والفكريَّة والتعليميَّة والأمنيَّة وغيرها ممَّا لا يسع المجال لذكر تفاصيله، ليؤدِّي الوقف في تشعُّبه واتساعه، وعُمقه وتنوُّعه، دَورًا محوريًّا في نهضة المُجتمع وتنمية موارده الطبيعيَّة والاستثمار فيها وضمان خلق فرص أوسع في الاعتماد على النَّفْس وبناء المشروعات الاقتصاديَّة والخدميَّة والإنتاجيَّة الداعمة لهم مستقبلًا، وكان لحضور ثقافة الوقف في البناء التنموي لسلطنة عُمان أثَره الإيجابي في سَعيِ الحكومة الرشيدة إلى إعادة هيكلة الوقف وتأطيره ورسْم معالمه وتجديد بنيته وتعظيم حضوره الواسع في ثقافة الفرد والمُجتمع والمؤسَّسات، لتصبح ثقافة ذوقيَّة، وقِيمة اقتصاديَّة مضافة تلازم إنسان اليوم، وتعبِّر عن الروح العالية التي يقرأ فيها منظومة الوقف؛ فهو بما يحمله من خصائص وسِمات في تحقيق غايات الآخرين والوقوف معهم ومساعدتهم والإيمان بقيمة المشتركات بينهم، فهو بذلك مرحلة صياغة الذات وتجديد الممارسة وتأصيل وازع الضمير، ليثبت خلالها الواقف جدارته في الوفاء بحقِّ الوطن والتخلِّي عن الأنانيَّة والفردانيَّة لتحقيق فرص أكبر للإنتاجيَّة، وتأكيد مبدأ الإيثار وتحقيق معايير الالتزام، إنَّه نقل الفرد من البحث عن الذاتيَّة إلى صناعة إنسان منتج فاعل مناضل من أجل الآخرين وفي سبيل تحقيق سعادتهم، وبالتَّالي تصبح ثقافة الوقف أدقَّ تعبير للمواطن الإنسان المنتج، إذ يتخلَّى فيه الفرد عن فوقيَّته ليتماهَى مع كيان المُجتمع قلبه وعقله، فيقدِّم مصلحة الآخرين على نفسه، وينزِّهها عن كُلِّ أشكال الأنانيَّة والأثَرة، وينزل من أبراج السُّلطة والفوقيَّة ليشارك المُجتمع أهدافه وغاياته، وهو بما يقدِّمه للمواطن الآخر من عطاء مستدام يتجاوز السُّمعة والشُّهرة والمَنَّ والأذى والرِّياء ليقدِّمه للآخرين عن طِيب خاطر ونفْس رضيَّة وحسٍّ مسؤول وإرادة واعية وعزيمة صادقة، قربةً لله ورغبةً في عفوه وجَنَّته ورضاه.
