تُعد المجالس البرلمانية الحرة في أي بلد ديمقراطي بمثابة الرئة التي يتنفس من خلالها المواطن الهواء النقي الذي يُساعد على استمرارية الحياة الكريمة، بعيدًا عن التبعية والمماحكات السياسية، لم لا فهذه المنابر يُفترض أنها تزخر بقامات سياسية وقانونية وتربوية وصلت بأصوات الشعب الذي اختارها لتمثله أمام السلطة التنفيذية في أي بلد يحترم إرادة الشعب.
والبرلمان الذي يُراد له النجاح والاستمرارية، يجب أن تكون وظيفته الأساسية التشريع وسن القوانين، ومراقبة أداء الحكومة ومحاسبتها عن أي قصور تجاه الشعب، كما تعمل المجالس البرلمانية في المجتمعات المتطورة على محاربة الفساد واستجواب المخالفين للأنظمة والمُفسدين الذين خانوا الأمانة المُوكلة لهم. من هنا، ينتظر المجتمع العُماني بكل أطيافه الاستحقاق الانتخابي المتمثل في انتخابات الفترة العاشرة لمجلس الشورى، والتي ستجرى في الأسابيع المقبلة بعون الله، وسط منافسة شديدة من المتقدمين للفوز بالمقاعد المخصصة لولايات السلطنة التي رفع عددها مؤخرا إلى 63 ولاية؛ فهناك الولايات ذات الكثافة السكانية التي تُمثَّل بعضوين، بينما تُمثَّل معظم الولايات الأخرى بعضو واحدٍ فقط. وتأتي هذه الانتخابات في أعقاب جهود جبارة بذلها الأعضاء في الفترة التاسعة في مختلف القضايا والتحديات التي تواجه المجتمع؛ فقد أصبح المجلس يمثل نبض الشارع العُماني. وقد تَمثَّل ذلك في التعامل الجاد مع القوانين المُحالة للمجلس من الحكومة وعلى وجه الخصوص “نظام الحماية الاجتماعية” الذي أجمع المجلس لأول مرة على تعديل وإضافة مواد قانونية إليه لكي تكون مُنسجمة مع تطلعات المجتمع العُماني. صحيحٌ أنه عند ما نوقش مشروع القانون والتصويت عليه في مجلس عُمان، لم تُمرَّر كل التعديلات المقترحة من ممثلي الشعب. كما استطاع المجلس أن يقر استجواب أحد الوزراء بنسبة مطلقة بلغت 77% لأول مرة في تاريخ المجلس منذ تأسيسه 1991؛ وهذه الخطوة تعد أول سابقة في سلطنة عُمان. ولعل البيانات العاجلة التي أدلى بها العديد من أعضاء المجلس حول خسائر الطيران العُماني وتعثر ملف الباحثين عن عمل وعرقلة تأسيس جمعية الغارمين، كانت من أهم القضايا المطروحة في تلك البيانات في أروقة المجلس.
من المستجدات المُبشّرة بالخير صدور المرسوم السلطاني رقم (54/ 2023) والخاص بقانون انتخابات مجلس الشورى؛ إذ اعتمد هذا المرسوم التصويت الإلكتروني بعد النجاح الكبير الذي تحقق في انتخابات المجلس البلدي في دورته الثالثة، وقد نجحت السلطنة في توظيف التكنولوجيا والتقنية الحديثة في الانتخابات، من خلال التصويت الإلكتروني واستخدام الأجهزة الذكية بحكمة واقتدار؛ متجاوزة بذلك دولًا متقدمة في هذا المجال. والتصويت الإلكتروني يوفر الجهد والمال والوقت ويحقق الهدف الأسمى من الانتخابات.
مثَّل قانون الانتخابات الجديد نقلة نوعية في تنظيم وحماية النظام الانتخابي في السلطنة، وتمثل اللجان الانتخابية- واختصاصاتها- خطوة متقدمة نحو نجاح العملية الانتخابية، لا سيما اللجنة العليا التي يتولى أحد نواب رئيس المحكمة العليا رئاستها المطلقة، وليس أحد أعضاء السلطة التنفيذية مثل بعض الدول. ومن أهم ما ورد في الفصل السابع من القانون الجديد؛ عقوبات لكل من يُزوِّر الانتخابات من اللجان المشرفة أو يخترق النظام الإلكتروني للانتخابات، كما إن هناك عقوبات رادعة لمن يقدم رشاوى أو أي مكاسب مادية للناخبين.
