استكمالًا للرحلة التاريخية التوثيقية، للقصور السُّلطانية، التي اضطلع بها مركز ذاكرة عُمان، والتي سطرتُ لها – حتى لحظة هذه الكتابة – تقريرين اثنين، معززين بصورٍ فوتوغرافية، بعنوان (القصور السلطانية في زنجبار 1، 2)؛ فلقد تشرفت مُجددًا، بتاريخ 7 أغسطس 2023م، بمرافقة الفريق الفني الزائر لأقدم القصور السلطانية في زنجبار، المعروف بـ “بيت المتوني”. ما أجلّه من مكسبٍ، وما أعظمه من مغنم، أن تأتي الزيارات بدلالة ربيب القصر، وأكثر الناس قربة إلى السلطان خليفة بن حارب، الأستاذ رياض بن عبدالله البوسعيدي، الذي قدم لنا دررًا من القصص والروايات المتصلة بالقصور.
شُيّد هذا البيت “القصر” في عهد السلطان سعيد بن سلطان، في سنة 1829م، ويقع على بعد ستة كيلومترات تقريبًا من قلب المدينة الحجرية، في زنجبار. وكما هو حال سائر قصور زنجبار، فلبيت المتوني إطلالة بحرية في غاية الروعة والجمال، ويقف بجانبه مسجد صغير، هو مسجد ابن أبي نبهان، الشيخ العلامة ناصر بن جاعد بن خميس الخروصي. وقبل الإشارة إلى سبب تسمية القصر بهذا الاسم، أرى من المناسب أن أُعرف القارئ الكريم بأصل كلمة (متوني) وجذرها. تمهيدًا لذلك، نسترعي الانتباه إلى أن اللغة السواحيلية، إنما هي من نتاج الانصهار الاجتماعي بين الثقافتين العربية والبانتوية؛ ولذلك، فهي مزيج من اللغة العربية وبعضٍ من لغات البانتو، وأن الكلمة محل البحث، هي بانتويةٍ صرفة، لا علاقة لها بلغة الضاد. أما عن جذر كلمة متوني، فهو (متو)، أو (Mto)، والذي يعني نهر، أو قناة مائية. وأخذًا في الاعتبار تركيبة اللغة السواحيلية التي تأخذ بفكرة المقاطع التي تضاف إلى سوابق الكلمات وإلى لواحقها، وفق مقتضى السياق، المعروفة في الإنجليزية بـ(Prefix & Suffix)، اسمًا كانت تلك الكلمة، أو فعلًا، أو صفة، أو ظرفًا؛ لأجل اشتقاق كلمات جديدة من جذورها. وأخذًا في الاعتبار أيضًا أن إضافة مقطع (ني)، أو (ni) إلى نهاية الأسماء، يشير إلى المكان؛ لتعني بذلك كلمة (متوني)، “حيث النهر”، أو “مكان النهر”. وهو ما يؤدي بنا إلى القول أن (بيت المتوني) شُيد في مكانٍ توجد فيه قناة مائية. جدير بالذكر، فإن السلطان سعيد استغل هذه الميزة، ومدّ من القناة، قنوات مائية، على غرار، منشأً بذلك ما يشبه نظام الأفلاج العُمانية، لتغذية احتياجات القصر من المياه؛ لا تزال بعض تلك القنوات باقية في الحمامات التركية الموجودة في حديقة القصر؛ ولكن، دون أدنى أثر للمياه.
استحضرتُ، بألمٍ شديد، فور ترجلي من السيارة التي أقلتنا إلى المكان، ووقوع عيناي على أطلال البيت، وصف السيدة سالمة، ابنة السلطان سعيد بن سلطان، في مذكراتها التاريخية المشهورة، بأن “بيت المتوني” يعد، بلا منازع، أعظم قصور زنجبار؛ إلّا أن جُل الأوصاف الجميلة الواردة في تلكم الوثيقة التاريخية، ذهبت أدراج الرياح، مع من ذهب من سكانه، ولم يبقَ منها إلّا حديث الذكريات. فلا وجود للنباتاتِ الاستوائيةِ العملاقةِ التي أحاطت بالبيت؛ ولا أثر لتلك الكثافة الموصوفة من أشجار النارجيل ولا المانجو؛ بل، حتى الأحواض المائية الأندلسية، التي انتشرت في تلك الحدائق، أضحت أثرًا بعد عين.
ومع ذلك، فالبقيةُ الباقية من أطلال هذا القصر، تشي بعظمةِ المكان وفخامته؛ فضلًا عن عظمة من شيّده؛ وغالبًا، من سكنه أيضًا. يُذكر، فإن البيت كان يتّسع لألفِ شخص؛ وفقما ورد في مذكرات السيد سالمة. فسماكة الجدران، ورحابة البهو، ونُدحة القاعات المنتشرة، تقطع بهذا المضمون. أحد زوار القصر وصفه بالعبارات التالية: “باب البيت يفتح على رواق المدخل، ومن ثم إلى الجزء الرئيس من البيت، وإلى غرفٍ للضيوف. جدران بعض القاعات مزينة بمرايات طويلة، والتي أضفت على المكان جمالًا فوق جماله. يتقدم البيت برج دائري الشكل، …. الجزء العلوي منه يستخدم كمكانٍ للجلوس، متصل بشرفةٍ مُضلعة. قمة البرج مسقوفة بشكلٍ مخروطي، كالخيمة تمامًا”. لم يرد في ملاحظة هذا الزائر؛ ولا في مذكرات السيدة سالمة، ما يشير إلى أن البرج استخدم لأغراضٍ دفاعية؛ كما لم نلحظ في جدران القصر فتحات للمدافع، كتلك التي نلحظها في القلاع والحصون العُمانية؛ وهو ما يشير، بحدِّ ذاته، إلى شيوع الأمن والأمان في زنجبار، في تلك الحقبة من الزمان.
في ختام جولتنا لبيت المتوني، وقفنا على قبر الشيخ ابن أبي نبهان الخروصي، ودعونا له بالرحمة والمغفرة والثبات. تابعونا في الحلقة القادمة، التي خصصناها لبيان مجريات زيارتنا لاستراحة السعادة.
ناصر بن عبدالله الريامي- مؤلف كتاب (زنجبار: شخصيات وأحداث)