كلما جلستُ على مقعد الطائرة تمنيتُ لو أن أبي في المقعد المجاور يحرق المسافات بتصفُّح الجريدة.
وكلما أسرعتُ بي سيارة الأجرة وأنا أغادر هذا المطار وذاك تمنيتُ لو أن أبي هو الذي يجلس بجانب سائق سيارة الأجرة ليسائله عن الجو ومواسم المطر.
وعن شجر الشوارع والبنايات العالية.
وعن القائد المسؤول عن كل هذه الأناقة في نقل المدن من التعبير الجغرافي إلى لوحة آسرة للألباب.
وكلما شاقني نهرٌ ينساب في ديمة من العصافير أو جسرٌ يمتد بين ظل وظل أو بحيرة تتراقص في غموض زرقتها البجعات البيضاء حجزتُ مقعداً ضَجِراً من تخمة الجمال تناساه واضعوه بجوار الضفاف فرأيتُ أنه المقعد الأنسب لجلوس أبي ليفيض شعراً ، وهو يتفيأ الشجر الثَّمِل الذي ينثر وريقاته فوق رؤوس العابرين.
وكنتُ سأراهن على تفوُّق أبي في كتابة الموشحات وسيهزم الأندلسيين في عقر دورهم المغزولة “بزمان الوصل وجادك الغيث”.
وستتراسل أهداب أبي وخيوط القمر لأجل تشكُّل قرطبة أخرى في القصائد ، وطليطلة أخرى في السجع ، وغرناطة أخرى في الموشحات الممجدة لصقر قريش ودولة بني الأغلب وقصر الحمراء.
ولامْتزجتْ في يراع أبي مياه “الدانوب والراين والسين” ونهر “سنجل” الأندلسي بزلال الوادي السمائلي وكوثر الوادي الأبيض وعقيق وادي العق.
وبينما تتلاحق كل هذه المشاهد وأنا أتقصَّى “واتسب الجروبات” العمانية التي تتهادى تصميماً فيلميَّاً ثلاثي الأبعاد لمدينة السلطان هيثم يحاكي مدينة تنبض بالحياة لأنصت لقهقهات ناسها في المطاعم والمقاهي ، وحفيف شجرها في المسطحات الخضراء وكربون عوادم سياراتها في الشوارع. كانت تتكرر في التصوير الافتراضي للمدينة المنتظرة ذات المشاهد لذات المدن التي زرتها وذات الجسور والبحيرات والظلال التي تلوِّن النهار.
لقد أدرتُ الفيلم الافتراضي أكثر من مرة لأعيش روح مدينة تتخلَّق في رحم الهمم العالية لتخرج للنور كما تمناها مولانا الهيثم المعظم.
وفي كل مرة يدور فيها الفيلم الافتراضي لمدينة السلطان هيثم أكاد أشم رائحة المتنزهات وعطر المتنزهين وعبق القهوة التي تفوح من المقاهي الشعبية والعصرية وشقاوات الصغار يلعقون البوضة.
وتستنزفني مع كل مشاهدة لفيلم محاكاة المدينة ذات الأسئلة وذات الأمنيات عن أبي الذي لم يشاهد عقْربي ساعة “بج بن” تتراكضان لتلسعا الوقت.
ولا افْتَرَشَ ضفاف “التايمز” ليقيس المسافة بين مقصورة “عين النقصة” و ”الجبيليات” حيث الوادي السمائلي يملأ المسار ساعة هبوطه كهذا النهر الانجليزي الأغبر الذي يطل عليه شكسبير من شرفة بيته ليكتب باغبرار جريانه الدافق الفصول الخمسة لمسرحية “الملك لير “.
لقد كنتُ أواسي نفسي بشيخوخة أبي كمبرر لعدم ارتياده مدن العالم.
ولكن واحدة من اجمل المدن ، ولا تبعد عن بيت أبي سوى نصف ساعة تتشكل اليوم ولكنه للأسف لن يراها.
ومن المؤكد أن مدينة السلطان هيثم ستسابق الوقت لكيلا تترك الفرصة لأبنائنا ليتحسروا على آبائهم بولادتها في غياب الحلم برؤيتها.
ولن تتكرر في مدينة السلطان هيثم أمنيات من قبيل : “ليت الوالد بيننا ليعبر هذا الجسر المعلق فوق البحيرة التي تلونها البجعات والبطات ، وتأوي إلى ضفافها العقاعق كل موسم هجرة”.
و”ليت الوالد جاء متأبطا “اللابتوب” أو “الآيباد” ليستسقي من حكايا المقاهي جملة ، ومن احتكاك “السكوتر” الكهربائي بالرخام مشهدا ، ومن تحلُّق الناس حول متجر الورد والياسمين لابتياع باقات تنثر في حفل التخرج بجامعة المدينة عبارات لبطاقات التهنئة”.
