يشهد موضوع التوظيف والتشغيل للأيدي العاملة الوطنيَّة مراجعات مختلفة لضمان مساهمة أكبر للقِطاع الخاصِّ في استيعاب المواطنين الباحثين عن عمل في ظلِّ ارتفاع عدد الباحثين في السنوات الأخيرة ليصل ـ حسب تصريح سابق لوزير العمل ـ إلى أكثر من 85 ألف مواطن عُماني في مختلف المؤهلات والتخصُّصات، وفي إطار آخر شكَّل تسريح العُمانيين من القِطاع الخاصِّ تحدِّيًا آخر على منظومة التوظيف والتشغيل، الأمْرُ الذي أوجد حالة من عدم الاستقرار الناتج عن ارتفاع تأثير أوراق الضغط التي ارتبطت بملفات التوظيف والتشغيل والتسريح، بما يؤكد أهمِّية التفكير الاستراتيجي في البحث عن معالجات مستدامة للحدِّ من التراكمات والتداعيات الأمنيَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة والنَّفْسيَّة والاقتصاديَّة المتعلِّقة ببطء الحلول، وما ارتبط بها من انتظار الوظيفة الحكوميَّة والذي بِدَوْره يُمثِّل تحدِّيًا على الجهاز الإداري للدولة عليه أن يتعامل معه بمزيدٍ من التفكير خارج الصندوق وإيجاد الحلول المستدامة، نظرًا للتشبع الحاصل فيه، وما قَدْ يولِّده ذلك من هدر في الموارد البَشَريَّة والمادِّيَّة، والذي يتجافى مع جهود سلطنة عُمان السَّاعية نَحْوَ حوكمة الأداء الحكومي وإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة لضمان استيعاب المتغيِّرات والمستجدَّات وإنتاج الفرص للتكيُّف مع الواقع الجديد الذي فرضته أزمة الاقتصاد العالميَّة، وبالتَّالي منتج الثقة الذي وضعته الحكومة على القِطاع الخاصِّ في تعزيز حضوره في برامج التنمية، واستقطاب قدرات ومهارات الشَّباب، والتداعيات الناتجة عن تدنِّي مستوى الأجور وعدم ربط المستوى الوظيفي بالمستوى المالي، ليتَّجه العمل الحكومي إلى تبنِّي فلسفة جديدة قائمة على التوسُّع في إلحاق الشَّباب بالمؤسَّسات في نظام العقود المؤقتة، ومع ما قَدْ يترتب على هذا الأمْرِ من تداعيات أمنيَّة واجتماعيَّة قادمة، وقَدْ يُعِيد منظومة التشغيل والتوظيف إلى المربَّع الأوَّل، ليدقَّ ناقوس الخطر كُلَّ بيت عُماني فيما قَدْ يحصل من تسريح العُمانيين العاملين في القِطاع العامِّ والصورة القاتمة التي بات يولِّدها هذا الأمْرُ، إذ بهذا المعنى أنَّ عمليَّات التسريح الممنهجة لَمْ تَعُد اليوم حصرًا على القِطاع الخاصِّ، بل قَدْ تشمل القِطاع الحكومي، عندما لَمْ يجد هؤلاء المُعيَّنون بالعقود المؤقتة مَن يحتويهم ويحافظ على وجودهم بالمؤسَّسات، الأمْرُ الذي يؤكِّد أهمِّية إعادة قراءة هذا التوجُّه وتصحيح هذا المسار، وتبنِّي سيناريوهات وبدائل أكثر قدرة على تقديم معالجات عادلة وسيناريوهات حكيمة وموجِّهات عمليَّة تضْمَن المحافظة على مستوى التوازنات في ملف التوظيف والتشغيل.
