تُمثِّل المناسبات والمواقف الوطنيَّة في حياة الشعوب والأوطان قيمة مضافة، ورابطة وطنيَّة تتفاعل في أحداثها ومواقفها وما سطَّرته في تأريخها من أمجاد العزَّة والكرامة والفخر، مُكوِّنات النسيج الاجتماعي ومنظومات الدولة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والأمنيَّة، في خيوط ممتدَّة وتكامل وتناغم وانسجام، تربط الحاضر بالماضي والمستقبل، ووقفة تأمُّل وأمل للماضي والمستقبل ماذا فعلنا؟ وماذا سنفعل؟ لمواصلة رحلة البناء والتطوير، والانطلاقة بالبلاد نَحْوَ آفاقٍ رحبة حاملة إرثًا عظيمًا، وغاياتٍ سامية، تبني ولا تهدم، وتقرِّب ولا تباعد، فلا تفقد جوهر خصوصيَّتها ومبادئها وثوابتها وقِيَمها، بل تتجلَّى هُوِيَّتها في شواهد البناء وشموليَّة التنمية وثوابت التطوير.
والحديث عن الثالث والعشرين من يوليو عام 1970م ليس كأيِّ يوم وليس كأيِّ تاريخ ولا ينبغي أن يمرَّ على أبناء هذه الأرض المباركة كذلك، إنَّه يوم خالد يحمل الكثير من الدلالات، ويقف عند الكثير من المحطَّات في بناء الأوطان: الأرض والدولة والإنسان، إنَّه ميلاد أُمَّة مَجيدة وانطلاقة مَسيرة مظفَّرة، يوم النهضة وصوتها الذي ملأ الآفاق، وغيَّر وجْه عُمان الشَّاحب، وأسدل السِّتار على عقود من حياة الضنك والفقر والبؤس، وفتح الآفاق والنور الجديد لمرحلة جديدة حين أشرق على عُمان وشَعبها عهد جديد عادت الحياة فيه إلى أبناء عُمان وتجدَّد الأمل فيه لشَعب طالما انتظر مرحلة جديدة متشوقًا إلى وجودها بعد عقود من ضعف الحال. فلقد كانت العناية الإلهيَّة بهذا الشَّعب فوق كُلِّ تقدير وأبلغ من أيِّ تأكيد، استعاد خلالها الإنسان العُماني ثقته في ذاته وقدراته وفي حاضره ومستقبله؛ مرحلة جديدة ارتسمت فيها ملامح العيش الكريم والحياة الآمنة المطمئنَّة، ليسطر نماذج حيَّة من العطاء المُتجدِّد، والعمل المخلص، والتضحيات العظيمة، والأداء الحسَن، الذي قدَّمه ابن عُمان البار وسُلطانها الراحل المغفور له بإذن الله تعالى حضرة صاحب الجلالة السُّلطان قابوس بن سعيد ـ طيَّب الله ثراه ـ وسطَّرته بأحرُف من نور، عطاء غير منقوص «سأعمل على جعلكم تعيشون سعداء لمستقبل أفضل، وعلى كُلِّ واحد مِنكم المساهمة في هذا الواجب»، حتى أصبحت عُمان ملء السمع والبصر وحضن وحصن المواطن العُماني، وكُلُّ ما يعيش عليها أمنًا وسلامًا، وتقدُّمًا وازدهارًا، ونهضةً وتطوُّرًا، وعملًا وإنجازًا، حتى فاق الآفاق، وحاز على إعجاب العالَم أجمع بما تَحقَّق على أرض سلطنة عُمان من منجزات عظيمة ومآثر خالدة لامست كُلَّ بيت في عُمان، في السَّهل والجبل، والقرى البعيدة والجزر، حياة آمنة مطمئنة، ترعاها العناية الإلهيَّة، وتحتضن تفاصيلها حكمة روح عُمان ونورها وسيِّدها وسُلطانها الراحل، الذي أحبَّ عُمان وأخلص لها، وضحَّى بحياته من أجْلها، حتى كانت له الصحَّة والأمان، والحُب والسَّلام، والروح والنبض، رحمك الله مولاي رحمة واسعة وأسكنك مع النَّبيِّين والصِّديقين والشُّهداء والصَّالحين.
وشكَّلت السنوات الخمس الأولى لنهضة الثالث والعشرين من يوليو، فاتحة لقراءة عُمان في ظلِّ انتصار الأمل بعد انحساره، وضياء الحقِّ بعد انبلاجه، وظهور الفجر بعد أن زال الظلام الدَّامس من على هذه الأرض الطيِّبة، وبعد أن ضمنت تلكم السنوات الخمس تَحقُّق الوحدة والانضمام إلى لواء الدولة والولاء للوطن والسُّلطان المُعظَّم، كسرت خلالها حالة العزلة التي عاشتها عُمان في تلك الحقبة من الزمن، وأسدل الستار على صور التحزُّب والانتماء القبلي وحالة الانقسام التي كانت عليها عُمان في الداخل والساحل، فتحوَّل الانقسام إلى وحدة، فكانت بذلك سلطنة عُمان، وتحوَّل الانتماء والتحزُّب القبلي وحالة الثأر والتهييج الشَّعبي للقبيلة إلى أن اتَّجه للوطن، وبعد أن كانت العائلة والقبيلة هي الأساس والفخر، أصبحت عُمان هي الفخر والعزَّة والكرامة، لتبدأ عُمان بهمَّة القائد المُعظَّم والباني المُخلِص قابوس بن سعيد مرحلة البناء والتنمية والتطوير التي اتَّجهت إلى عُمان بأكملها من مسندم إلى ظفار مرورًا بكُلِّ مُدُن هذا الوطن الغالي وقراه. وفي ظلِّ هذه الأثناء كان هناك ما يشغل العُمانيين، فتحقيق التنمية والتقدُّم والازدهار مرتبط بوجود الأمن والاستقرار والسَّلام، فكان الحادي عشر من ديسمبر من عام 1975 على موعد مع نصر مؤزَّر، وانتصار حاسم، يدحر قوى البغي والعدوان، وأشكال الظلم والقهر لبناء معادلة السَّلام، لِتشرقَ على أرض بلادي حياة السَّلام والتنمية والازدهار.
إنَّ الثالث والعشرين من يوليو كان ولا يزال خيوط امتداد لنهضة عُمان المُتجدِّدة، ومحطَّة اتصاليَّة روحيَّة متناغمة مع أبجديَّات البناء الإنساني؛ لأنَّها عكست بحقٍّ إنسانيَّة النهضة. فعلى الرغم من الظروف الصعبة والأوضاع الاقتصاديَّة الاجتماعيَّة القاسية، والمسارات الغامضة الباهتة التي يحتضنها الجهل وغياب التنوير، جاء الثالث والعشرون من يوليو باعثًا للنُّور حاملًا الأمل، فاتحًا طريق الخير لعُمان وشَعبها، واضعًا حماية الإنسان العُماني واحترام حقوقه في أولويَّات الاهتمام ومحور العمل، في حوار مع النَّفْس يحاكي خلجاتها، ويلامس شغافها، ويسمو بفِكرها، ويبعث فيها الأمل بقادم جديد، وغدٍ مُشرق سعيد، وروح مُتجدِّدة بالأمل، تنبض بالحياة، وتستجيب للأمنيات المتعاظمة، والأحلام الكبيرة والغايات البعيدة، فتحقَّق لعُمان من صنوف الإنجاز والتنمية والتقدُّم في مختلف المجالات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والتعليميَّة والخدمات، ما لا يحتاج إلى تبيان، فقد تبوأَّت مكانتها الراقية، ومنزلتها السَّامية الرفيعة التي وضعها فيها، وأرادها لها، وسهر على تحقيقها فكتب الله له النجاح والتوفيق فـ»لقد عكس توافد قادة العالَم ووفود الهيئات والمنظَّمات الدوليَّة، تقديرًا عالميًّا، للمكانة الدوليَّة للسُّلطان الراحل ومكانة السَّلطنة، التي كرَّس حياته من أجْل تحقيقه».
