لعلَّ أبرز ما يثار على السَّاحة الرياضيَّة العُمانيَّة هذه الأيَّام، الحديث عن حمَّى انسحابات الأندية من دَوري المحترفين «دَوري عُمانتل». ولا نبالغ إن قلنا إنَّ المرحلة الراهنة لدَوري كرة القدم في حالة تِيهٍ تبيَّنت من خلال تأجيل حسم ملف المسابقات انتظارًا لِما تسفر عنه الأقدار المعلَّقة؛ فالاتِّحاد العُماني لكرة القدم يتوخَّى تحقيق انسيابيَّة روزنامة بطولاته بحلوها ومُرهِّا لتجاوز أزمة الانسحابات الأخيرة، والأندية العُمانيَّة بَيْنَ انسحاب وترقب وتردد. وتظلُّ الآراء حَوْلَ هذه الحالة غير مستقرَّة ويظلُّ الشارع الرياضي يراقب المشهد الرياضي وهو ـ بلا شك ـ مشهد وطني بامتياز ينبغي أن يشقَّ طريقه لتحقيق مشروع رياضي ناجح بكُلِّ المقاييس لكرة القدم العُمانيَّة، ليس فقط لتجاوز أزمة خانقة وضعت الدَّوري المحلِّي عالقًا في عُنق زجاجة في صراع الخروج، ولكنَّ أهمِّية البحث عن كيفيَّة الخروج السليم الآمن الذي يُلبِّي تطلُّعاتنا الوطنيَّة.
استنزاف كبير تتعرض له أندية دَوري المحترفين بصفة خاصَّة؛ باعتبار أنَّ هذه الأندية تصرف من التكاليف لخوض بطولة الدَّوري بما هو متوسط ربع مليون ريال عُماني تقريبًا؛ أي ما يناهز ثلاثة ملايين ونصف لـ(14) ناديًا بالدَّوري المحلِّي، وغيرها من التكاليف الإداريَّة لإقامة الدَّوري والمستلزمات الأخرى، وفي المحصلة النهائيَّة تقول هذه الأندية: ما العوائد في نهاية المطاف؟ وهل تحقَّق بذلك مشروع الاستثمار الرياضي في كرة القدم بهذه الصيغة؟! خصوصًا إذا ما علمنا أنَّ الأندية العُمانيَّة وحتى اليوم لَمْ تشارك في بطولة دَوري أبطال آسيا؛ باعتبار أنَّ الدَّوري العُماني يُصنَّف في تصنيف متدنٍّ بَيْنَ دَوريَّات القارة الأسيويَّة؛ وبالتَّالي لا يحقُّ لأنديتنا المشاركة في دَوري أبطال آسيا. وبالمحصلة الطبيعيَّة ينطبق المَثل العربي «كأنَّك يا بو زيد ما غزيت» مع هذه التكاليف المثقلة لكاهل الأندية والاتِّحاد والرياضة العُمانيَّة بشكلِ عام، فلا العائد المالي يُحقِّق المعادلة الرَّقميَّة أو يقترب مِنها، ولا مشروع الاحتراف يُشكِّل رافعة حقيقيَّة لكرة القدم العُمانيَّة، وهذا يعني باختصار استنزافًا غير مُجدٍ في نموذج دَوري المحترفين العُماني الحالي.