لا شك أن الهَمَّ الأكبر الذي ألقى بظلاله على انتخابات الشورى منذ انطلاقها قبل أكثر من 3 عقود من الزمن؛ هي أساليب المُحاصصة القبلية والمصالح الشخصية وتبادل الأدوار في الانتخابات، فقد حذّرت الحكومة والعلماء وأهل الحكمة من أبناء السلطنة المخلصين، من خطورة وصول أشخاص غير مُؤهلين لمقعد المجلس، ولكون أن المجتمع بالمجمل تقليدي وقبلي؛ فإن الأمر يبدو طبيعيًا، لكن هناك من يؤمن بالتغيير نحو الأفضل مع مرور السنوات، خاصة بظهور وتطور المجتمع المدني، مثلنا مثل غيرنا من المجتمعات الأوروبية التي كانت قبل قرون مضت تعاني من المحسوبية القبلية والمحاصصة الإقليمية والمصالح التجارية عند اختيار من يمثل المدينة.
ووسط هذه الظروف، ظهرت في الأفق تجربة ناجحة في سماء السلطنة تحت مسمى “تجمع صلالة الانتخابي”، وذلك منذ بضع سنوات؛ حيث يتميز هذا التجمع الذي يطلق عليه مؤسسيه “فسيفساء المدينة”، بمكونات مختلفة من القبائل والأسر العُمانية في ولاية صلالة. ويتميز هذا التجمع بدفع من يرى في نفسه القدرة إلى خوض انتخابات المجلس للمنصة؛ لكي يدخل المنافسة الحرة مع المرشحين الآخرين في التجمع، بحيث يتم اختيار مُرشَّح واحد من بين المجموعة المتقدمة لتمثل هذا التجمع في الانتخابات. وعلى عكس التجمعات الأخرى؛ فالقبيلة غير حاضرة هنا في تجمع صلالة. ويعزز من ذلك وجود كوكبة من الكتاب والمفكرين والشيوخ ورجال الأعمال وأعضاء سابقين في المجلس، ما جعل من هذا التجمع واحدًا من النماذج الواعدة في هذا البلد العزيز.
لقد شرفني هذا التجمع بالمشاركة في طرح الأسئلة على المتنافسين الستة في الفترة العاشرة للانتخابات المقبلة، بحيث يتم اختيار ممثل للتجمع، وذلك للمرة الثانية على التوالي. كما كنت قد شاركت في أغسطس 2019 في التصفية التي قادت إلى وصول المرحوم عبدالله المشهور إلى المجلس مُمثلًا لتجمع صلالة، هذه الشخصية النادرة التي فرضت نفسها على المُحكِّمين؛ كانت خير من يُمثل السلطنة قاطبةً وليس فقط ولاية صلالة، وقد عمَّ الحزن أرجاء عُمان عندما غيّبه الموت قبل عامين؛ لما كان يتمتع به من حسٍ وطنيٍ ويحمل همَّ الوطن والمواطن من صرفيت إلى مسندم.
وفي ظل تميُّز “تجمع صلالة” ومحاولة القائمين عليه الدفع به كنموذج مُلهم لمختلف الولايات العُمانية للأخذ به، يحرص التجمع على دعوة الضيوف من العديد من ولايات السلطنة للتعرف عن قرب على هذه التجربة الانتخابية. إلّا أنني لاحظت وجود 64 مُقيِّمًا يمثلون مختلف الكيانات في هذا التجمع وهذا يشير مُجددًا إلى وجود تشبث بمفهوم “المحاصصة القبلية” بطريقة أخرى، فهذا العدد الكبير الذين يضعون الدرجات للمترشحين يُمثلون مختلف الشرائح؛ فهم يحتاجون بالدرجة الأولى للالتحاق بورش عمل، وذلك لاكتساب مهارات تساعدهم على التقييم العلمي لمثل هذه الحالات.
من المفارقات العجيبة عند طرحي أسئلة المحاور على الأشخاص المتقدمين في المنصة، أن يشتكي هؤلاء الذين يتولون التقييم من عدم فهم الأسئلة، بينما الخاضع للاختبار يستطيع أن يفك طلاسم السؤال المُوجَّه له بسهولة ويسر! فدواعي وجود هذا العدد الكبير في لجنة التقييم يثير التساؤل وعلامات التعجب! كما إن إحجام الكفاءات المعروفة عن الترشح في الفترة العاشرة يبعث برسالة مُقلقة حول مستقبل التجمع؛ فعدد المتقدمين في الفترة التاسعة كان ضعف الرقم الحالي المتقدم لانتخابات الفترة العاشرة، والذي نزل إلى أقل من النصف!!
د. محمد بن عوض المشيخي/ أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري