استمتعتُ بخطبة الجمعة الماضية، التي عمّمتها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية للجوامع، لأنها اختلفت عن أسلوب الخطب المعتادة، التي تُكرّر نفسها عن أشياء وحوادث مرّ عليها أكثر من ألف عام، تَغَيّر فيه العالم تغيرا تاما، وأصبحت فيه النسبة الكبرى من المصلين من فئة الشباب -أبناء العصر الحديث- بكلّ ما تعني هذه الكلمة من معان، إذ هم أبناء الفضاء الإلكتروني والفضاء المفتوح والتطور التكنولوجي الهائل.
والحديث عن جمود خطب الجمعة والعيدين حديث قديم تناولته مختلف المنابر الإعلامية ، ويحضرني ما قاله المفكر مصطفى محمود في كتابه «القرآن كائن حي»، عندما نادى منذ فترة طويلة بتطوير أسلوب هذه الخطب بقوله: «أسلوب خطبة الجمعة التقليدي لم يعد يجدي في الدعوة، في عصر تيسرت فيه السبل إلى قلوب الشباب.. وأعداءُ الدين أصبحوا حيتانا بأسنان ذرية وعقول إلكترونية.. وعلينا أن نحاربهم بأسلحتهم، وعلينا قبل كلّ شيء أن نتعلم السباحة في مياههم، ولا نسجن الدين في درقة سلحفائية تنادي من على منبر مهجور، وفي يدها سيف خشبي».
وإذا كان مصطفى محمود يرى أنّ على خطبة الجمعة أن تتزود بكلّ علوم العصر وحيله وأساليبه، وبمثل ما يتكلم خطيب الجامع من ميكروفون عليه بالمثل أن يتكلم مستخدمًا كلّ ما يهبه العصر من معارف وعلوم ودهاء، فليس معنى ذلك أن يشرح الخطيب خطبته باستخدام الحاسوب مثلا كأن تصبح الخطبة درسًا أو محاضرة، وإنما القصد أن تعايش الخطبة واقع الناس وتتلمس مشاكلهم اليومية، وتركز على تطور وتغير المجتمع، وألا تجمد على وقائع حدثت منذ ألف سنة، وكأنّ العالم قد توقف عن الدوران.
كان عنوان خطبة الجمعة الماضية هو «فَلْتَكُنْ لَكَ بَصْمَةُ خَيْرٍ فِي العَالَمِ الرَّقْمِيِّ»، وفي تصوري أنّ اختيار الموضوع بحد ذاته كان موفقًا لأنه يخاطب الشباب بلغتهم التي يعرفونها، فلا يُعقل أن يُخاطَبوا بموضوعات لا تمت إلى حياتهم بصلة، وسط التقدم الكبير في العالم، ممّا جعل هناك فجوة بين الشباب وبين هذه الخطب التي لم تؤت أكلها، مثلما نجح العقل الإلكتروني في التأثير عليهم. وقد أشارت الخطبة إلى النعمة التي فتحها الله على الناس، وهي نعمة التواصل فيما بينهم عن طريق شبكة المعلومات العالمية، «فإذا بالأَثير يموج بمعلومات كثيرة، صوْتًا وصورة، ممَّا هو مفيد وممَّا هو غير مفيد»، ودعت الخطبة إلى انتهاز هذه الفرصة للاستفادة منها «ذلك أَنَّ الشَّبكَة العالميَّة أَصبحت جزءا من حياتنا اليوميَّة نقضي بِواسطتها كثيرًا من حاجيَّاتنا، بدءًا من التَّواصل الاجتماعيّ إلى التّسوق الإِلكترونيّ مرورا بالعمل الوظيفيّ، بل أنَّها مصدر من مصادر التَّعلم في عصرنا الحاضرِ». والجميل أنّ كاتب الخطبة لم يغفل عن نقطة تشغل العالم الآن وهي ما يُعرف بالذكاء الاصطناعي الذي «بدأ ينشر خيوطه في شتَّى مجالات الحياة.. من هذا المنطلق على المسلم أَنْ يتدثَّر بِالحكمة والوعي فلا يغشى إِلَّا ما يرضي ربَّه»، لأنّ الذكاء الاصطناعي يُعد قفزة كبيرة جدًا في مجال الاتصالات الحديثة بما يحمله من مخاطر وسلبيات، ربما تكون أكثر من الإيجابيات، خاصةً إذا أساء الشباب استخدامه، فكان التنبيه لخطورة ذلك لزامًا على كاتب الخطبة، الذي رأى أنّ «الاستخدام الأَمثل للتقنيَّات الحديثة لهو خير مطلب، وأَفضل مكسب، وهذا هو مسلك صاحب الفكر السَّليم والعقل الحكيم، مَنْهَجُهُ الاستفادة من التّقنيّة المفيدة، والتّدرب على أسمى الطُّرق لاستغْلالها، والاهتمام بإمكانات هذه الوسائل، وتوجيهها في أمور تساعدنا على تطوير ذواتنا والارتقاء بها، والعمل على ترسيخ القيم، واستثمار أوقات الفراغ، وليكن زاد شبابنا أَخلاقيَّاتهِم الثَّابتة».
