الأديب العالمي وأحد عمالقة الأدب الروسي “دوستويفسكي”، كان وما زال واحداً من أكبر الكتّاب الروس، ومن أفضل الكتّاب العالميين على الإطلاق، وأعماله كان لها أثر عميق ودائم على الأدب العالمي، حتى أصبحت روايته وشخصياتها، جزءاً هاماً من تراث البشرية الروحي.
وقبل الغوص في غمار هذه الشخصية الرائعة، لا بد من توضيح أمر غاية في الأهمية، خاصة وأن البعض، يدمج ما بين الفكر الإنساني والسياسة، إذ يجب الفصل بين الجانبين فإذا كان هذا الأديب العالمي روسي أو أمريكي أو من أية دولة كانت، لا يعني بالمطلق، التوافق أو الخلاف مع النهج السياسي لتلك البلاد، فما يعنيني هنا الشق الإنساني والإنسان وكل من حمل لواء الإنسانية وكان مقرباً من الفقراء والبسطاء في عالم ينظر لتلك الشرائح بعينٍ أخرى، وواجبنا الوقوف معهم حتى بالكملة وبذكر الذين كان لهم محطات مع الفقراء وخصوهم بالروايات أو بالقوانين التي تنصفهم أياً كانت صفتهم، كونوا مع الإنسان، فلولا سواعد الفقراء وزنودهم السمراء لما كان هناك أوطان!
لدوستويفسكي العديد من الأعمال التي تُعتبر من أعظم الأعمال الأدبية في التاريخ مثل “المقامر” و”الإخوة كارامازوف”، و”الجريمة والعقاب” و”الأبله”، ما يميز شخصياته أنها كانت في أقصى حالات اليأس وعلى حافة الهاوية، إذ أن رواياته تحوي فهماً عميقاً للنفس البشرية، كما تقدم تحليلاً ثاقباً للحالة السياسية والاجتماعية والروحية لروسيا في زمن القياصرة الساحر.
شخصيات دوستويفسكي تبدو أنها بائسة وتعيسة كما أشرت، فإن قرأت رواياته تشعر أنك تعرفهم، وأنهم مألوفين لدينا، في الواقع إن مجانين شخصيات دوستويفسكي ليسوا بمجانين كما نتوهم بل هم الاشخاص الذين لا نجرؤ أن نكونهم وهم يقولون ويفعلون ما لا نجرؤ أن نقوله ونفعله، فلقد قال عنه عالم النفس الشهير “فرويد”: (دوستويفسكي معلم كبير في علم النفس، لا أكاد أنتهي من بحثٍ في مجال النفس الإنسانيةـ حتى أجد دوستويفسكي قد تناوله قبلي في مؤلفاته)، أما “نيشته” فد قال: (ديستويفسكي معلم النفس الوحيد الذي استفدت منه)، ويروى أن “تولستوي” كان يبكي عندما كان يقرأ رواية “بيت الموتى”، وكان يقول: (لولا وجود الكتاب المقدس، لقلت إن هذا هو الكتاب المقدس).
ولد فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي في موسكو “1821 – 1881″وكان الثاني من سبعة أطفال ولدوا لـ “ميخائيل وماريا دوستويفسكي”، والده كان طبيب جراح متقاعد، مدمن للكحول وسريع الانفعال، خدم في مستشفى للفقراء في موسكو، حيث كانت المستشفى تقع في احد أسوأ أحياء العاصمة، وهي المنطقة التي كانت تحتوي على مقبرةٍ للمجرمين ودار أيتامٍ للأطفال المتخلى عنهم من قبل أهاليهم، هذه المنطقة طبعت تأثير ثابت في نفس “دوستويفسكي” الصغير، الأمر الذي أثار شفقته وانتباهه اضطهاد وقلق الفقراء، فلقد كان يحب المشي في حديقة المستشفى حيث كان المرضى يجلسون وكان يستمتع بالجلوس إليهم والاستماع إلى حكاياتهم.
التحق دوستويفسكي بالأكاديمية الهندسة الحربية في سانت بطرسبرغ بعد وفاة أمه ماريا، لكن يقال إن شخصية الأب المستبد لدوستويفسكي أثرت بشكل كبير في كتاباته وكانت واضحة جداً في شخصية “كارمازوف”، الأب الشرير للشخصيات الأربعة الرئيسية في الرواية، ولمن لا يعلم أن هذا الأديب الكبير كان مصاباً بالصرع وتعرض لأولى نوبات هذه المرض عندما كان عمره تسع سنوات إلى بقية حياته، ويعتقد أن خبرات دوستويفسكي مع مرض الصرع كانت هي الأساس في وصفه لصرع الأمير مايشكن في روايته “الأبله” بالإضافة إلى شخصيات أخرى من روايات أخرى.
