بين السادس عشر والسابع والعشرين من سبتمبر عام 1970، نشب صراع دموي في الأردن بين القوات المسلحة الأردنية بقيادة الملك حسين ومنظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات. فبعد أن فقد الأردن السيطرة على الضفة الغربية بعد احتلالها من قبل إسرائيل عام 1967، نقل الفدائيون الفلسطينيون قواعدهم إلى الأردن، وصعّدوا هجماتهم على إسرائيل والأراضي المحتلة، فتطور الأمر إلى معركة واسعة مع القوات الإسرائيلية في بلدة الكرامة الأردنية على طول الحدود مع الضفة الغربية، ممّا أدى إلى زيادة الدعم العربي للمقاتلين الفلسطينيين في الأردن؛ لكن مع نمو قوة منظمة التحرير في الأردن، بدأت المناوشات بين الجانبين بعدما اتهم الأردن منظمة التحرير الفلسطينية بأنها أصبحت دولة داخل الدولة، فنشبت مواجهات عنيفة بينهما، لكن القشة التي قصمت ظهر البعير كانت عملية اختطاف خمس طائرات مدنية من قبل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أجبرت ثلاثا منها على الهبوط في صحراء الزرقاء، وفجّرت الجبهة الطائرات مباشرة بعد إخلائها من مئات الركاب، واحتجزت العشرات كرهائن، فأمر الملك حسين الجيش الأردني بالتحرك، فحاصر المدن التي تتواجد بها منظمة التحرير بما في ذلك عمّان وإربد، وبدأ قصف الفدائيين الذين تمركزوا في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين بالمدفعية الثقيلة ومدفعية الدبابات، وسقط في القتال نحو ثلاثة آلاف مقاتل فلسطيني وجندي أردني – حسب التقديرات الأردنية – بينما قدرت منظمة التحرير الفلسطينية عدد القتلى بعشرات الآلاف.
تحرك الزعيم جمال عبد الناصر لوضع حد لإراقة الدماء. وبعد عشرة أيام من القتال الدامي وُقّع اتفاق وقف إطلاق النار في القمة العربية التي عُقدت في القاهرة في السابع والعشرين من سبتمبر عام 1970، وأطلق سراح آخر الرهائن الذين احتجزتهم الجبهة الشعبية بعد يومين، وكان هذا الاتفاق هو آخر ما أنجزه عبد الناصر قبل رحيله في الثامن والعشرين من سبتمبر.
في ذلك اليوم كنتُ في الثامنة من عمري، ولا أذكر تفاصيل أحداث «أيلول الأسود»، لكني أذكر تمامًا يوم الرحيل الحزين، ومظاهر الحزن التي عمت العالم، ومنها تلك القرية النائية التي كنا نعيش فيها شمال تنزانيا، حيث أقام العرب والمسلمون مجالس العزاء حزنًا على رحيل الرجل، الذي رأوا فيه الأمل.
روى الراحل محمد حسنين هيكل، وقائع الرحيل في كتابيه «عبد الناصر والعالم»، و «الطريق إلى رمضان»، وفيهما وصفٌ دقيق لتفاصيل ما حدث في اللحظات التي تلت مؤتمر القمّة الذي دعا إليه عبد الناصر، كما أنّ السيدة تحية كاظم حرم الرئيس روت اللحظات الأخيرة في كتابها «ذكرياتٌ معه»؛ ففي سبتمبر 1970، قَطَعَ عبد الناصر إجازته الطبية الإجبارية في مدينة مطروح، وعاد ليعمل على حقن الدماء العربية، فدعا إلى مؤتمر القمّة العربية، لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه. وظلّ عبد الناصر يُردِّد طوال يوميّ 27 و28 سبتمبر: «إننا في سباق مع الموت»، ولم يكن يُدرِك أنّ السباق مع الموت ليس بين الفلسطينيين والأردنيين فقط، وإنما كان بينه شخصيًا والموت؛ فقد سابق الرجل الموت فأنهى آخر مهمة في حياته، وهي حقن دماء العرب، بالتوقيع على اتفاق بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية ينهي القتال بينهما، بعد ماراثون طويل من المفاوضات، وقصة أقرب إلى قصص الأفلام، عن نقل عرفات من عمّان إلى القاهرة.