إنَّ استمرار الدَّوري المحلِّي بهذه الوضعيَّة الاستهلاكيَّة يُشبه الدَّوران في الهواء مع الاحترام للجهود المقدَّمة من كُلِّ عنصر وكادر رياضي، ومن قِبل أيِّ كيان رياضي، وعلى رأسه الاتِّحاد العُماني لكرة القدم الذي نقدِّر مسؤوليَّاته وجهود إدارته في هذا الصَّدد. ولكن بالمقابل نظلُّ في حالة شدٍّ وجذب مع السؤال الآتي: كيف نستطيع أن نحقِّقَ تلك المعادلة الاحترافيَّة لكرة القدم بما يُحقِّق العوائد الماليَّة والتقنيَّة والنتائج المتقدِّمة لكرة القدم العُمانيَّة؟ وهنا ـ بلا شك ـ كُلُّنا شركاء في هذا الوطن للبحث عن إجابة لهذا السؤال، فكيف يُمكِن تحقيق نموذج احترافي؟ وما الوسائل المتاحة؟ وهل يُمكِن للحكومة إحداث تفاعل بَيْنَ المؤسَّسات الأهليَّة التجاريَّة والمؤسَّسات الرياضيَّة لدعم الرياضة وتحقيق الاستثمار الناجح؟
المنتخب الوطني العُماني ومنذ عقديْنِ من الزمان وضعَ نَفْسَه بَيْنَ الكبار في التصنيف الآسيوي (بالمركز الثامن حاليًّا)، وعلى صعيد بطولات الخليج فرضَ نَفْسَه كرقمٍ مهمٍّ في كرة القدم الخليجيَّة بتحقيق نتائج مُشرِّفة منذ بطولة «خليجي17» بالدوحة عام 2004م وحتى آخر بطولة في مدينة البصرة العراقيَّة عام 2023م. وهذه المستويات التي يقدِّمها المنتخب لَمْ تأتِ بالتأكيد من خلال مستويات بطولات دَوري كرة القدم العُمانيَّة حسب وجهة نظر النقَّاد؛ لأنَّ الدَّوري غير مستقرٍّ (بطل ثم مهدَّد بالهبوط ثم هابط) والأمثلة كثيرة وواضحة في الدَّوري، وهذا يدلُّ على أنَّ مستويات المنتخب جاءت من خلال الكوادر والمواهب المُجيدة على خريطة الجغرافيا العُمانيَّة، ومن هلال هذه المواهب أمكَن تشكيل منتخبات قادرة على المنافسة بقوَّة في البطولات الدوليَّة، على الأقل نتحدَّث عن بلوغ التصفيات النهائيَّة في آخر البطولات المؤهِّلة لكأس العالَم، وكذلك وجود المنتخب في مستويات جيِّدة آسيويًّا وخليجيًّا، وبالتأكيد هذه ليست طموحاتنا، فآمالنا معلَّقة ـ بإذن الله ـ في بلوغ نهائيَّات كأس العالَم القادمة مع إدخال بعض الإضافات واللمسات التي نعوِّل عليها في المنتخبات الوطنيَّة مستقبلًا.
العلاقة بَيْنَ الدَّوري المحلِّي كأحد العناصر التقدُّميَّة في كرة القدم والمنتخبات الوطنيَّة هي معادلة حقيقيَّة، ولكن بالقياس منذ عام 2004م ولغاية عام 2023 أي عقدَيْنِ من الزمان تمامًا ورغم وضعيَّة الدَّوري المحلِّي المتأرجحة، إلَّا أنَّ المنتخب الوطني يحقِّق نتائج مُشرِّفة و»بِدُونِ تجنيس» والظروف الأخرى المصاحبة، وذلك رغم أنَّ الدَّوري المحلِّي يطبِّقً الاحتراف منذ عام 2013م وبِدُونِ تحقيق أيٍّ من الأهداف والتطلُّعات المنشودة من حيث العوائد الماليَّة ونموذجيَّة الاحتراف ومدى انعكاسه الإيجابي على المنتخبات الوطنيَّة، وفي ظلِّ عدم مشاركة أنديتنا في دَوري أبطال آسيا وعدم تحقيق الاستثمار الحقيقي، وعدم مشاركة المؤسَّسات الماليَّة والتجاريَّة بالطموح المأمول في دفع عجلة الأندية والدَّوري المحلِّي، وعدم وجود نخبة من اللاعبَيْنَ والمدرِّبين ذوي المستويات العُليا عربيًّا وقاريًّا في الدَّوري المحلِّي، وما زالت قاعدة الصَّاعد هابط وغيرها من العناوين التي صنَّفت دَورينا منذ عقود تراوح مكانها. إذًا ينبغي إعادة النظر في وضعيَّة مسابقات كرة القدم.