وعليه، فإنَّ تجسيد هذه الأيَّام الوطنيَّة العظيمة في حياة الأبناء وتجديدها في قناعاتهم وأفكارهم، والحديث عَنْها بكُلِّ فخر وشموخ واستشعار بِدَوْرها في إعادة إنتاج الواقع وإيقاد نور التجديد في حياة الأُمَّة العُمانيَّة، وغرس فضائلها في فِقه الناشئة وتجديد الاعتراف بها في حياة الأُمَّة العُمانيَّة؛ لَمْ يَعُد سلوكًا مزاجيًّا ولا حالة فرديَّة، بل هو واجب وطني يعكس مستوى الترابط والتناغم الذي التزمته نهضة عُمان، وجسور المودَّة والحُب التي أصَّلتها في كُلِّ شِبر على أرض عُمان الغالية، فكان هذا التكامل والعمل بروح الفريق والانسجام الحاصل بَيْنَ مؤسَّسات الدولة، وولاء المواطن لسُلطانه وانتمائه لوطنه، وصدق ما يحمله من حسِّ المواطنة وروح التجديد، إنَّما هي نتاج لهذه الصورة التي رسمتها أحداث الثالث والعشرين من يوليو، وانطلقت منها مسارات النهضة، وهي محطَّة جديرة بأن تكُونَ حاضرة في فِقه الأجيال، وهو ما سطَّره بأحرُف من نور مُجدِّد النهضة حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم وفاء لقابوس باني نهضة عُمان الحديثة، أعزِّ الرجال وأنقاهم بقوله: «واستعراض إنجازاته العظيمة ومآثره الخالدة التي ستبقى مفاخر وطنيَّة لعُمان الغالية، حاضرًا ومستقبلًا ومصدر إلهام للأجيال القادمة يستلهمون مِنها الإخلاص والتفاني في خدمة الوطن والحفاظ على قِيَمه ومكتسباته وصون أمْنِه واستقراره والإسهام في نمائه وازدهاره».
لقد حُفرت شواهد هذا اليوم الماجد في الذاكرة العُمانيَّة، ونُقشت بأحرُف من نور في جبين التأريخ، فتشرَّبته القلوب، وعشقته النفوس، وانقادت له الأذهان، وتماهت أحداثه مع كيونة إنسان النهضة، وتجلَّت مواقفه في تفاصيل حياة الإنسان العُماني، وبقيَتْ كُلُّ التعابير الوطنيَّة التي تشدو بحُبِّ عُمان وخصوصيَّة هذا اليوم، حاضرة في حياة إنسان النهضة، فكان: «صوت للنهضة نادى، هبُّوا جمعًا وفرادى»، سيمفونيَّة روحيَّة، تستنطقها المشاعر قَبل الكلمات، وترددها القلوب قَبل الألسن، وتتغنَّى بها النفوس التي وُجدت في هذا اليوم طريق الكرامة والعزَّة والنهضة، وانطلقت نهضة عُمان من هذا اليوم التاريخي شاقَّة طريقها إلى عنان السَّماء، بسم الله مجريها ومرساها، عملًا دؤوبًا، ونهجًا مخلصًا، وسهرًا متواصلًا، وترحالًا مستمرًّا لكُلِّ عُمان الغالية، تاركًا القصور والمُدن ليتَّجه إلى الصحاري الواسعة، والفيافي البعيدة، والأودية والأماكن الصَّعبة في جولاته السَّامية متنقلًا في أرض عُمان العظيمة ليطمئن قلبه على أنَّ الخدمات قَدْ وصلت للمواطن وأنَّه يعيش في أمن وسلام واطمئنان؛ لذلك لَنْ ينسى أبناء النهضة هذا اليوم العظيم وشواهده التي ملأت الآفاق، وإنجازاته التي أضاءت الأرض والسماوات، والتي سجَّلتها العقود الخمسة التي تلت الثالث والعشرين من يوليو لعام 1970 «شهدت خلالها سلطنة عُمان تحوُّلًا كبيرًا في بناء الدولة العصريَّة، وتهيئة البنى الأساسيَّة الحديثة والمتطوِّرة في كافَّة رُبوع الوطن، وشكَّلت الروح الإيجابيَّة التي انطلقت مِنها مَسيرة البناء خير دافع لأبناء عُمان أن يضحوا من أجْل وطنهم بالغالي والنفيس فكانوا خير حاضن للتنمية وخير من أحسنَ إليها ورفع قدرها وعزَّز من وجودها، فحقَّق الله على أيدي أبناء عُمان ما يفاخر به أبناء النهضة اليوم، وما كان مأمولًا أن يصلَ لأجيال عُمان المستقبل، لتبدأ نهضة عُمان المُتجدِّدة من حيث انتهت إليه الصفحة الخمسون من فصول البناء الذي سطَّرته أمجاد الثالث والعشرين من يوليو «وإنَّنا ماضون بعون الله على طريق البناء والتنمية، نواصل مَسيرة النهضة المباركة، كما أراد لها السُّلطان الراحل رحمه الله…».