على أرض المطار، وبينما كان عبد الناصر ينتظر تحرّك طائرة الشيخ صباح السالم الصباح أمير دولة الكويت، شعر بألمٍ في صدره، وراح العَرَق يتصبَّب منه بغزارةٍ، فطلب سيارته إلى حيث كان يقف لأنه لا يستطيع أن يسير بنفسه إليها كما هي عادته. وفي السيارة طلب من سكرتيره محمد أحمد أن يُبلغ طبيبه الدكتور الصاوي حبيب بالحضور إلى البيت. كانت الأسرة كلها في انتظاره، وأحسوا أنه متعب، ولكنه وقف وسطهم دقيقة يتحدث فيها مع حفيديه هالة وجمال، ثم توجه إلى غرفة نومه، وارتدى بيجامة بيضاء مخططة بخطوط زرقاء، ودخل إلى سريره، ويجيء الدكتور الصاوي، ويشعر منذ أول لحظة أنّ هناك طارئا خطيرًا.. ويخرج من الغرفة ليتصل بمحمد أحمد، ويطلب منه استدعاء الطبيبين منصور فايز وزكي الرملي، ويعود إلى الغرفة، ليبدأ محاولاته لوقف الطارئ الخطر. كان تشخيصه على الفور أنّ هناك جلطة في الشريان الأمامي للقلب، وبما أنّ الجلطة السابقة في سبتمبر من العام الماضي قد أثرت في الشريان الخلفي، إذن فالموقف دقيق وحرج. ويصل الطبيب منصور فايز، وعند وصوله، تحس قرينة الرئيس أنّ هناك شيئًا غير عادي باعتبار منصور طبيب القلب الخاص للرئيس، كانت طوال الوقت واقفة تنتظر في قاعة الجلوس التي تجتمع فيها الأسرة، اقتربت منه – والقلق يشد ملامحها – لتقول له: «لا تؤاخذني، لا أقصد إساءة، ولكن مجيئك يقلقني، أنت تجيء عندما يكون هناك شيء غير عادي»، طمأنها ودخل الغرفة، وبعد قليل لحقه الدكتور زكي الرملي، وكان التشخيص واحدا، فيما كانت الإسعافات التي بدأها الدكتور الصاوي مستمرة، وكان الرئيس متنبهًا إلى كلّ ما يجري، وحوالي الساعة الخامسة، بدأ الأمل يقوى، إذ انتظم النبض وعادت ضربات القلب إلى طبيعتها، واستراح الأطباء، والتقطوا أنفاسهم وهم بجواره، وهو يراقبهم بابتسامة هادئة على شفتيه. كانت الساعة الخامسة إلا خمس دقائق بالضبط، وقال له الدكتور منصور: «الرئيس في حاجة إلى إجازة طويلة»، رد الرئيس: «كنت أريد أن أذهب إلى الجبهة قبل الإجازة، هل أستطيع أن أذهب وأرى «أولادنا» هناك قبل أيّ إجازة». قال الدكتور: «ذلك سوف يكون صعبًا».
