هناك اعتقاد على نطاق واسع بين عدد كبير من المُفكرين العرب المستقلين بأنَّ سبب التخلف وتراجع الأمة العربية عن غيرها من الأمم هو انفراد العسكر بصناعة القرارات ووضع السياسات العامة في معظم الدول العربية؛ فهؤلاء الجنرلات لا يحسنون إدارة الموارد الطبيعية والاقتصادية للمجتمعات العربية، إذ تنفق الأموال الطائلة لحماية أنظمة الحكم ذات الطبيعة العسكرية على حساب التنمية بأبعادها الثلاثة؛ وذلك من خلال نهب الموازنات العامة وتوزيعها على القادة والمتنفذين، وتخصيص جزء بسيط من الإنتاج القومي للقطاعات الاقتصادية والخدمات الصحية والتعليمية بشكل عام. وبالفعل، مرَّ الوطن العربي من المحيط إلى الخيلج بأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وإنسانية عبر العقود الماضية بسبب الفساد والأنانية وانتهازية أصحاب الرتب العليا من القادة بتخصيص المناصب والأموال والقصور لأنفسهم ومن يواليهم من النَّاس المقربين؛ فالانقلابات العسكرية وصراع الجنرلات على السلطة العليا في الأقطار العربية هي السمة السائدة في تلك الجمهوريات التي تحولت مع مرور الأيام إلى ملكية خاصة للجنرلات أنفسهم وللجيل الأول من الأبناء والمقربين لهؤلاء الجنرلات الذين اختطفوا السلطة، ووصلوا إلى الحكم على ظهر الدبابات، كما هي الحال في ليبيا ومصر والسودان وسوريا والعراق واليمن.
إنَّ المراقب للأوضاع في العالم العربي يدرك بوضوح أنَّ من أسباب تراجع العرب وتعرضهم للهزائم والنكسات وسيطرة القوى العظمى على مصيرهم؛ خاصة أمريكا وروسيا وبريطانيا وفرنسا؛ وعلى وجه الخصوص نكسة يونيو 1967 التي احتل فيها الكيان الصهيوني الضفة الغربية والقدس الشريف وسيناء والجولان وقطاع غزة خلال ستة أيام، وكذلك غزو الكويت 1990 من قبل جارها العراق وتداعيات التدخل الأجنبي في المنطقة التي أدت إلى سقوط بغداد في يد المحتل الأمريكي والحروب الدائرة حالياً في السودان، والتي كانت امتدادا لحروب متواصلة أدت لتقسيم هذا البلد إلى دولتين بضغوط من أمريكا والدول الغربية الاستعمارية؛ وكذلك اليمن وسوريا وليبيا؛ وقبل ذلك المجاعة والفقر والتخلف والأمية التي تنتشر بين العرب؛ فضلا عن التشرد واللجوء والهجرة إلى أنحاء العالم هربا من بطش الحكام والجنرلات، كل ذلك يعود للفشل والإخفاقات بالجملة لمن يتولى زمام الأمور في البلدان العربية التي ابتلاها الله بالاستعمار، ثم أنصارهم ووكلاؤهم من الداخل الذين وصلوا إلى سدة الحكم بمساندة ومباركة من الخارج.
والعامل المشترك في دولنا العربية هو صراع لا ينتهي بين رفاق الأمس الذين تحولوا إلى خصوم مع مرور الأيام للاستحواذ على السلطة والانفراد بالحكم بأي طريقة كانت، ولو كان ذلك على جثث الأبرياء من أبناء الشعب الذين عادة ما يقودون الثورات والنضال الوطني من أجل تحقيق حياة أفضل للناس الذين يطمحون لحكم ديمقراطي يكفل الحياة الكريمة للمواطن ويقوم على العدالة الاجتماعية في توزيع الدخل القومي والثروات الطبيعية بالتساوي بين أفراد المجتمع.
صحيح ما يُعرف بـ”الربيع العربي” قد أفشل بعض مشاريع توريث الحكم في تلك الجمهوريات؛ وعلى الرغم من تلك الأحداث التي اقتلعت جذور بعض تلك الأنظمة التي وصلت الحكم بطرق غير شرعية؛ إلا أنَّ هذه التحديات والنكسات عادت للساحة من جديد، وكأن هناك قدرًا مطلقًا علينا نحن العرب أن نعيش في ذيل الأمم.
ولعل ما يحصل في السودان الشقيق هذه الأيام من قتل وتشريد ونهب الأملاك والاعتداء على أعراض النَّاس خير مثال على ما هو حاصل في البلدان العربية التي عانت من الانقلابات العسكرية والسيطرة على مقدرات هذه المجتمعات المقهورة من القادة والجنرالات الذين يهدفون بالدرجة الأولى إلى السلطة وليس لتحقيق الأمن الوطني لشعوبهم التي أحسنت الظن فيهم.
فالانتفاضة الشعبية التي قادها الشعب السوداني عام 2019، وأجبرت نظام البشير الذي وصل إلى الحكم عام 1989 عبر انقلاب عسكري على التنازل عن الرئاسة للشعب لم تؤتِ ثمارها؛ إذ أجهضها الجنرالات كما جرت العادة في مثل هذه الأحوال؛ فقد وعد كل من قائد الجيش السوداني وقائد الدعم السريع بتسليم السلطة إلى الشعب بعد إجراء انتخابات عامة بين الأحزاب السودانية خلال الفترة الانتقالية التي تمثلت بمجلس السيادة الذي يتكون من كبار القادة في الجيش والدعم السريع. لقد تمسك هؤلاء الجنرالات بالسلطة لمدة أربع سنوات حتى منتصف أبريل من هذا العام؛ إذ اختلف أصدقاء الأمس عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش السوداني ونائبه محمد حمدان قائد الدعم السريع على السلطة، فقائد الدعم السريع قاد تمردًا عسكريًّا بمساندة من الخارج؛ فالسودان الجريح يتعرض الآن للتقسيم مرة أخرى من القوى الأجنبية مثل روسيا والصين وأمريكا، وكذلك من دول الجوار خاصة إثيوبيا وكينيا، والهدف القادم هي جمهورية مصر العربية التي يعدُّ السودان الحديقة الخلفية لأمنها القومي، لكي يتم تمرير مشروع سد النهضة بكل مراحله النهائية.
أين السودان اليوم من الجنرال عبدالرحمن سوار الذهب -طيب الله ثراه- الذي كان الاستثناء الوحيد في هذه الأمة، وذلك عندما استلم السلطة من الرئيس الأسبق جعفر النميري ثم سلمها طوعًا بدوره للحزب الذي فاز بالانتخابات وهو حزب الأمة السوداني.
وفي الختام، لقد حان الوقت لجنرالات السودان جميعاً للعودة إلى ثكناتهم وتسليم السلطة للشعب السوداني بأسرع وقت، وذلك من خلال انتخابات عامة تشرف عليها الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني في هذا البلد العربي الذي شَرَّدت فيه الحرب الأهلية الحالية الملايين واستشهد آلاف الأبرياء، بينما تقدر الأمم المتحدة الذين يحتاجون لمساعدة عاجلة بـ11 مليون مواطن سوداني.
د.محمد بن عوض المشيخي – أكاديمي وباحث مختص في الاتصال الجماهيري