إنَّ من بَيْنِ المعالجات التي يُرجى لها أن تثمرَ عن نتائج نوعيَّة في استقطاب الكفاءة العُمانيَّة في القِطاع الخاصِّ، وتضْمَن تحقيق مزيدٍ من الأمان الوظيفي للموظف العُماني، هو موضوع التوطين وعَبْرَ إحلال الأيدي العاملة الوطنيَّة محلَّ الأيدي الوافدة، وتوفير مساحة أكبر من الأنشطة الاقتصاديَّة التي يحظر على الأيدي الوافدة مزاولتها، ومزاولة الاستثمار الأجنبي فيها فيما يُتيح للمواطن فرص شغلها، ومنع احتكار الوافدين عليها، الأمْرُ الذي من شأنه أن يُسهمَ في توطين هذه المهن وتعمينها والحدِّ من عمليَّات الاحتكار والمنافسة عليها من قِبل الأيدي الوافدة، وهو ما سيُتيح لها مزيدًا من الاحترافيَّة والمهنيَّة والتمكين، ويوفِّر فرصًا تنافسيَّة تعليميَّة وتدريبيَّة للقِطاع الخاصِّ والمؤسَّسات الصغيرة والمتوسِّطة في استقطاب الشَّباب العُماني، ويُعزِّز من المكنات التسويقيَّة والتشغيليَّة والأدائيَّة للمنتج العُماني، ويحافظ على خيوط تواصل ممتد، وجسور تكامل مترابطة، وسيناريوهات عمل مبتكرة تغرِّد داخل السرب الاجتماعي، حيث أعلنت وزارة العمل في الفترة الأخيرة عن قائمة من الأنشطة المحظورة على الاستثمار الأجنبي مزاولتها والتي تجاوزت ما يزيد على 207 أنشطة، ومع أهمِّية وضع الضوابط والأدوات وتقنينها بالشكل الذي يقلِّل من الفاقد والهدر الحاصل ويضع حدًّا للتجاوزات والاجتهادات الفردية من الشركات في هذا الجانب، خصوصًا في طريقة التعامل مع موضوع الأجور، والضمانات التي يُمكِن أن يُسهمَ بها هذا التوجُّه في حلحلة مشكلات الثقة في القِطاع الخاصِّ، وضبط المدخلات والمخرجات التعليميَّة، ثم تعزيز وتمكين العمل بتوسيع الخيارات التعليميَّة والتأكيد على التعليم المهني والتقني وبناء المهارات، وخيار المهارات الناعمة والمهارات وغيرها من المُكوِّنات التي بات التعاطي معها يُقدِّم حلولًا تكامليَّة في مواجهة خطر التسريح ويحدُّ من حالة الترهُّل التي بات يواجهها القِطاع الحكومي، وفي الوقت نَفْسِه تنفيذ أولويَّات رؤية «عُمان 2040» والمرتكز الاستراتيجي «اقتصاد بنيته تنافسيَّة منتج ومتنوِّع، يقوم على الابتكار وتكامل الأدوار وتكافؤ الفرص، يسيِّره القِطاع الخاصُّ، ويُحقِّق تنمية شاملة مستدامة» وعَبْرَ محور «سوق العمل والتشغيل» والهدف الاستراتيجي «سُوق عمل جاذب للكفاءات ومتفاعل ومواكب للتغيُّرات الديموغرافيَّة والاقتصاديَّة والمعرفيَّة والتقنيَّة»، والهدف «منظومة تشغيل، وتأهيل، وترقيات وحوافز مبنيَّة على الكفاءة والإنتاجيَّة، تذكي روح المبادرة والابتكار».