هموم أخرى لازمت كرة القدم العُمانيَّة تُضاف إلى هموم الدَّوري مِنها نتائج منتخبات المراحل السنيَّة على الصعيد الآسيوي والدولي، حيث نعاني حالة طلاق بائن عن منصَّات التتويج لهذه المنتخبات، وهذا دليل آخر على أنَّ العُقم له أسباب أخرى وليس متعلقًا ببطولات الدَّوري، بل هناك فلسفة أخرى غائبة ينبغي البحث عَنْها، مِنها اكتشاف المواهب وتأهيلها وكيفيَّة تشكيل منتخبات الناشئين والشَّباب والأولمبي العُمانيَّة. لذا يتبَيَّن أنَّ الدَّوري ـ بمختلف مراحله السنيَّة وبمختلف درجاته ـ لَمْ ينعكس على منتخباتنا، بل إنَّ هناك عوامل أخرى تبرز صورة منتخبات كرة القدم العُمانيَّة وأهمُّها جودة اللاعب العُماني وموهبته ومراحل إعداد تلك المنتخبات الوطنيَّة والحضور الجماهيري الفاعل. ومع ذلك يبقى أنَّ الدَّوري عنصر مُهمٌّ وفاعل ومكمِّل لتحقيق النجاح، لكن إذا ما تحقَّق له نموذج احترافي بالشكل والمضمون. عمليَّة التراجع للوراء في هذا التوقيت أيضًا لا تُناسب رياضة كرة القدم العُمانيَّة، وهنا ينبغي التفكير في آليَّة نموذجيَّة لمسابقات كرة القدم المحليَّة بما يتواكب مع هذه التكاليف وعوائدها الحقيقيَّة على كرة القدم، والاستثمار الرياضي بمختلف جوانبه رياضيًّا ومادِّيًّا. أمَّا استمرار سَيْر قافلة الدَّوري في مجرَّة دائريَّة مغلقة، فهذا يعني الاستمرار في مسابقات هامشيَّة لا تخدم كرة القدم العُمانيَّة. وحسنًا فعلت الأندية التي انحازت جمعيَّاتها لقرار تجميد مشاركة فريقها الكروي في بطولة المحترفين التي لا تُسمن ولا تغني من جوع. فهذه القرارات أعتقد أنَّها حرَّكت المياه الراكدة التي كان ينبغي تحريكها قَبل فوات الأوان. وعليه ـ وكما أسلفت في مقدِّمة سياق المقال ـ فإنَّ المسؤوليَّة هنا جماعيَّة ولا يُلقى باللوم على الاتِّحاد العُماني لكرة القدم؛ لكون كرة القدم جزءًا من منظومة الرياضة العُمانيَّة، ولكن نأمل من الاتِّحاد العُماني لكرة القدم طرح القضيَّة على طاولة البحث والفكر بكُلِّ أبعادها على نطاق وطني واسع، وتبنِّي حوار رياضي هادف يُحقِّق في هذه الحالة الرياضيَّة وذلك بمشاركة العديد من النقَّاد والإعلاميين والرياضيين لتقديم الخلاصة المثاليَّة التي تعالج هموم كرة القدم بشكل عام، وتفسير لوغاريتمات المسابقات الرياضيَّة بشكلٍ واقعي نموذجي أملًا في تحقيق مشروع رياضي ناجح ومتكامل بدعائم رافعة من قِبل المؤسَّسات الوطنيَّة العُمانيَّة، وبفكر سليم يحافظ على البنية الرياضيَّة الحاليَّة، ويدفع بها نَحْوَ المستقبل مستفيدًا من الخامات والمواهب العُمانيَّة المتميِّزة.
خميس بن عبيد القطيطي