إن طاقة سورة طه العاطفية كبيرة جداً، تأخذ قارئها عبر واحدة من أكثر الملاحم آسراً في التاريخ النبوي، نجد الخوف، ثم الأمل، ثم حياة الامتياز والوصول، يليها حياة المنفى، ثم الشعور بالضعف التام والعزم أمام الله تبارك وتعالى، يليه البركة والاستقرار والامتنان.
هي واحدة من نداءات الفصل العديدة، هي إدراك التجارب البشرية المعاكسة: الخيانة والولاء، والعداء وتأكيد الثقة (أي السحرة)، والخوف والحب، والشك والإيمان، يحدد الله فعل النعمة الإلهية هذا – إعادة موسى عليه السلام إلى أمه البيولوجية – على أنه نعمة لوالدة موسى، كما يمكن العثور على قصة حياة موسى، منذ ولادته وحتى الخروج الأخير من مصر، في العديد من مراحل القرآن. موسى ظهر 136 مرة في ثلاثة وثلاثين سورة من القرآن، ومع ذلك، فإن سورة طه هي من تخبرنا بقصة الحب: محبة الله الإلهية الرقيقة لموسى عليه السلام وإخلاص موسى لله وتوقه له، في تحفة أدبية تجمع بين البلاغة والأدب.
قال تعالى في كتابه العزيز: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيرا).
من هنا، إن القرآن الكريم نمط من القول غير مسبوق، بما له من سحر التأثير وروعة البيان، وكمال الإعجاز، وبما تفرد به من بيان ونظم كان سر لإعجازه، من التصوير الحسي المتسلسل إلى التخيل الحسي، والأساليب الإنشائية وأسرارها البلاغية، وصولاً إلى الأسلوب البلاغي في القرآن الكريم، كمثال، على كل ذلك، كما جاء في قوله تعالى: (الذي خلق سبع سماوات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور)، وقوله تعالى: (ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسأً وهو حسير)، جاء أسلوب الخبر ما احتمل الصدق والكذب لذاته” فالأخبار الصادقة المقطوع بصدقها، أخبار الله تبارك تعالى ورسله، أما الأخبار الواجبة التصديق فهي أخبار النبيين في دعوى النبوة، وهناك البديهيات المقطوع بصدقها أو كذبها.
بالتالي، إن مسألة البلاغة في القرآن تكتسي أهمية قصوى، على مستوى الشكل ثم على مستوى المضمون، فإنها على مستوى الشكل تساعد بلاغة كتاب الله تعالى في جمالية تذوق الآيات واقتفاء آثارها الجمالية والفنية، أما على مستوى المضمون، فإن بلاغة القرآن الكريم تؤكد على صدق الرسول صلة الله عليه وآله وسلم، وعظمة هذا القرآن الكريم، وإعجازه في كل ما حدثنا عنه، بالإضافة الى البلاغة تساهم عملية المحاججة لغير المؤمنين وغير المسلمين، ثم إقناعهم بصحة هذه التعاليم الدينية، بالإضافة إلى ذلك تفضي البلاغة بكيفية غيرة مباشرة، الى تهذيب الذوق اللغوي والفني للمسلم، خاصة إذا واظب على قراءة المصحف الشريف وتدبير آياته في الحياة الدنيا، كما تعينه على انتقاء الكلام المناسب للموقف المناسب، ثم تساعد على تنمية أسلوب الكتابة والتعبير الجميل والمتناغم والمتناسق، ثم تذوق الأحاديث النبوية الشريفة وكتب الأدب وغيرها.
وكذلك، البديع فن من فنون البلاغة العربيّة ورد في القرآن الكريم كثيراً، في سوره وآياته، وخاصةً السور القصار من جزء عمّ وجزء تبارك، فالعرب أصحاب بيان، وفصاحة فاقت طوق الشعوب التي تماثلهم آنذاك، فلا غرو أنهم يعرفون هذا الفن، ومشكلة البحث تكمن في عدم فهم دلالات هذا الفن، أي ما وراء المعاني، كما أن الدلالات البلاغية في القرآن الكريم كثيرة جداً، ولا يمكن فهم هذه الدلالات إلا بإتقان فنون البلاغة العربية وخاصة فن البديع، وأن هذه الدلالات البديعية هي التي تكشف مفهوم الخطاب القرآني، وأن تحليل الدلالات يفيد أؤلئك الذين تخصصوا في البلاغة القرآنيّة، وتفسير القرآن الكريم؛ فهي تساعد طالب العلم والتخصص على فهم أساليب القرآن الكريم المختلفة والتي يستكشفها كل طالب علم في كتابٍ كريم يضم كل شيء.
ومن هذه المقدمة المقتضبة نكمل ما تيسر من تفسير السورة المباركة، سورة طه، جاء في كتاب الله العزيز: (خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا يوم يُنفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذٍ زرقا يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعاً صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا يومئذٍ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما).
في تفسير الجلالين، خالدين فيه أي عذاب الوزر، وساء لهم يوم القيامة حملا أي تمييز مفسر للضمير في ساء والمخصوص بالذم محذوف تقديره وزرهم واللام للبيان ويبدل من يوم القيامة، ويوم ينفخ في الصور أي النفخة الثانية حين يحشر الكافرون عيونهم مع سواد وجوههم، يتسارون من الليالي بأيامها، يستقلون لبثهم في الدنيا جدا بما يعاينونه في الآخرة من أهوالها، حتى الجبال يفتتها الله كالرمل السائل ثم يطيرها بالرياح، فتصبح منبسطة متساوية، لا انخفاض فيها ولا ارتفاع، يبعثون من قبورهم من القبور بصوت سيدنا إسرافيل يهمسون ولا تسمع إلا أصوات أقدامهم وهم متعبين، فلا تنفع شفاعة أحد إلا من أذن له الرحمن بأن يقول لا إله إلا الله، يعلم ما في داخلهم من أمور الدنيا وهم لا يعلمون ذلك.
وفي تفسير سيد قطب، ويرسم للمعرضين عن هذا الذكر – ويسميهم المجرمين – مشهداً في يوم القيامة، فهؤلاء المجرمون يحملون أثقالهم كما يحمل المسافر أحماله، ويا لسوئها من أحمال! فإذا نفخ في البوق للتجمع فالمجرمون يحشرون زرق الوجوه من الكدر والغم، يتخافتون بينهم بالحديث، لا يرفعون به صوتا من الرعب والهول، ومن الرهبة المخيمة على ساحة الحشر، وفيم يتخافتون؟ إنهم يحدسون عما قضوا على الأرض من أيام، وقد تضاءلت الحياة الدنيا في حسهم، وقصرت أيامها في مشاعرهم، فليست في حسهم سوى أيام قلائل: (إن لبثتم إلا عشرا) فأما أرشدهم وأصوبهم رأيا فيحسونها أقصر وأقصر: (إن لبثتم إلا يوما)، وهكذا تنزوي تلك الأعمار التي عاشوها على الأرض وتنطوي، ويتضاءل متاع الحياة وهموم الحياة، ويبدو ذلك كله فترة وجيزة في الزمان، وشيئا ضئيلا في يوم القيامة، فما قيمة عشر ليال ولو حفلت باللذائذ كلها وبالمتاع؟ وما قيمة ليلة ولو كانت دقائقها ولحظاتها مليئة بالسعادة والمسرة، ما قيمة هذه أو تلك إلى جانب الآماد التي لا نهاية لها، والتي تنتظرهم بعد الحشر وتمتد بهم بلا انقطاع.
ويتجلى المشهد الرهيب فإذا الجبال الراسية الراسخة قد نسفت نسفا، وإذا هي قاع بعد ارتفاع، قاع صفصف خال من كل نتوء ومن كل اعوجاج، فلقد سويت الأرض فلا علو فيها ولا انخفاض، وكأنما تسكن العاصفة بعد ذلك النسف والتسوية، وتنصت الجموع المحشودة المحشورة، وتخفت كل حركة وكل نأمة، ويستمعون الداعي إلى الموقف فيتبعون توجيهه كالقطيع صامتين مستسلمين، لا يتلفتون ولا يتخلفون – وقد كانوا يدعون إلى الهدى فيتخلفون ويعرضون – ويعبر عن استسلامهم بأنهم (يتبعون الداعي لا عوج له) تنسيقا لمشهد القلوب والأجسام مع مشهد الجبال التي لا عوج فيها ولا نتوء.
وهكذا يخيم الجلال على الموقف كله، وتغمر الساحة التي لا يحدها البصر رهبة وصمت وخشوع، فالكلام همس، والسؤال تخافت، والخشوع ضاف، والوجوه عانية، وجلال الحي القيوم يغمر النفوس بالجلال الرزين، ولا شفاعة إلا لمن ارتضى الله قوله، والعلم كله لله، وهم لا يحيطون به علما، والظالمون يحملون ظلمهم فيلقون الخيبة، والذين آمنوا مطمئنون لا يخشون ظلما في الحساب ولا هضما لما عملوا من صالحات، إنه الجلال، يغمر الجو كله ويغشاه، في حضرة الرحمن.
وهكذا إن مشهد يوم القيامة المهول الجلل، لهو كافٍ أن يحدث زلزالاً في قلب كل مؤمن، طالما أن هناك وقت، لنستثمره في رضى الله تبارك وتعالى، لنزرع الخير وننشر المحبة والسلام، فهذه الحياة قصيرة، رحلة فانية إلى دار الحق والآخرة، فمن ثقلت موازينه سيرى كل الخيرات، ومن اختار الشر لبئس ما ينتظره، اللهم اجعلنا من أهل الخير وناشريه.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.