بداية، نجد الأفكار والأوضاع القديمة الموروثة في منطقة الشرق الأدنى تتجلى باستمرار، فليس لسلطة فرعون وازع أو حسيب، فكل ما يخرج من فم إله يبدأ ويبدع ويخلق، وكل ما يتفوه به صاحب الجلالة يجب أن يتم وأن يتحقق في الحال، فمشيئة الملك وإرادته هي القانون ولها ما للعقيدة الدينية من القوة، ولنقارن بين ذاك الأمس البعيد كم يشبه حالنا اليوم؟!
بالعودة إلى الحضارة المصرية والتي أفند أجزاء مختصرة منها، تلخيصاً لقراءاتي في تاريخ الحضارات مع التركيز على الوضع القانوني في ذلك الزمان، نتبين أن مفهوم الملكية المؤهلة في مصر ركز على النظام الاخلاقي فيه، وعبّر عنه بكلمة “معات” التي تقوم على مفهوم العدالة والحقيقة والإستقامة، كما تعني الحق والصدق والصادق والحقيقي والحازم والثابت، .. إلخ. بحيث أصبحت تعبر عن النظام الخلقي للعالم.
وقد ارتقى هذا المعنى حتى أصبح الإله (الذي هو الحق والعدل والإستقامة قديماً يسكن قلب الإنسان أو ضميره)، لكن ما يدعو للعجب أن مفهوم الملكية كان يقول أن “معات” كانت تفرض نفسها على الملك بشكل حازم وقوي لا يقاوم، بل أكثر من ذلك، قد تكون بين الحضارات التاريخية القديمة، الوحيدة والأولى التي استطاعت أن تحدد وتلطف من طغيان السلطة المطلقة في نظام ملكي، كما وجد في بعض النصوص، بين ملك وابنه، وملك ووزيره، من خلال إرشادات تؤكد على رغبة الآلهة في أن يحق الحق وكره الأخذ بالوجوه والتحيز.
ويلاحظ من بعض المقطوعات المكتشفة أن فكرة الحق والعدالة أخذت أيضاً في وصايا “تباح حتب”، إلى ولده مكاناً مرموقاً حيث قال: “لا تطمعن في مال أقاربك، فإن الإلتماس اللين يجدي أكثر من القوة، إن الرجل الكيّس (الجيد) هو الذي يجعل زوجته سعيدة، اجعل قلبها فرحاً ما دمت حيّاً فهي حقل مستمر لسيدها، وإذا كنت حاكماً تصدر الأوامر للشعب فابحث عن كل سابقة حسنة فالحق جميل وقيمته خالدة، والرجل الذي اتخذ العدالة معياراً له وسار وفقاً لجادتها يكون ثابت المكانة وأبرز واجب تنطق به سطور هذه الوصية هو (إزرع الحق وعامل الجميع بالعدالة)، انظروا وتمعنوا ما أجملها من وصية، كم نحتاج مثلها اليوم!
إن الأمر المهم هو أن نجد نصوص قديمة تشير إلى المساواة والعدالة التامة بين بني الإنسان، والتي ترددت معانيها عبر التاريخ في الأديان والحضارات المختلفة وبخاصة في بعض الأديان السماوية التي ظهرت في منطقة الشرق الأدنى، فظهور النظرة إلى الإنسانية بما يعني أن الخالق العظيم عند خلقه جعل الناس سواسية أمام المسؤولية الخلقية، وهذا الأمر يعتبر غريباً في ذلك الزمان الذي كانت تتدرج فيه الأحكام القضائية في بعض الشرائع كشريعة حمورابي المعاصرة حسب مكانة المذنبين والمتخاصمين الاجتماعية.
لكن إحقاق العادلة لم يتحقق بالطريقة المرجوة، وشيئاً فشيئاً انتقل الناس إلى الإيمان المطلق بالخالق لإحقاق حقهم المفقود.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.