لقد أراد مولانا الهيثم المعظم أن تكون المدينة التي تحمل اسمه معبرة عن إرثه للمستقبل وبشارة لعهده الميمون ورؤيته البعيدة لمدن عمان.
وأرادها “وجهة جاذبة ومعززة للاستثمار وبمعايير عالمية في الجودة.
واختارها أن تكون على مقربة من إقامته بقصر البركة العامر حيث تنتهي السيب وقبل أن تبدأ بركاء لترتفع بهذا الجوار قيمة المدينة ومكانتها.
وسيستشعر المطورون العقاريون والمنفذون أن سيد الوطن يكاد يرى مراحل التنفيذ من نوافذ قصر البركة العامر الأمر الذي سيحفزهم على مسابقة الزمن ليسبقوا الزمن في إنشاء مدينة ذكية وعصرية وخضراء ومستدامة.
وأتتبَّعُ فقرات فيلم المحاكاة الخاص بمدينة السلطان هيثم وفي ذهني أرقام وزاة الإسكان والتخطيط العمراني التي تشير إلى ١٤،٨٠٠،٠٠٠ متر مربع كمساحة إجمالية للمدينة موزعة على ١٩ حارة وبها ٢٠ ألف وحدة سكنية بين فلل منفصلة وشبه متصلة وشقق و”تاون هاوس” وتتسع لنحو مائة ألف نسمة.
وتقول الوزارة أن التوجيه بالتنفيذ راعى بألَّا تكون للاسمنت السطوة على مساحة المدينة إذ ستتخللها قرابة ٣ ملايين متر مربع من الاخضرار وبما يصل لخُمْس المساحة الإجمالية وستتوزع على الحديقة المركزية والأرصفة والساحات والمسطحات والميادين.
ما زلتُ في التجوال التخيلي بالمدينة لأطالع مآذن دور العبادة التي ستضم ٢٥ بين جامع ومسجد ومصلى.
وترن في أسماعي أجراس
٣٩ مدرسة في المدينة بينها ٣٠ مدرسة حكومية ستغطي مراحل التعليم العام إلى جانب ٩ مدارس خاصة تشمل المراحل التعليمية الثلاث.
ورغم قرب مدينة السلطان هيثم من المدن القائمة حاليا والتي تتوفر بها مرافق الرعاية الصحية فكان التوجيه بأن لا تضغط المدينة الجديدة على مرافق المدن المجاورة إذ ستستقل مدينة السلطان هيثم بإضافة مستشفى مرجعي بسعة ١٢٠٠ سرير.
كما ستضم المدينة إلى جانب ذلك ٦ مراكز صحية من فئة ١٠ آلاف مراجع.
وستضم مركزين صحيين بطاقة استيعاب لعدد ٢٠ ألف مراجع
إلى جانب مركز لرعاية ذوي الإعاقة.
وسيكون للقطاع الخاص مساحة لمستشفى خاص ليتكامل مع هذه الجهود.
وككل المدن ستضم مدينة السلطان هيثم جامعة ومراكز تجارية ومنشآت رياضية وفق المعايير العالمية من حيث الجودة والتصميم.
وتتمتع مدينة السلطان هيثم بموقع استثنائي فهي على بعد دقائق من وسط السيب ووسط بركاء وعلى بعد ربع ساعة من وادي المعاول و٢٠ دقيقة من شاذون.
وبمقدور زوَّار حصن الصلت بن مالك في نخل رؤية أنوارها من شرفات الحصن.
لقد تحسَّرْنا كثيرا على آبائنا الذين لم يروا مدن العالم ، ما يجعلنا نتمنى لأن تتسارع الجهود لنحتسي “الأمريكانو” من “ستار بكس” فرع مدينة السلطان هيثم إلى جانب “الشوكولا” الداكنة من “كوستا”.
ونتناول الزلابيا من المقاهي الشعبية بالمدينة.
ونرتع بين الحدائق لنطعم البجعات “الفرّاخ” كما كنا نطعم بجعات بحيرة “الأليستر” في هامبورج
وننثر قمحاً لحَمَام مدينة السلطان هيثم كما اعتدنا مع حمام ساحة “الدوم” في أمستردام.
ونتمشي بعربات تجرها الخيول فوق الدروب الحجرية كما اعتدنا المشي بجوار بوابة “براندنبرج” في برلين.
ونتحلق حول نافخي الفقاعات الملونة كما نراهم في “مستك” ببراغ.
وأخرج من تشابكات الفيلم الافتراضي والحلم بالمدينة وأنا أردد مع محمود درويش:
“عندما نرجع كالريح
إلى منزلنا
حدّقي في جبهتي
تجدي الورد نخيلاً
تجديني مثلما كنتُ
صغيراً وجميلاً”
حمود بن سالم السيابي
مسقط في الخامس من حزيران ٢٠٢٣م.