وكانت الخطبة في بعض جوانبها وعظية، ووجهت رسالة إلى أولياء الأمور لتربية أبنائهم على فنّ التعامل مع التقنيات الحديثة «بتبصرتهم كيف يتتبَّعون الفوائد منها وخاصَّة في الاستفادة من آلاف البحوث والكتب المرفوعة على الشَّبكَة أَو في تعلُّم شيء من مهارات الحياة»، إلا أنّ ذلك لن يكون مسؤولية الآباء والأمهات فقط، فالمسؤولية يجب أن تكون مشتركة بين البيت والمسجد والمدرسة، وأن تُعقد حلقات ومحاضرات في المدارس لتبصير هذا الجيل بإيجابيات ومخاطر وأخلاقيات التعامل مع شبكات التواصل هذه، فبعضُ ما نشاهده في هذه الوسائل يندى له الجبين، «ولا يغيب عن بال أَحد أَنَّ بعضهم جعل من هذه التِقنِيَّات وسيلة لِإِثارة النَّعرات والتَّعدِي على أَعراض النَّاس، متتبعًا القيل والقال، واستفزاز المشاعر وكيل التُّهم، فَيُسيءُ إِلى الأَفراد والمجتمعات مُؤَجِّجًا الفتن والمشكلات، ومسلّطًا العباد بعضهم عَلَى بعض».
في كتابه «القرآن كائن حي» يذكر مصطفى محمود -رحمه الله- أنّ أهم جانب في الدعوة العصرية هو القدرة على مخاطبة الشباب بأسلوبهم وأدواتهم لا بأساليب الأمس؛ فهم يذهبون إلى السينما والمسرح ويستمعون إلى الأغاني، فيجب أن تُوظف الدعوة بحيث تدخل إليهم من هذه المداخل كالقنوات وغيرها. «إذ وجب على الدعاة اختيار قوالب الدعوة العصرية والتحرر من الكلاسيكية المكررة المحفوظة واستخدام العبارة الموضوعية والنظرة الموضوعية التي تعالج مشكلاتهم، لأنّ أسلوب خطبة الجمعة التقليدية لم يعد يناسب الحال الآن، في ظلّ تيسر الأدوات والمغريات التي تسابق رجال الدين إلى قلوب الشباب». وينصح المؤلف الدعاة بأن يكون عندهم إلمام بجميع الفلسفات والمذاهب الجديدة وأساليب الرد حتى يستطيعوا مناقشة الشباب وفهم مشكلاتهم. وكلام مصطفى محمود هذا عن وجود السينما والمسرح كان قبل حدوث القفزة الكبيرة في عالم الاتصالات، فكيف به لو كان يعيش الآن؟!
وإذا كنتُ تناولتُ في مقالي هذا خطبة الجمعة الماضية لأنها تحدثت بلغة العصر، فإني أرى أنّ العصر الحديث يتطلب تغيير نهج الخطبة ومواضيعها عامة، وهو المطلب نفسه في المناهج التعليمية وفي رسالة ولغة الإعلام، فما كان يصلح عام 1970 لا يصلح الآن، وما يصلح الآن لن يصلح غدًا سواء كان في الخطب أو المناهج أو لغة الإعلام المكتوبة أو المنطوقة، وأضيف إنّ خطبة الجمعة التي تصلح لعُمان قد لا تصلح لمصر، والتي تصلح لمصر قد لا تصلح للسعودية -مثلا- وهكذا. بل أن الخطبة التي تصلح لمسقط قد لا تصلح لظفار وهكذا، فإني أذكر أنّ أحد المعلمين الأردنيين حكى لي مرةً -والحديث كان يدور حول الخطب- أنّ خطبة الجمعة في هيماء التي يدّرس فيها، تناولت تنظيف الأفلاج فيما أنه لم ير فلجًا هناك أبدًا. وبعيدا عن مواضيع الخطبة، فإننا نعاني من التطويل غير المبرر في وقت يصلي فيه الناس في الحر الشديد، وإعادة كلمات كلها حشو في حشو، وطريقة أداء الخطبة التي تجعلك تنام وتترك التركيز مهما بذلت من جهد؛ وكثيرًا ما كنتُ أسأل ابني محمد ماذا قال الخطيب؟ فكان يرد بعموميات لا معنى لها، وأخرجُ بانطباع أنه لم يفهم شيئًا، ولكن الله شاء لنا أن نصلي خلف الشيخ خلفان بن محمد العيسري -رحمه الله- وكنتُ أسأله في كلّ مرة ماذا قال الخطيب؟ فكان يقدّم لي ملخصًا للخطبة، وفهمتُ أنّ الرسالة تصل، لأنّ الشيخ خلفان كان يخاطب الشباب حسب عقولهم وعصرهم، وبارتجالية بسيطة ومحببة، لكني أستغرب عندما يقول الخطيب: «أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم»، فالقولُ أصلا ليس قوله وإنما هو قول كاتب الخطبة.
زاهر بن حارث المحروقي