في الأكاديمية الحربية تعلم دوستويفسكي الرياضيات التي كان يكرهها كما تعلم الأدب وفن الرواية من كتابات “شكسبير” و”فيكتور هوغو” و”اي تي أيه هوفمان”، لكن رغم أنه ركز على مواد أخرى غير الرياضيات لكنه تمكن على الحصول على علامات جيدة في الاختبارات الرياضية، وفي عام 1842 ترقى دوستويفسكي إلى رتبة ملازم أول وترك الأكاديمية ليتفرغ إلى الكتابة، ليكتب اول أعماله وهي روايته “القصيرة “الفقراء” التي لاقت ترحيباً كبيراً من طبقة القراء، حيث جعلت منه هذه الرواية من الأدباء المشاهير في بداية شبابه وهو لم يتجاوز الرابعة والعشرين حينها.
من بعد ذلك توالت أعماله وكتاباته ونجاحاته، لكن هذا النجاح أزعج البعض، فلقد سجن دوستويفسكي بتهمة أنه من “جماعة العقل المتحرر” وحكم عليه بالإعدام، لكن تم تغيير الحكم لاحقاً ليصبح النفي والسجن لمدة أربع سنوات مع العمل الشاق في سجن “كاتورجا” في سيبيريا، وفيها عاش دوستويفسكي تجربة جديدة مريعة كانت منهكة له كإنسان إلا زادت من إبداعه ككاتب وأديب، فكانت هذه العلامة الفاصلة في حياته، فبعد انتهاء سجنه تفجر فيه بركان الإبداع لتخرج بعد ذلك مجموعة من الروايات الأكثر جمالاً على المستوى العالمي ومن خلالها تربع على عرش الأدب الروسي بلا منافس لسنوات طويلة.
كان دوستويفسكي من أشد المؤيدين لآراء الفيلسوف توماس كارليل في كتابه “الأبطال وديانة الأبطال”، الذي اعترف فيه بشكل صريح بعظمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: “الرجل العظيم الذي علّمه الله العلم والحكمة”. أما في رواياته فقد جاء ذكر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مواضع شتى، كما في رواية “المزدوج” التي تُرجمت إلى العربية تحت عنوان “المثل” واستُعملَ فيها التعبير: “تيمّناً بالنبي العظيم”، وكذلك في روايته الممسوسون كثيراً ما كان يستخدم بعض التعابير الإسلامية أو الإحالات إلى الإسلام والقرآن الكريم، وفي روايته الشهيرة الجريمة والعقاب وضع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قائمة الزعماء الذين كانوا يُشهد لهم بالحكمة والذكاء، وهذا يُوضح وإن كان التشبيه بعيداً عن روح الإسلام مدى تقديره واحترامه لمكانة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين.
وجد الكاتب العالمي دوستويفسكي في القرآن الكريم صدى لأفكاره التي آمن بها ودعا إليها عبر كتاباته التحليلية للتجربة الإنسانية، ولم يتردد لحظة في إبداء إعجابه الشديد برسول الإسلام ودعوتهِ رغم تعلّقه بشخصية المسيح في فترات من حياته، وهذا يُوضّح إلى حد بعيدٍ مدى انفتاحه على الإسلام وعلى القرآن الكريم تحديداً، ورغم الإرث الكبير الذي تركه دوستويفسكي للبشرية في مجال القصة والرواية والتحليل النفسي والفلسفة، إلا أنه وهو المسيحي الأرثوذوكسي خصص من وقته الكثير لسبر معاني القرآن والتدبر في آياته رغم ما كان يُعانيه أثناء هذه التجربة من محن السجن ومشقّته. (1)
أخيراً، حتى اليوم يظل دوستويفسكي الرائد الأكبر للرواية الإنسانية فرواياته هي منجم لا ينضب من العبقرية والإلهام ورحلة ممتعة في غياهب النفس البشرية بخيرها وشرها، لقد تميز الأديب الروسي الشهير فيودور دوستويفسكي باتجاهه الإنساني في الكتابة، حيث يسبر أغوار النفس البشرية كاشفاً كل ما تحمله من دوافع ومتناقضات، وهو الأمر الذي منحه مكانة مرموقة على خريطة الأدب العالمي على مر التاريخ كواحد من أبرز الأدباء في تاريخ البشرية.
في العام 1881 حمل دوستويفسكي الكتاب المقدس وقرأ “وإذا السموات انفتحت فرأى روح الله”، ثم نظر إلى زوجته قائلاً: “ألم أقل لك إنني سأموت الليلة؟”، وبالفعل غفا دوستويفسكي إلى الأبد، وشيّع جثمانه في موكب مهيب لم تشهد بطرسبرغ له مثيلاً من قبل، تاركاً أعمالاً أدبية عظيمة.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.
المراجع:
1-انظر:
عندما كتب دوستويفسكي لأخيه.. أرسل لي القرآن – عادل أعياشي – 28 – 5 -2019.
عندما كتب دوستويفسكي لأخيه.. أرسل لي القرآن