بدأ تعريف “العمل” يتغير بتغير الظروف الاقتصادية والتقدم التكنولوجي المستمر، وأدى التغيير والتحديث في الاقتصاد إلى ظهور قوة عاملة جديدة تتميز بالعمل القائم على الاستقلالية والتعاقد مع الجهات المختلفة وتغير مفهوم العمل التقليدي “الوظيفة ذات الدوام الكامل محددة الساعات”، وقد سهلت المنصات الرقمية ذلك من حيث تبادل الموارد والعمالة حيث تعمل على تسهيل العلاقة بين البائع والمشتري.
لقد أدى التطور السريع في التحول الرقمي للاقتصاد إلى ظهور وظائف وأشكال جديدة من التوظيف جديدة لم تكن موجود من قبل تختلف عن شكل الوظائف التقليدية حيث تقوم الوظائف الجديدة على فكرة إنشاء منصات قائمة على التكنولوجيا الرقمية حيث يتم عملها حسب الطلب ويرجع الفضل في ذلك إلى سرعة التطور الهائل في مجال تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات مثل الإنترنت والهواتف الذكية مما أدى إلى ظهور نوع من الاقتصاد يقوم على العمل المؤقت وهو يتميز بالمرونة.
وإذا عدنا بالزمن إلى الوراء مرحلة ما قبل الحداثة والتطور التكنولوجي الحالي الذي نحن بصدده الآن فإننا نجد الشكل التقليدي للبائع المتجول الذي يبيع منتجاته من خلال العربة ويتجول بها في المناطق والأماكن المختلفة وبالتالي فهو بمثابة الموظف الحر الذي لا يتقيد بمحددات وظيفية فهو ليس بمواصفات الموظف التقليدي الذي يجب عليه قضاء عدد معين من الساعات في الوظيفة والتي يطلق عليها دوام كامل، ونجد في هذا الشكل من العمل أن العلاقة بين البائع والمشتري تنتهي بمجرد شراء المُنْتَج أو الخدمة المقدمة وبالتالي ليس هناك أي التزام على كلا الطرفين كالتعاقد أو التوظيف مما أدى إلى بروز وظهور نوع جديد من الاقتصاد يطلق عليه “اقتصاد العربة”.
اقتصاد العربة
لقد ظهر مفهوم اقتصاد العربة “Gig Economy” كنتيجة طبيعية مع حدوث الأزمات الاقتصادية واقتصاد العمل الحر حيث تقوم الشركات على التوظيف بنظام التعاقد بدلاً من الموظفين بدوام كامل نظرًا لأن العمل مخصص على أساس مؤقت، وقد برز مفهوم اقتصاد العربة مع ارتفاع أعداد الأفراد الذين لا يجدون وظائف، وهو ترجمة لمصطلح “Gig Economy”، ولقد جاءت كلمة العربة وهي ترجمة حرفية عن طريق الاستعارة من كلمة (gig) أي بمعنى إزعاج، وهي ترجع في الأصل إلى مهنة الموسيقى حيث يلجأ البائعين أصحاب العربات المختلفة إلى استخدام الموسيقى في الترويج لمنتجاتهم والتي تكون في الغالب مزعجة جدًا.
ويرجع سبب النمو لهذا الاقتصاد بسبب الأزمات الاقتصادية المتكررة والتي يعقبها فترات ركود وتسريح للعمال أو الموظفين أو في بعض الأحيان تلجأ بعض الشركات والمؤسسات إلى سياسة تقليل النفقات وتحقيق المستهدفات المطلوبة بأقل تكاليف ممكنة، ولا يوجد غضاضة في أن توصف منصات العمل الحر والتي تُعرف بالإنجليزية Free lancers باقتصاد العربة ولا يمثل هذا انتقاص منهم فهم فئة تبيع منتجاتها حسب الطلب ودون التقيد بالشكل التقليدي للوظيفة وبالتالي فإن اقتصاد العربة اصطلاح يعكس حقيقة الشكل العام لهذا القطاع العريض من الوظائف.
ويقدم اقتصاد العربة للمستهلكين بديلًا سريعًا للأعمال العادية حيث يتم الطلب لأي منتج أو خدمة من خلال الانترنت مما يجعل المعروض من المنتجات والخدمات أكثر كفاءة ومرونة وأرخص في السعر كما يشجع هذا النوع من الاقتصاد على دخول أفراد ذات سن صغير للعمل به نظرًا لأنه يتم عن طريق الانترنت ففي الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال تشير الاحصائيات إلى أن حوالي ثلث السكان تقريبًا من الذين لديهم قدرة على العمل يتم دخولهم في مجال العمل من خلال المنصات الالكترونية كما أنه من المتوقع أن يرتفع عدد العاملين أكثر مع اعتماد المزيد من المنظمات لعمل المقاول المستقل من أجل توفير الوقت والمال، ويمكن القول أن اقتصاد العربة اعتمد بشكل كبير على التجارة الالكترونية كما أنه اعتمد بشكل أساسي على التجارة الالكترونية وعلى منصات تنظيم هذه الاعمال.
