نعم إنِّه الزَّواج الذي كان سهلًا، ولكنه امتنع عن أن يظل كذلك، فصار صعبًا بأيدينا نحن أبناء المجتمع، بدليل عندما حلَّ وباء كورونا بنا، أمتلكنا (عقدنا قرانًا) بلا ضجيج ولا تفاخر، وكذلك تزوجنا بهدوء ونقلنا الزوجة إلى بيت زوجها بلا غلو أو مباهاة، فتحققت المقولة التي تقول “ربَّ ضارة نافعة”؛ ففي أيام كورونا كان يأتي الملِّيك إلى منزل أحد الأبوين مع اثنين من الشهود، وعلى جلسة قهوة عائلية، يتم عقد القران، وكان عقدًا شرعيًا طيبًا مُباركًا؛ لأنه لم يشُبه تبذير أو إسراف، ومن ثم تبعه زواج سهل موفق، فما شابته شائبة الغلو والمباهاة، التي تذل العريس وترهقه، وترهنه للديون والفقر لسنين طويلة، وتجعل الزوج يتمنى لو أنَّه ما تزوج، وسيظل ينظر إلى الزوجة، على أنها هي السبب في تعسه وشقائه، طالما ظلَّ مرهونًا للبنوك بالديون، فهكذا حال مُعظم أبناء المجتمع اليوم، يكابدون الديون وآثار الزواج.
لقد كان العُماني في الماضي، يتزوج مبكرًا؛ لأنَّ الزواج يساعده على الإنجاب، والأبناء سيكونون عونًا له في العمل، وسندًا يرفع به رأسه أمام الجيران، وفرقة خاصة في الدفاع عن الأهل والعائلة، وحتى من شرور الطغاة، أو الغرباء وقطاع الطرق. أما اليوم، فهذه المهام التي تقوم بها الدولة، أما رعاية الأسرة والحفاظ عليها، فإنه يقوم به أبناؤها، لذلك ترى اليوم الأبناء والأبوين حاجتهم واحدة في بعض الحالات؛ فالكل منهم يطلب من يرعاه، لأن الأبوين أصابتهم الشيخوخة، وذلك نتيجة للزواج المتأخر، والأبناء لا يزالون صغارًا عن القيام بواجب الوالدين، فيحتاجون إلى من يرعاهم حتى يكبروا.
وإذا نظرنا إلى تكاليف الزواج المُبالغ فيها، فإننا سنجد المَهر مرتفعًا جدًا، وكأنه بيع لا رجعة فيه، وطلبات الزوجة وأهلها أمرا فاحشا، وكأنه انتقام من النسيب، الذي أتى لمناسبتهم وطلب القرب منهم، وهناك تكاليف متسلسلة من الاحتفالات المبالغ فيها، وذلك بدءًا من الملكة (عقد القران)، ثم حفلات الزواج المتنوعة، وهي مُقسمة بين النساء والرجال، وما كان قد ترتب على ذلك من ترتيبات مسبقة، كالمنزل والتأثيث والسيارة والذهب والزينة المفرطة، فبدلًا من فتح بيت سعيد لأسرة جديدة، سيجد المرء نفسه، أنه كمن يبني مقصلة لإعدامه ببطء بالديون، وعار الفقر، وذلك بالارتهان للمُقرضين وفي الغالب المقرضون هم البنوك، وسيدخل المسكين في ديون لها بداية.. وهو يوم الزواج، ولكن ليس لها نهاية في الأفق المنظور.
لقد أعجبتني مبادرة قامت بها “نساء قبيلة مطير الكويتية”؛ حيث طالبن بمهور رمزية للزواج، وإلغاء حفلة الملكة، والاحتفالات المبالغ فيها للزواج، بحيث لا تتجاوز عائلات الأهل والأقارب، فلا قاعات ولا بهرجة كبيرة، ولا كوشة ولا كراسي مزخرفة، ولا استئجار فرق موسيقية، ولا حضور لكل من هب ودب، ولا حجز للفنادق والقاعات الخاصة. وأظن مثل هذا الزواج يكون هو الزواج المبارك، لأنه ليس فيه تبذير.. أو مغالاة، أو تباهٍ وإسراف في كل شيء، كالأكل والزينة والمواكب المزعجة للمرضى، وأصحاب الأعمال بالأوقات الخاصة.
وهذا مقتطف من البيان الذي أطلقته نساء قبيلة مطير في الكويت، وهي قبيلة كبيرة، ومُنتشرة في شبه جزيرة العرب، فقد قلن في استهلال بيانهن الآتي: (بداية الاقتباس)
“وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍۢ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ”، وقال تعالى: “وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ”.
و”نظرًا لدخول أمور غير مقبولة شرعًا ولا عقلًا للمجتمع لا تمُت للدين ولا للمنطق بأيِّ صلة ألا وهي الإسراف والتبذير لدرجة مبالغ فيها وظهور مناسبات وحفلات واستقبالات ليس لها معنى ولا طعم والتي أفقدت الفرح زهوته من كثرتها وأصبحت عبئًا ثقيلًا على كافة السيدات والعوائل وليس لها من مستفيد إلا أصحاب المحلات الذين وصلوا لمرحلة من الابتزاز المقيت للناس دون حسيب ولا رقيب مستغلين تفاهة بعض العقول وعدم شكر النعمة الذي ابتلينا به من البعض من النساء هداهن الله”. (نهاية الاقتباس).
إنني متأكد لو أن بعض القبائل العُمانية، تتبنى مشاريع كاسرة لهذا الغلو في الزواج، لانتشرت هذه المبادرة في المجتمع العُماني من أقصاه إلى أقصاه، وبسرعة كبيرة، والعُماني يحب أن يرد التحية بأحسن منها، ويسعى للمنافسة وخاصة المنافسة الحميدة، وفي المقابل يحتاج من الحكومة التدخل بوضع التشريع في الوقت المناسب، ومنع الميسرين من الغلو في احتفالاتهم، وذلك حتى يكونوا قدوة حسنة لغيرهم من النَّاس، ويحفظوا أموالهم لأشياء مفيدة ومثمرة، ولأن المجتمع العُماني مطيع ومنضبط، ويحب التنظيم والتشريعات التي تخدم مصالحه فسوف يتقيد بذلك.
إذن؛ بمقدورنا أن نجعل من الزواج سهلًا ومرغوبًا، فعندئذ لن نحتاج إلى فتح أبواب الطوفان نحو الزواج من الخارج، الذي له سلبيات كثيرة ستظهر على التوالي بمرور الأيام، ووقتذاك لن ينفع الندم، وقد ذكرت الكثير من السلبيات في مقالة سابقة لي بعنوان “لست ضد.. ولكن” والتي تم نشرها في جريدة الرؤية في شهر مايو الماضي.
إذن؛ بإمكان المجتمع العُماني، أن يُساعد في حل هذه الإشكالية، والتي أخذت في التفاقم بمرور الأيام، وجعل الزواج سهلًا من غير امتناع، ومرغوبًا من الجميع بالاقتناع، وذلك من خلال الدور الذي يجب أن يقوم به الإعلام الوطني، وخطب الجمعة التي ما فتئت تخاطب الصحابة في صدر الدولة الإسلامية، وتتجاهل الزمن الحاضر، والغزوات الثقافية الغربية التي تستهدف إلغاء صفة الذكر والأنثى للإنسان، وكذلك على المؤسسات الحكومية، أن تتدخل بين وقت وآخر، وتضبط سلوكيات الناس، وذلك بمنع شطحاتهم الخارجة عن الأعراف والتقاليد الحميدة، وتمنع الظواهر التي تنشأ بغفلة من الجميع.. حفظ الله عُمان وشعبها الأبيِّ وسلطانها المبجل الأمين.
حمد بن سالم العلوي