لقد رافق البنية المؤسَّسيَّة والتنظيميَّة والهيكليَّة المعنيَّة بإدارة الوقف وتطويره بما يتناغم مع طبيعة التحوُّل والظروف الاقتصاديَّة والاحتياج المُجتمعي والأُسري والشخصيَّة، اكتمال البنية التشريعيَّة التي تُوِّجت بالمرسوم السُّلطاني رقم (65/2000) بإصدار قانون الوقف، والتعديلات التي أجريت على القانون منذ إصداره والقرارات الوزاريَّة المرتبطة به. وبِدَوْرها مثَّلت التجارب الوقفيَّة الوطنيَّة التي بدأت تعمل في إثراء هذه المنظومة، ومنها ـ على سبيل المثال ـ (وقف الإمام جابر بن زيد، ومؤسَّسة الوقف في التعليم «سراج»، وغيرها) نماذج عمليَّة تؤسِّس لنُمو منظومة الوقف ورفع الوعي المُجتمعي بشأنها، وتعزيز مسار الاستدامة والتنوُّع والضبطيَّة والاحترافيَّة فيها، ليؤدِّي ميثاق الحوكمة هو الآخر دَورًا محوريًّا في خلق المرونة في العمليَّات الوقفيَّة التنظيميَّة والماليَّة والإداريَّة وتنوُّع الفرص التمويليَّة وتعدُّدها، والاستفادة من المبادرات الوطنيَّة للأفراد والشركات وتوجيهها لصالح منظومة الوقف، وخلق مساحة الخيريَّة وتلمُّس الفضل في وقف الأفضل من الأموال والموارد والممتلكات، لِيُشكِّل قِيمة مضافة في البناء المؤسَّسي الوقفي القادر على صناعة واقعه بنفسه وبناء مرحلة متقدِّمة من الوعي الوقفي، كما يضْمن أنَّ الجهود الوقفيَّة في سلطنة عُمان تجسِّد الهُوِيَّة الوقفيَّة الإسلاميَّة في شموليَّتها واتساعها، وتتناغم مع طبيعة الأوقاف ذاتها وغاياتها الإنسانيَّة ودلالاتها الأخلاقيَّة، كما تستجيب الموجِّهات الوقفيَّة التي تعمل عليها مع مسارات التطوير والتجارب الدوليَّة والإقليميَّة والإسلاميَّة العاملة في هذا الشأن، الأمْرُ الذي يمكن أن يُشكِّلَ مرحلةً فاصلة في تعظيم دَوْر الوقف في سلطنة عُمان في تحقيق مستهدفات رؤية «عُمان 2040» ذات الصلة، وإعادة تقييم الممارسة الوقفيَّة الحاصلة وضبطها وفق معايير الجودة والكفاءة، بما يؤسِّس لمبادرات أوسع وشراكات أقوى، وحراك وقفي نشط معزَّز بمحدِّدات شرعيَّة، تعكس طبيعة الحالة العُمانيَّة وخصوصيتها، وجوهر المبادئ والأخلاق التي أصَّلت لثقافة الوقف، وتتناغم مع التوجُّهات الاقتصاديَّة، وخطط الاستدامة الماليَّة، والتوجُّهات الداعمة للتنويع في مصادر الدخل، وبما يستوعب البنى الاقتصاديَّة والتشريعات والقوانين النافذة في هذا الإطار، وهو ما نعتقد بأنَّ التعامل معه في ظلِّ أصالة الوقف في سلطنة عُمان سيكُونُ على درجة كبيرة من الجاهزيَّة والموثوقيَّة والاحتواء، وسيلقى مزيدًا من المتابعة والتقييم والدعم والاهتمام من قِبل مواطن اليوم.
على أنَّ الممارسة الوقفيَّة السائدة في المُجتمع، ما زالت تقرأ المنظومة الوقفيَّة في وقف المساجد والجوامع، الأمْرُ الذي يستدعي اليوم دَورًا أكبر لبرامج الإعلام والتثقيف والوعي في ترسيخ حسِّ التغيير في السلوك الوقفي، ويصبح التحدِّي الأكبر ليس في تنوُّع مصادر الوقف وعناصره ومصارفه، وتعدُّد وتشعُّب مجالاته؛ بل في توجيه الأنظار إلى الأنواع المختلفة من الوقوف بشكلٍ يُحقِّق معادلة التكامل الوقفي الاجتماعي، ويعمل على رفع درجة الوعي بأهمِّية الوقف خارج إطار منظومة المساجد والجوامع، وبما يرتبط بحاجة المُجتمع وأولويَّاته وظروفه والغايات الكبرى التي تضْمن الشموليَّة والاتساع والعدالة في الاستفادة من هذه الموارد وتعميم الاستفادة منها لكُلِّ شرائح المُجتمع، هذا الأمْرُ يستدعي جرعات تثقيفيَّة في البناء الفكري الوقفي المتوازن، والقناعات المتولِّدة لدى أبناء المُجتمع من أصحاب المال ورجال الأعمال والأيادي البيضاء ومن أعطاهم الله بسطة في المال والغنى والرزق والواقفين والداعمين وأصحاب الشركات ومؤسَّسات القِطاع الخاصِّ والقِطاع العائلي، بشكلٍ يستوعب المفردات والأفكار المُجتمعيَّة التي تتَّجه إلى التنويع الوقفي والتوسُّع في الخيارات الوقفيَّة، بحيث يتَّجه الاهتمام بوقف بناء المساجد والجوامع، إلى أنواع الوقف الأخرى مشاطرين أفراد المُجتمع من الأُسر المُعْسرة وأصحاب الدخل المحدود والمسرَّحين من أعمالهم والعائلين لأكثر من باحث عن عمل، والمدانين في قضايا ترتبط بالإفلاس وعدم القدرة على سداد التزاماتهم الماليَّة الناتجة عن ظروف خارجة عن الإرادة، وهو دَوْر يقع على العلماء والفقهاء والإعلام وذوي الخبرة في ترقية الخِطاب الوقفي والتوسُّع في دلائله الفقهيَّة والدينيَّة، بالشَّكل الذي يضْمن حفظ الشعور باستحقاقات الأجر والثواب من الله عزَّ وجلَّ الذي يرافق الواقف في وقفه للمساجد والجوامع، وبأنَّ هذا الفعل لا ينحصر على المساجد والجوامع، بل يعمُّ جميع أنواع الوقف الأخرى التي هي بحاجة ماسَّة اليوم إلى أن تجد من يحافظ على نُموِّها ويعمل على تبنِّيها، إذ يستوى في الفضل من وقف لمسجد وجامع، مع مَن وقف لمدرسة ولإعانة أُسر محتاجة أو بناء مسكن لها أو توفير احتياجاتهم من الغذاء والمستلزمات، وهي مسألة نعتقد بأهمِّية تكثيف الجهود الوطنيَّة والأهليَّة والدينيَّة نحْوَها وضمان وعي المواطن بها بما لا يفقد المُجتمع خصوصيَّته، ويستوعب كُلَّ عمليات التطوير والتجديد في المنظومة الوقفيَّة، وبالتَّالي مراجعة كُلِّ الأطروحات أو الفتاوى أو المفاهيم وإعادة التجديد فيها بما لا يؤثِّر على مسلَّمات الوقف الإسلامي ويحفظ لمنظومة الوقف للمساجد خصوصيَّتها وحضورها.
من هنا فإنَّ إسقاط الوقف كأحد أهمِّ الخيارات الاستراتيجيَّة البديلة للاستدامة الاقتصاديَّة وتنشيط حركة التطوير وفضاءات التنمية في مواجهة تداعيات الحالة الاقتصاديَّة وما نتج عنها من تحدِّيات وصعوبات أسْهمت في اتساع أعداد الأُسر المُعْسرة ومحدودة الدخل وغيرها من الأُسر التي باتت تُواجه خطر الفقر، ناهيك عن الأُسر الواقعة ضِمن منظومة الضمان الاجتماعي. ولأنَّ الوقف بطبيعته يتَّسم بالاستدامة والاستمراريَّة، لذلك يجب التعامل معه في إطار المرونة والتغيير، والتجديد والتحديث والمراجعة والتطوير والتحسين والجودة، والتي تقف على طبيعة الاحتياج الذي تعيشه الأُسر على اختلاف الأزمنة والأمكنة، والمواسم والمواقف، بما يؤكد على أهمِّية القراءة الاستشرافيَّة لمنظومة الوقف المنتج في سلطنة عُمان، والمتناغم مع أولويَّات التطوير والمجسِّد لنهج البناء والتجديد، والمُعزِّز لفرص الإنتاجيَّة وصناعة البدائل وإنتاج الحلول للواقع الاجتماعي والاقتصادي المعايش، فإنَّ منظومة الوقف بذلك تُمثِّل خيارًا استراتيجيًّا مستدامًا في تنشيط الحركة الاقتصاديَّة والتجاريَّة، ومساحة أمان يشعر من خلالها الواقف بأنَّه قدَّم لمُجتمعه جزءًا من استحقاقات وجوده في هذه الحياة والتي تتجلَّى في عبادة الله وإعمار الكون بصنوف الطاعات والقربات والصدقات والتي يُشكِّل الوقف أبرز معالمها بما يحمله من قِيمة مضافة في حياة المُجتمعات.