أخيرًا، يبقى صدور قانون الحماية الاجتماعيَّة بالمرسوم السُّلطاني (51/2023) علامة فارقة وحدثًا تأريخيًّا فريدًا في سلطنة عُمان عَبْرَ وجود نظام حماية اجتماعيَّة متكامل يستهدف تغطية المواطن من جميع النواحي الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، وما حمله من معاني الغبطة والفرح والسرور وعبارات الولاء والعرفان لمُجدِّد النهضة المباركة مولانا حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم، حيث جاء وقت صدوره متزامنًا مع حدثَيْنِ عظيمَيْنِ لهما دلالاتهما الكبيرة وأهمِّيتها العظيمة في حياة الأُمَّة العُمانيَّة، أوَّلها الاحتفال بالهجرة النَّبويَّة على صاحبها أفضل الصَّلاة وأزكى التَّسليم، وما سطَّره حدث الهجرة في تاريخ الإسلام العظيم والإنسانيَّة جمعاء من معانٍ ودلالات لبناء الأوطان وصناعة الإنسان، وتعزيز العدالة وتحقيق السَّلام والتنمية، وبناء موازين القوَّة الإيمانيَّة التي رسمها الإسلام في إطار من الحقِّ والعدل والمساواة. وثانيها، هذه الذكرى الميمونة العطرة الخالدة ـ ذكرى الثالث والعشرين من يوليو من عام 1970، لتوَلِّي ابن عُمان البار المغفور له بإذن الله تعالى حضرة صاحب الجلالة السُّلطان قابوس بن سعيد طيَّب الله ثراه ـ هذا اليوم التاريخي الذي غيَّر مجرى الحياة في سلطنة عُمان، فكان محطَّة تحوُّل في مَسيرة الأُمَّة العُمانيَّة وميلادها، وانطلاقة مظفَّرة لمَسيرتها الماجدة تعيش أمجادها الحاضرة ومستقبلها الواعد، يوم النهضة وصوتها الذي ملأ الآفاق، وأسدل الستار على عقود من حياة الضنك والفقر والبؤس، وفتح الآفاق لتحقيق العدالة الاجتماعيَّة والأمن وتكافؤ الفرص، ورسم لعُمان المستقبل طريقها ونهضتها التي تفاخر بها اليوم العالَم أجمع. فإنَّ الرابط بَيْنَ هذه الأحداث الثلاث نهج الإنسانيَّة الذي حمل في دلالته تحقيق العدالة الاجتماعيَّة وتأصيل مفهوم أعمق للأمن الاجتماعي وترسيخ معالم الوحدة والبناء والتضامن والتكاتف والتجديد وروح التغيير، لبناء مُجتمع القوَّة وصناعة إنسان الحضرة والتنمية والبناء، محطَّة تستجلي من صوت النهضة نادى، روح التغيير القادم ومنهج البناء الحكيم، والانطلاقة الجادَّة نَحْوَ المستقبل؛ ويبقى الثالث والعشرون من يوليو يوم خالد مَجيد، وذكرى عطرة حاضرة في وجدان أبناء النهضة، لَنْ تسقطَه الأزمان من ذاكرة الأيَّام، ولَنْ تسلبَه السنون والأعوام من تأريخ عُمان، الماجد وصفًا، الخالد إرثًا، وفاء لقابــــوس الباني رحمه الله، وولاء لهيثم المُجدِّد حفظه الله.
د. رجب بن علي العويسي