مزايا اقتصاد العربة:
هناك بعض المزايا التي حققتها الشركات والموظفين عن طريق العمل بنظام اقتصاد العربة
فبالنسبة للشركات يعتبر تقليل التكاليف أحد أهم الفوائد الرئيسة للعمل في اقتصاد العربة لأن الشركات في هذه الحالة قادرة على توظيف موظفين خارج مقر الشركة، وبالتالي توفر من شراء أو استئجار مقرات كبيرة للعمل بالإضافة إلى ذلك يؤدي تعيين متعاقدين مستقلين إلى القضاء تمامًا على النفقات الكبيرة مثل المزايا التي يحصل عليها الموظفين كالإجازات المرضية المدفوعة ومكافأة نهاية الخدمة، ويمكن لصاحب العمل الوصول إلى مجموعة واسعة من الأشخاص للاختيار من بينهم الأنسب ويمكن التخلي عنهم إذا ثبت أن مهارتهم أقل من مقبولة، فلا يوجد عقد للاحتفاظ بالموظف أو حتى حدوث مشكلة في السماح لهم بالرحيل في وقت أصبح فيه من الصعب جذب موظفين بدوام كامل، ويمكن أن يتم عن طريق اقتصاد العربة توظيف موظفين أو عمال أكثر بأسعار معقولة حيث لا يتعين على الشركات دفع تكاليف التأمين الصحي أو المزايا الأخرى.
بالنسبة للموظفين أو العمال لا يُطلب من المتعاقدين المستقلين في اقتصاد العربة العمل في المكاتب، بل يعملون في مساحاتهم الخاصة، ويختلف الأمر من شخص إلى آخر حسب طبيعة العمل فالذي يعمل من خلال المنزل بنظام الاونلاين يختلف عن شخص يقود سيارته لصالح أو لحساب شركة أوبر، ويُسمح للعاملين في اقتصاد العربة بالعمل في أي ساعة يرغبون فيها، ويُعد اقتصاد العربة سوقًا جذابة بشكل متزايد نظرًا لمرونته المطلقة التي تتيح للأفراد كسب دخل إضافي.
عيوب اقتصاد العربة
في حين أن هناك مجموعة متنوعة من المزايا التي ينتجها اقتصاد العربة، إلا أن هناك أيضًا بعض الجوانب السلبية التي تميل إلى جعل العملية صعبة حيث قد لا يتم استثمار الأفراد الذين يعملون لحسابهم الخاص كما لو تم تعيينهم بنظام الدوام الكامل بالإضافة إلى ذلك، لا يعرف اقتصاد العربة تحفيز موظفيه ويمكن لمثل هذا أن يخلق مشاكل تتعلق بالولاء، ويقلل من احتمالية المزيد من العمل، ويقلل الحافز للعمل بشكل عام، في بعض الحالات، يتم انتقاد المنظمات التي تعمل في اقتصاد العربة بسبب الممارسات الأخلاقية التي تؤديها حيث أن العمل يؤدى بشكل عرضي، ولا يقدم مزايا، ولا يقدم أجورًا تنافسية.
بالنسبة لبعض الموظفين، يمكن أن تؤدي مرونة العمل بنظام اقتصاد العربة إلى تعطيل التوازن بين العمل والحياة وأنماط النوم وأنشطة الحياة اليومية، وغالبًا ما تعني المرونة أنه يتعين على العمال إتاحة أنفسهم في أي وقت، بغض النظر عن احتياجاتهم الأخرى، ويجب أن يكونوا دائمًا في وضعية البحث عن عمل آخر لتأمين أنفسهم، وفي حقيقة الأمر نجد أن العاملون في اقتصاد العربة يشبهون إلى حد كبير رواد الأعمال أكثر من كونهم موظفين تقليديين في حين أن هذا قد يعني قدرًا أكبر من حرية الاختيار للموظف، إلا أنه يعني أيضًا أن تأمين وظيفة ثابتة بأجر منتظم ، والمزايا – بما في ذلك حساب التقاعد – والروتين اليومي الذي ميز العمل لأجيال، أصبح سريعًا شيئًا من الماضي، وأخيرًا بسبب الطبيعة المتغيرة للمعاملات والعلاقات الاقتصادية المؤقتة، يمكن أن تتآكل العلاقات طويلة الأمد بين العمال وأصحاب العمل والعملاء والموردين، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى القضاء على الفوائد التي تتدفق من بناء الثقة طويلة الأجل والممارسات العرفية والتعرف على العملاء وأصحاب العمل.
أمثلة على اقتصاد العربة
هناك أمثلة كثيرة على مثل هذه الوظائف فهي تلك الوظائف التي يكتشفها الأفراد ويصلون إليها من خلال منصات الإنترنت التي يوجد عليها وتطب مثل هذه الوظائف حيث إنه في أغلب الأحوال تكون وظائف لمرة واحدة أو وظائف بعقود قصيرة الأجل أو تقديم خدمات قصيرة الأجل، وتشمل الأمثلة تطبيقات النقل لشركات مثل “أوبر وكريم ودورداش وإيربنب”، وتطبيقات توصيل الطعام وتطبيقات تأجير الرحلات حيث إنها شريحة متنامية، تحقق فوائد اقتصادية للإنتاجية والتوظيف، ومثال آخر مثل طلب طلاء منزل شخص ما، تصليح كهرباء أو سباكة إلخ…، وأيضًا العمل المستقل، والتدريب، وتدريب اللياقة البدنية، والدروس الخصوصية، ويتم استبدال الوظيفة نقدًا ولا توجد مزايا أخرى، مثل التأمين الصحي، وفي النهاية يبقى التحدي الأكبر وهو الموازنة بين الابتكار والصفقة العادلة للموظف أو العامل.
د / إسلام جمال الدين شوقي – خبير الاقتصاد وأسواق المال ، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي