نحن أمام قصة مثيرة، لم تحدث في الوطن العربي أو في القارة الأفريقية أو في آسيا أو في أمريكا الجنوبية، وإنما وقعت في الولايات المتحدة الأمريكية التي “تسعى” لنشر وفرض ديمقراطيتها على العالم، عندما داهمت شرطة مقاطعة “ماريون” الأمريكية يوم الجمعة الحادي عشر من أغسطس 2023، مقر صحيفة “ماريون كاونتي ريكورد” المحلية، وصادرت أجهزة الحاسوب والهواتف المحمولة الشخصية للصحفيين، وكذلك داهمت منازل عدد منهم كجزء من تحقيق في سرقة هوية مزعومة لمدير مطعم، كان على خلاف مع الصحيفة، كما داهم الضباط منزل مالك الصحيفة إريك ماير، الذي كان يعيش مع والدته جوان ماير البالغة من العمر ثمانية وتسعين عامًا، التي توفيت من رعب المداهمة في اليوم التالي للحادثة.
وبداية الأزمة كانت يوم الأربعاء التاسع من أغسطس، عندما نشرت الصحيفة تقريرًا عن المطعم المذكور وصاحبه، وذكرت شرطة المدينة أنّ سبب المداهمة والمصادرة “تسريب ونشر وثائق حساسة عن نشاط إجرامي”، وهي الاتهامات التي نفاها إريك ماير، موضحًا أنّ مصدرًا سريًّا قدّم وثائق تفيد بأنّ كاري نيويل صاحب المطعم – وهو من رجال الأعمال في المدينة – أدين بالقيادة تحت تأثير الكحول، وأنه كان يقود سيارته بدون رخصة، واستخدم أحد المراسلين موقعًا للتحقق من صحة المعلومات حول رخصة القيادة، لكن الصحيفة قررت عدم نشر خبر عن المعلومة التي حصلت عليها، وبدلًا من ذلك – كما أوضح إريك ماير – أبلغ الشرطة المحلية بالحادثة، وفتحت تحقيقًا بذلك بالتنسيق مع سلطات الولاية.
أثارت الواقعة موجة غضب حقوقية، واعتُبرت المداهمة، الانتهاك الأكبر بحق حرية الصحافة منذ عقود في أمريكا، وأنها عمل غير قانوني، وانتهاك للقانون الفيدرالي الذي يحمي الصحفيين من هذا النوع من الإجراءات، حيث يحظر قانون حماية الخصوصية لعام 1980 – على نطاق واسع – مسؤولي إنفاذ القانون من البحث عن المعلومات أو مصادرتها من المراسلين، خاصة أنّ مذكرة التفتيش التي وقعتها لورا فيار قاضية المقاطعة، سمحت للضباط بمصادرة مجموعة واسعة من الأجهزة، في خطوة اعتبرها كثير من الحقوقيين “إساءة استخدام للسلطة من قبل الشرطة وإخلال خطير بالواجب من قبل القاضية التي وقعت عليها”.
وبما أنّ المداهمة كانت غريبة على القوانين الأمريكية، فقد أدانتها العشرات من المؤسسات الإخبارية، وأرسلت رسالة إلى رئيس إدارة الشرطة المحلية تحثه على إعادة جميع المواد المضبوطة على الفور، وُقِّعتْ هذه الرسالة من قبل أربع وثلاثين منظمة إخبارية وذات علاقة بحرية الصحافة؛ وجاء في الرسالة أنّ “عمليات البحث والمصادرة في غرفة الأخبار، من بين الإجراءات الأكثر تدخلًا وقمعًا لحرية التعبير”.
جوان ماير المرأة العجوز التي توفيتْ إثر المداهمة كانت تشارك ابنها في ملكية الصحيفة، توفيت إثر ارتفاع شديد في الضغط، “متوترة بما يتجاوز حدودها، وغارقة في ساعات من الصدمة والحزن” حسب صحيفة “نيويورك بوست” التي نشرت التفاصيل، موضّحة أنّ الشرطة لم تكتفِ بسحب جهاز الكمبيوتر الخاص بالمرأة وجهاز التوجيه الذي يستخدمه مكبر صوت ذكي، بل عمدتْ أيضًا إلى البحث في بيانات البنك والاستثمارات الشخصية لابنها إريك لتصويرها. وتقول الصحيفة إنّ جوان ماير لم تستطع تناول الطعام أو النوم بعد أن ظهرت الشرطة عند باب منزلها حتى توفيت.
بعد هذه الحادثة نتساءل: ماذا تركت أمريكا للآخرين؟! وماذا لو كانت مثل هذه المداهمة في دولة أخرى غير أمريكا؟! وماذا لو توفي شخص مسن بسبب رعب المداهمة كما حدث للعجوز جوان ماير؟! وأين منظمات حقوق الإنسان العالمية ممّا حدث؟! ألم تتصرف الشرطة الأمريكية مثل عناصر “الأمن السري” في الأنظمة التي تصفها أمريكا بأنها استبدادية؟! وتقودنا هذه الأسئلة إلى سؤال مهم: ما هو نفوذ صاحب المطعم ذاك، الذي يقود سيارته مخمورًا، ثم يتسبب في اقتحام موقع صحيفة محلية ومداهمة منازل الصحفيين ووفاة سيدة مسنة، حتى قبل أن ينشر الموضوع؟! ألسنا أمام قصة من قصص العالم الثالث أو الرابع؟!
فتحت مداهمة مكاتب ومنزل إريك ماير من قبل ضباط الشرطة الأمريكية نقاشًا حول مستقبل حرية الصحافة في أمريكا، ولا عجب أن يقول إريك إنه خلال العشرين عامًا التي قضاها في صحيفة “ميلووكي جورنال” وستة وعشرين عامًا في تدريس الصحافة في جامعة “إلينوي”، لم يسمع مطلقًا عن قيام الشرطة بمداهمة إحدى الصحف، وأنّ ما حصل سيكون له تأثير مخيف على الصحفيين في أداء عملهم، وسيمتد هذا التأثير على المصادر التي تزوّد هؤلاء الصحفيين بالمعلومات.
فإذا كان هذا حدث في الولايات المتحدة التي تتمتع حرية التعبير فيها بحماية شديدة من القيود الحكومية، بموجب التعديل الأول للدستور الأمريكي، والعديد من قوانين ودساتير الولايات والقوانين الفيدرالية، فماذا نقول عن الوطن العربي ودول العالم الثالث؟.
زاهر بن حارث المحروقي
جريدة عُمان: عدد الاثنين: 28 أغسطس 2023م