طرحنا قَبل عدَّة سنوات مقالًا في هذه الجريدة الغرَّاء «الوطن» بعنوان: «أهمِّية توظيف الأسماء التجاريَّة عُمانيًّا»، في ظلِّ موضة الأسماء الأجنبيَّة وغير المُعرَّبة، أو التي لا تمتُّ بِصِلَة للبيئة والثقافة العُمانيَّة والتي اتَّخذتها المولات ومراكز التسوق والمحالُّ التجاريَّة أسماء لها في فترات سابقة، ونشير إلى أنَّ ما اتُّخذ في هذا الأمر من قِبل الجهات المعنيَّة من تصحيح للمسار، وما ارتبط به من وعي المواطن، واستشعار المستثمر ورائد الأعمال الداخلي والخارجي لخصوصيَّة الثقافة العُمانيَّة، وأنَّ مسؤوليَّة المواطن تتجاوز النظرة المادِّيَّة الصرفة إلى دَور هذا الاستثمار والتسويق التجاري في التعريف بالهُوِيَّة والثقافة العُمانيَّة. وقد شاع في الفترة الأخيرة كتابة المصطلحات الأجنبيَّة للمحالِّ والعلامات (الماركات) التجاريَّة وبشكلٍ خاص محالُّ الوجبات السريعة، بدُونِ ترجمة إلى اللغة العربيَّة، أي تحمل حروف المصطلح الأجنبي ذاته، بحيث يكتب الحرف باللغة العربيَّة بنفس وروده في المصطلح الأجنبي لها. وكمِثَال على ذلك: « كوفي شوب، هوم تست، إيطاليا مون، كرك فور تي، وغيرها كثير مما شاع استخدامه اليوم من قِبل المؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة.
وانطلاقًا من مفهوم الهُوِيَّة في سلطنة عُمان وما اتَّسمت به من عُمق واتِّساع، واستدامة وقوَّة وذوق ومهنيَّة، وما ارتبط بها من مواقف جسَّدتها السياسة العُمانيَّة في الداخل والخارج، وارتبطت بمرتكزات أصيلة قائمة على: الاعتزاز بالثقافة العُمانيَّة، والاعتزاز باللغة العربيَّة، وتأكيد الانتماء العربي، وتأصيل مبدأ الأصالة والمعاصرة، الأمْرُ الذي أكسب سلطنة عُمان دَورًا حضاريًّا، ومكانة إقليميَّة وعربيَّة ودوليَّة كانت شاهدة على ما قدَّمته سلطنة عُمان في تأريخها المُشرق من أدوار حضاريَّة في المنطقة والعالَم راعية للسَّلام والأمن؛ لِمَا فيه خير الإنسان ونهضة الأوطان وتحقيق التعايش والوئام.
إنَّ المحافظة على الثوابت والخصوصيَّة والهُوِيَّة العُمانيَّة لَمْ يَعُدِ اليوم ترفًا فكريًّا أو مساحة اختياريَّة، كما أنَّ البُعد الشمولي في قراءة تأثير الظواهر السلبيَّة على الهُوِيَّة العُمانيَّة يؤسِّس اليوم لمرحلة متقدِّمة في العمل المؤسَّسي المتكامل في إيجاد مراجعات جادَّة ومعالجات تطول كُلَّ الممارسات التي باتت تؤثِّر سلبًا على الهُوِيَّة العُمانيَّة أو تتداخل في تشكيل قوَّتها وتأثيرها؛ باعتبارها القوَّة الناعمة لرسم معالم التحوُّل الاجتماعي. ولمَّا كان واقع الأمْرِ يشير إلى انتشار موضة العلامات التجاريَّة الأجنبيَّة واتِّساعها في سلطنة عُمان، خصوصًا فيما يتعلَّق منها بمحالِّ الوجبات الغذائيَّة السريعة، وما يلحظ من كتابة المصطلحات الأجنبيَّة باللغة العربيَّة بدُونِ ترجمة لها، وما بات يثيره هذا الأمْرُ من تساؤلات ونقاشات حَوْلَ التأثير الناتج عن استمرار هذا الوضع على اللغة العربيَّة، والتي تُمثِّل أحَدَ أهمِّ مرتكزات الهُوِيَّة العُمانيَّة، والتي يفترض أنَّ المحافظة على حضورها من الأمور الواجبة التي تحفظ للهُوِيَّة العُمانيَّة موقعها وخصوصيَّتها ومكانتها في قناعات النشء وثقافته ومتانتها في مبادئه والتزاماته.
حيث تُمثِّل الهُوِيَّة الوطنيَّة ركيزة أساسيَّة في المبادئ الثقافيَّة بالنظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السُّلطاني (6/2021)، كما حدَّد النظام الأساسي للدولة في المادَّة (٣) «لغة الدولة الرسميَّة اللغة العربيَّة». وقد جاء في مبادئ فلسفة التعليم وأهدافها في سلطنة عُمان وتحت مبدأ: «الهُوِيَّة والمواطنة» جملة الأهداف الآتية: «إتقان اللغة العربيَّة والاعتزاز بها» و»ترسيخ الانتماء للأُمَّة العربيَّة والإسلامية» و»تحقيق التوازن بَيْنَ الأصالة والمعاصرة في عمليَّة التطوُّر الاجتماعي» وبالتالي تُعدُّ هذه الأهداف موجِّهات أساسيَّة تحمل في دلالتها الكثير من الأبعاد التنمويَّة والتي يُمكِن أن يقاسَ عليها هذا الموضوع؛ فإنَّ مشتركات ومُقوِّمات الانتماء الخليجي والعربي، ممثَّلةً في اللغة والتاريخ والعادات والتقاليد والمصير المشترك أحد أهمِّ مُكوِّناته؛ تضع من أمْرِ الاعتزاز باللغة العربيَّة أحدَ القواسم المشتركة التي يجِبُ أن تكُونَ مساحة التقاء، ومحطَّة تقارب، وفرصة لتحقيق شراكات اقتصاديَّة نوعيَّة، وإنتاج علامات تجاريَّة مبتكرة لها حضورها العالَمي، بحيث لا تقتصر على استيراد العلامات التجاريَّة العالميَّة واستيراد مُسمَّيات وكأنَّها مُسلَّمات لا يصحُّ تغييرها، بل عَبْرَ العمل على صناعة شراكات بينيَّة، وتقاربات استراتيجيَّة، ومعايير والتزامات اقتصاديَّة يُمكِن في ظلِّها وضع الاشتراطات اللازمة لقَبول دخول العلامات التجاريَّة العالميَّة أو الاستثمارات التجاريَّة، وإعادة إنتاجها وتأهيلها وتهيئتها بما يتناغم مع الثقافة العُمانيَّة والعربيَّة.
كما شكَّلت المواطنة والهُوِيَّة والتراث والثقافة الوطنيَّة أحدَ محاور رؤية عُمان 2040 وقد جاء في التوجُّه الاستراتيجي «مُجتمع معتزّ بهُوِيَّته وثقافته وملتزم بمواطنته» وإنَّ التوجُّه نَحْوَ المستقبل والتعامل مع مستجدَّاته والحفاظ على السِّمات الثقافيَّة بتنوُّعها وتسامحها، يُعدُّ مدخلًا استراتيجيًّا لرؤية عُمان 2040 وهو القائم على الانفتاح على العالَم بجذور راسخة، وفهم واضح لمُكوِّنات الهُوِيَّة العُمانيَّة؛ فإنَّ أهمِّية البُعد الثقافي في ظلِّ ما تؤكِّده نظريَّة اقتصاد المعرفة من أنَّ الأصول الفكريَّة والثقافيَّة واللغويَّة والفنيَّة غير المادِّيَّة، وما تتطلبه عمليَّات التسويق لها ونقلها وإعادة إنتاجها من برامج التعليم والتثقيف والإعلام والبحث العلمي والابتكار، تُشكِّل اليوم أهمِّية كبرى في دعم الاقتصاد، وإضافة استثمارات عالية النتائج لتحقيق الاستدامة الاقتصاديَّة، لذلك أصبح التعاطي مع المسار الثقافي اليوم والذي تُعدُّ اللغة العربيَّة أحدَ أهمِّ مُكوِّناته أكثر تناغمًا مع متطلبات اقتصاد المعرفة، وتعزيز دَور الثقافة كمنتج استثماري واقتصادي واعد، تتعدَّد نواتجه وتتنوَّع استخداماته في ضمان المحافظة على مساحة التوازنات في ثقافة الشَّباب والمُجتمع، وتعزيز انتمائه العربي والإسلامي خاصَّة ثمَّ العالَمي وعَبْرَ الاستمرار في نهج التحديث والتطوير والاندماج في عصر العِلم والتقنية المتقدِّمة مع المحافظة على درجة الارتباط والانتماء للثقافة العربيَّة الأصيلة المستمدَّة من مُكوِّنات البُعد الثقافي وخيوط الالتقاء المشتركة التي تربط ثقافة سلطنة عُمان بالثقافة الخليجيَّة والعربيَّة والإسلاميَّة.