همّ الرئيس من فراشه ومدّ يده إلى جهاز راديو بجانبه وفتحه، يريد أن يسمع نشرة أخبار الساعة الخامسة من إذاعة القاهرة. وبينما اللحن المميز لنشرة الأخبار من إذاعة القاهرة ينساب في الغرفة، ويبدد بعض الشيء جوها المشحون بالطارئ الخطر، خرج الدكتور منصور من الغرفة وطمأن زوجة الرئيس بأنه بخير؛ لكن في غرفة النوم، كان المشهد يتغير بسرعة لم تكن متوقعة. استمع الرئيس إلى مقدمة نشرة الأخبار ثم قال: «لم أجد فيها الخبر الذي كنتُ أتوقع أن أسمعه»، ولم يقل شيئًا عن الخبر، وتقدم منه الدكتور الصاوي قائلا: «ألا تستريح سيادتك.. إنك فتحت جهاز الراديو ثم قفلته ولا داعي لأيّ مجهود الآن». عاد الرئيس يتمدد تمامًا على فراشه، ويقول بالحرف: «لا يا صاوي… الحمد لله… دلوقت أنا استريحت»، ولم يفرغ الدكتور الصاوي من عبارة يقول فيها: «الحمد لله يا فندم…»، ونظرُه مركز على الرئيس، حتى وجده يغمض عينيه ثم وجد يده تنزل من فوق صدره، حيث كان وضعها، وتستقر بجواره. بعدها لم يشعر عبد الناصر بشيء.
يقول هيكل الذي روى اللحظات الأخيرة: «دخلت زوجة الرئيس إلى الغرفة المشحونة بالجلال والحزن.. لا يمكن لأحد أن يصف أحزانها المتوهجة كالجمر المشتعل، أمسكت يده تقبلها وتناديه، وسمعت أحد الباكين يقول: الرئيس.. الرئيس، والتفتت تقول: «لا تقولوا الرئيس، قولوا إنه جمال عبد الناصر وكفى. سيبقى بالنسبة لي وللناس كلهم جمال عبد الناصر»، ثم انحنت عليه تقبل يده مرة أخرى وهي تقول: «لم يكن لي في الدنيا سواه، ولا أريد في الدنيا غيره، ولا أطلب شيئا إلا أن أذهب إلى جواره حيث يكون». واستدار كلّ من في الغرفة خارجين، تاركين لها اللحظة الأخيرة وحدها معه. وعندما جاءت السيارة لنقل جثمانه إلى قصر القبة، كانت في وداعه حتى الباب، وكانت كلمتها المشبوبة باللهب الحزين والسيارة تمضي به: «حتى بعد أن مات أخذوه مني، لم يتركوه لي». سرى نبأ الوفاة المفاجئة كعاصفة برق ورعد وزلزال، فقالت جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل عند سماعها الخبر: «من الذي أطلق هذه النكتة السخيفة»؟
لقد حقن عبد الناصر – في آخر عمل له في حياته – دماء الفلسطينيين والأردنيين، ونجح في الحفاظ على قوَّة منظمة التحرير الفلسطينية وضمان استمرار عملها، تجسيدًا لنضال الشعب الفلسطيني، لكن لم تمض سوى إحدى عشرة سنة من رحيله إلا وتشتت الفدائيون الفلسطينيون في المنافي العربية والصحاري المقفرة، بعد أن غزت إسرائيل لبنان عام 1982، والذين لا يُعرف مصيرهم الآن، لأنهم فقدوا من ناصرهم وأيدهم، وانتهت منظمة التحرير الفلسطينية.. وسكر القوم بخدعة السلام الزائف، فأصبح الكيان الإسرائيلي يسرح ويمرح في الوطن العربي، وما كان عيبًا أصبح شيئًا عاديًا، وتكالبت الأمم على الأمة العربية من كلّ حدب وصوب، فانهارت الدولة الوطنية في أكثر من قُطر عربي، والدور آت على الكل – وهذه حقيقة أقر بها العرب أم أنكروا – فيما سيطر المال على مقادير الأوطان، فكان سببًا في التدمير بدلا من التعمير.
ورغم مرور ثلاثة وخمسين عامًا على الحدث، إلا أنّ الأشراف من أبناء الأمة يستذكرون الزعيم جمال عبد الناصر في ذكرى رحيله، ولو لم يكن له غير إيجابية حقن دماء العرب في ذلك اليوم لكفاه ذلك.
زاهر بن حارث المحروقي
جريدة عُمان : عدد الاثنين 25 سبتمبر 2023م