على أنَّ تغيير القناعات وتصحيح المفاهيم الخاطئة حوْلَ الوقف وتغيير النظرة الضيقة التي تحجمه في نطاق المسجد وحدود الجامع أولويَّة يجب أن تحظى باهتمام السُّلطات التشريعيَّة والتنظيميَّة والقضائيَّة بما تتيحه من فرص لتعزيز المنظومة الوقفيَّة وتمكينها من إثبات بصمة حضورها في إعادة هيكلة الواقع، وما تعنيه من مستهدفات يجب أن تعمل على تحقيقها في إطار بناء الوعي الوقفي والاجتماعي، وإعادة توجيه الخِطاب الديني والفقهي الموجِّه للوقف، وترقية دَوْر الإعلام والتعليم، وتوظيف النماذج الإيجابيَّة في الوقف خارج المسجد والجامع لتعبِّر عن ذاتها وتخبر عن إنجازاتها، بما تتطلبه من مرونة في التشريعات وإنتاجيَّة القوانين وكفاءتها في قدرتها على التعاطي مع المستجدَّات الوقفيَّة واتساعها في القِطاعات الاجتماعيَّة والثقافية والفكريَّة والإعلاميَّة والتعليميَّة وحالات الطوارئ والأزمات وأحكام التنفيذ في المحاكم وغيرها. وعليه، يبقى البحث عن استدامة هذه الموارد وتعظيم منافعها وتنوُّع حضورها في التعاطي الواعي مع الظروف الماليَّة أولويَّة يجب العمل عليها، فلم تَعُد المسألة الوقفيَّة ترفًا اقتصاديًّا؛ بل خيار أصيل لتحقيق الاستدامة والتنويع الاقتصادي ورسم ملامح القوَّة لمنظومة الحماية الاجتماعيَّة، وتعظيم دَوْر المُجتمع في مساعدة الدولة في الوقوف على هذه الحالات، لذلك لا ينبغي أن تكونَ سلوكًا مزاجيًّا أو ضرورة وقتيَّة تطلبها الواقع المالي الدولي، ولم يكن المسار الوقفي في الحياة الاقتصاديَّة والعامَّة العُمانيَّة المعاصرة حالة وقتيَّة أو سلوكًا محدودًا بفترة معيَّنة أو وليد اللحظة، ولا هو بفعل قرار آني أو ظرفي أو نتيجة التحوُّلات الاقتصاديَّة الوطنيَّة الإقليميَّة والدوليَّة الأخيرة، بل هو خيار استراتيجي، يستدعي البحث عن ممكنات نجاحه عَبْر تعزيز التشريعات الماليَّة الداعمة للوقف من جهة، وتصحيح المفاهيم والتوجُّهات الفردية والمُجتمعيَّة حوْلَ مفهوم الوقف، والمصارف التي يجب أن يتَّجه إليها والأولويَّات التي يجب أن يحققها.
أخيرًا، هل ستشهد المرحلة المقبلة إعادة إنتاج ثقافة الوقف في الواقع الاجتماعي بالطريقة التي تلتزم فيها المعايير والمرتكزات الشرعيَّة والتي جاء قانون الوقف لتأكيدها، ويضيف إليها جانب المرونة والصلاحيَّات والتمكين والتنويع، في ظلِّ إعادة ترتيب الأولويَّات ومنطق تصحيح المفاهيم، وتعزيز توجيه الخِطاب الديني لاستنطاق القِيَم الأخلاقيَّة نحْوَ الوقف، واستنهاض حسِّ التغيير في الفقه الوقفي، ورفع سقف المنافسة والمحفِّزات للذين يوقفون أموالهم خارج منظومة المساجد والجوامع؟
د.رجب بن علي العويسي