من هنا تأتي أهمِّية المحافظة على الهُوِيَّة العُمانيَّة وعَبْرَ الاعتزاز باللغة العربيَّة، فهي حافلة بالكثير من المفردات التي يُمكِن من خلالها التسويق للهُوِيَّة العُمانيَّة وتعميق استحقاقاتها العالميَّة وضمان الدخول في شراكات مع العلامات التجاريَّة في هذا الشأن، فإنَّ اتِّخاذ الإجراءات التي تحفظ للهُوِيَّة العُمانيَّة العربيَّة مكانتها سوف يُسهِم في خلق تحوُّلات في مَسيرة الاقتصاد والاستثمار، ويُعزِّز من مسار المرونة والأريحيَّة من خلال السُّمعة التي يُمكِن أن تتحقَّقَ من هذا الأمْرِ، في ظلِّ تبنِّي المستثمرين وأصحاب المؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة وروَّاد ورائدات الأعمال لهذا المسار في مشاريعهم التجاريَّة، بحيث يجد المواطن في ترجمة الأسماء التجاريَّة للغة العربيَّة مدخلًا للتعرُّف على معالم وطنه وفرصة للاقتراب من ثقافته العربيَّة فيتملكها قلْبُه وتَسمُو بها نَفْسُه وتصفو بها روحُه، وتعكس ملامح الشخصيَّة العُمانيَّة التي ستجد في الأنشطة التجاريَّة والاقتصاديَّة التي تحمل مِثل هذه المُسمَّيات أكثر من كونها نشاطًا تجاريًّا ربحيًّا أو مجرَّد تقديم سلعة أو منتج استهلاكي مُعيَّن، إلى كونها تحمل دلالات أخرى وطنيَّة وثقافيَّة واجتماعيَّة، تُعبِّر عن اعتزازه بلُغته، وتعمل على المحافظة على هذا الرصيد الثقافي؛ باعتباره جسر تواصل ممتدًّا لسلطنة عُمان بالعالَم، الأمْرُ الذي يقلِّل من الهاجس السلبي المترتِّب على بقاء هذه المصطلحات بصيغتها الأجنبيَّة، وإزالة الشكوك حَوْلَ موقع اللغة العربيَّة من الاقتصاد العالمي وإلى أيِّ مدى يُمكِن اللغة العربيَّة أن تكُونَ لغة اقتصاديَّة عالميَّة إذا كانت أسماء المحالِّ والمراكز التجاريَّة التي يتَّجه إليها الشَّباب تُكتَب أحرفها العربيَّة بنَفْسِ الاسم الأجنبي دُونَ أن تكلِّفَ الجهات المعنيَّة نَفْسَها بترجمتها إلى اللغة العربيَّة، والصورة الذهنيَّة السلبيَّة القاتمة التي يُمكِن أن يولِّدَها بقاء هذا الأمْرُ على حالة في ظلِّ زيادة ارتياد الشَّباب لهذه المحالِّ التي تقدِّم الوجبات السريعة أو غيرها، وتفتح المجال لمزيدٍ من الأُنس والاستجمام واللقاء فيها والمساحة الترويحيَّة التي تقدِّمها للشَّباب، خصوصًا في استقطاب لهم في فترات المساء ولساعات متأخرة من الليل، ليصبح ترديد هذا الاسم على ألسنتهم عادةً تضع حَوْلَ اللغة العربيَّة علامات استفهام؛ وكأنَّ ترجمتها للغة العربيَّة فيه شيء من النقص والشعور بالخجل، أو قد يفسّر بعدم قدرة اللغة العربيَّة على نقل هذا التأثير إلى المُجتمع فيتعامل معها باستحياء، الأمْرُ الذي يفقد اللغة العربيَّة أصالتها وقوَّتها، بل يفقدها حضورها في فِقه الناشئة وألسنتهم وانتمائهم لها، فإنَّ فقدان الانتماء للغة العربيَّة والاعتراف بأهمِّيتها في حياة المواطن ودَورها الحضاري والتاريخي، وأنَّه يُمكِّن أن تكُونَ لغة اقتصاد عالمي منافس، سوف يكُونُ له تبعاته على مفهوم الانتماء العربي الذي له في سلطنة عُمان خصوصيَّة متفرِّدة عبَّرت عَنْها سياسة سلطنة عُمان الخارجيَّة، ونالت على أثرها استحقاقات الاحترام العالمي في ظلِّ انتمائها العربي والإسلامي، وضمَّنتها المادَّة (1) من النظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السُّلطاني (6/2021) « سلطنة عُمان دولة عربيَّة إسلاميَّة مستقلَّة ذات سيادة تامَّة عاصمتها مسقط».
عليه، فإنَّ مسؤوليَّة تعزيز الهُوِيَّة الوطنيَّة عَبْرَ الترجمة العربيَّة للأسماء التجاريَّة منطلق لبيئة استثماريَّة فاعلة على المدى البعيد تضْمَن ثقة المواطن فيها وعدم تأثره بما يتداول من أفكار أو معلومات حَوْلَ أداء هذه العلامات التجاريَّة في بلدانها، بالإضافة إلى أنَّ البحث عن مداخل أوسع للتسويق المستمر لهذه العلامات والأسماء التجاريَّة التي تحمل مُسمَّياتها باللغة العربيَّة الصحيحة؛ سوف يضْمَن ربط الأجيال ببيئاتهم وتراثهم وثقافتهم، ويغرس في ذاتهم مساحات التأمل في لغتهم العربيَّة كلغة حاضرة في الاقتصاد والعلامات التجاريَّة بكُلِّ تفاصيلها، وتتكيَّف مع معطيات الواقع الاقتصادي والتجاري بكُلِّ أريحيَّة، الأمْرُ الذي يقترب بهم من واقعهم الاجتماعي، فيتعايش المواطن مع هذه الأسماء التجاريَّة ـ لكونها مترجمةً بشكل صحيح إلى اللغة العربيَّة ـ بكُلِّ طمأنينة ويقرأ فيها حضور هُوِيَّته الحضاريَّة وانتمائه العربي، حتى تتلاشى أمام عَيْنَيْه أو خيالات فكره التساؤلات التي قد يطرحها عندما يقرأ في واجهة هذا المحلِّ التجاري أو الإرشادات التعريفيَّة إليه بدُونِ ترجمة عربيَّة لهذا الاسم، لذا سيكُونُ تعامله معها وقناعته بها ليس بالمستوى نَفْسِه من الاندماج والشعور الذي يصاحبه عندما يكون اسم هذا المركز أو العلامة التجاريَّة مترجمًا بشكلٍ صحيح إلى اللغة العربيَّة ويُعبِّر عن الثقافة العربيَّة الموازية لها، في ظلِّ ما تحمله اللغة العربيَّة من مزون الحكمة وعظمة التأثير وتنوُّع الدلالات، وتجسّده من ذائقة جَماليَّة وحسِّ التغيير، والانطلاقة في فضاءات كونيَّة أوسع تبحر فيها ملامح اللغة العربيَّة لِتعبِّر عن الخصوصية العُمانيَّة وخصوصيَّة البيئة التي استوطنت فيها هذه المحالُّ أو المراكز وكأنَّها ثقافة وطنه. وعليه، يبقى البحث في إعادة النظر في ترجمة هذه المُسمَّيات منطلقًا لقراءة استثمار المواطن العُماني وعَبْرَ المؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة في بلده ومشاركته في بناء هذا المنجز التنموي، وتبقى مسألة التعاطي معها مرهونة بما تحمله قناعات المواطن وأفكاره حَوْلَ وطنه فإنَّ الكثير من المفاهيم التي باتت تتردد على ألسنة الصغار والكبار حَوْلَ هذه المُسمَّيات والتي تفتقر إلى الترجمة العربيَّة لها، باتت تعكس نمطًا آخر للحياة الأجنبيَّة، وبدأت هذه المُسمَّيات تأخذ بُعدًا آخر أقرب إلى الولاء لهذه الثقافة والانتماء لمُكوِّناتها والنظر إلى هذه المصطلحات وكأنَّها كلمات سياديَّة ونوع من الوصاية التجاريَّة التي لا يصحُّ التنازل عنها، أو أنَّ هذه المصطلحات ولِدَت في بلد المنشأ وكأنَّ عليها أن تغرقَ العالم بثقافتها، ويقرأ العالَم الثالث فيها علامات التبجيل والتقديس والثقة والاحترام وكأنَّها مُسمَّيات غير قابلة للمراجعة، والتزامات يجِبُ أن ينقادَ الجميع تحت لوائها بدُونِ أن يبديَ أيَّ تساؤل حَوْلَ ما تعننيه هذه المُسمَّيات والأسماء، خصوصًا أنَّ بعضها قد يعكس تفسيرات أخرى لا تتفق مع الثقافة الوطنيَّة، فهل ستُعيد وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار والجهات الأخرى ذات العلاقة وضع الضوابط المناسبة للحدِّ من هذه التجاوزات وتأثيرها على الهُوِيَّة العُمانيَّة؟
د.رجب بن علي العويسي