والسؤال الذي يطرح نَفْسَه إلى أيِّ مدى كانت استجابة الشركات ومؤسَّسات القِطاع الخاصِّ لموضوع الإحلال مُحقِّقة لآمال وطموحات الشَّباب العُماني الباحث عن عمل من جهة، والعاملين في هذه الشركات لضمان تحقيق مستويات عالية من الأمان الوظيفي ووجود مزيدٍ من الأريحيَّة في بيئة العمل، والتزام فرص أكبر للحوافز والثقة والصلاحيَّات التي تمنح للشَّباب العُماني؟ ذلك أنَّ واقع بعض الممارسات يُشير إلى جملة من التجاوزات التي باتت تمارس من قِبل بعض الشركات في هذا الشأن، وهي تجاوزات لها انعكاساتها السلبيَّة على تحقيق الأهداف المبتغاة من عمليَّات الإحلال، كما أنَّها تبرز حالة من التحايل وضعف الضمير وغياب المسؤوليَّة. وعلى الرغم من أنَّ وزارة العمل مشكورة قَدْ حدَّدت قائمة بالأنشطة المحظور مزاولتها لغير العُمانيين ومزاولة الاستثمار الأجنبي فيها، بما يفتح مجالات أوسع للشَّباب العُماني للانخراط فيها، ويفتح المجال للمؤسَّسات التعليميَّة والتدريبيَّة والمهنيَّة والمراكز المتخصِّصة في القِطاعيْنِ الحكومي والخاصِّ في رفد سُوق العمل بمخرجاته من العُمانيين في هذه التخصُّصات والأنشطة، بما من شأنه أن يوفِّرَ فرص عمل كبيرة للمواطنين ويُتيح لهم فرص الترقِّي الوظيفي وغيرها من العمليَّات الوظيفيَّة والتشغيليَّة ذات الصِّلة، بما يضْمَن توطين المِهن والوظائف، خصوصًا ذات الصبغة الإداريَّة والهندسيَّة والمهنيَّة، في ظلِّ ما شهده سُوق العمل العُماني من سيطرة الأيدي الوافدة على المهن في القِطاع الخاصِّ، خصوصًا الإداريَّة والهندسيَّة بنسبة قَدْ تصل إلى 95%، وارتفاع أعدادها لتصلَ حسب ما أشارت إليه إحصائيَّات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى أنَّ إجمالي الأيدي العاملة الوافدة قَدْ سجَّل ارتفاعا بلغ 7% بنهاية شهر مايو من عام 2023 مقارنة بنَفْسِ الفترة من العام 2022، حيث بلغ عددها 1.530 مليون عامل وافد، ويبلغ عددها في القِطاع الخاصِّ 1.229 مليون عامل، و33 ألف عامل وافد في القِطاع الحكومي، إضافة إلى 267 ألف عامل وافد في القِطاع العائلي، وأنَّ تركُّزَ الأيدي الوافدة يتَّجه بشكلٍ أكبر إلى المهن الهندسيَّة الأساسيَّة، والمهن المساعدة ليصل 627 ألف عامل، إضافة إلى مهن الخدمات، حيث وصل العدد إلى 463 ألف عامل، ومهن العمليَّات الصناعيَّة والكيميائيَّة والصناعات الغذائيَّة بـ103 آلاف عامل وافد.
ولعلَّ من أبرز الملاحظات المثارة حَوْلَ موضوع التوطين والإحلال هو قيام بعض الشركات المتنفذة بإعادة تعيين الأيدي الوافدة بمُسمَّيات وظيفيَّة أخرى، غير المُسمَّيات التي حدَّدتها وزارة العمل والتي يُحظر لغير العُمانيين شغلها أو ممارستها بشكلٍ رسمي، واتَّجه العمل في الشركات إلى ثلاثة مسارات: يقوم الأوَّل على إعادة العامل الوافد ممَّن يشغلون هذه الوظائف المحدَّدة في قرار وزارة العمل، والتي جاء فيها الحظر على غير العُمانيين إلى بلادهم لفترة قصيرة. والمسار الثاني: عودة أكثرهم إلى الشركات أو مواقع أخرى للشركة الأُم بمُسمَّيات أخرى. فوظيفة المحاسب مثلًا محظورة على غير العُماني، لذلك يَعُودُ على قوَّة الشركة بمُسمَّى آخر «كهربائي أو غيره ممَّن لَمْ ينتمِ على المهن والوظائف المحظورة». والمسار الثالث: هو إبعاد هؤلاء الوافدين عن الواجهة وخارج التغطية وإخفاؤهم عن الأنظار بمُسمَّيات وظيفيَّة قَدْ لا تحتكُّ مباشرة بمفتشي وزارة العمل أو المراقبين لتنفيذ هذا القرار، فهم يمارسون أدوارهم السابقة ولكن في مواقع أخرى وبمُسمَّيات غير ذي قَبل، وهو أمْرٌ بات يطرح اليوم تساؤلات كثيرة حَوْلَ جديَّة هذا التوجُّه، والإجراءات الثابتة والضوابط والجزاءات والعقوبات والمتابعات التي تمَّ اتِّخاذها بشأن التطبيق السَّليم له، ومراقبة الشركات والمؤسَّسات في تنفيذها الصحيح، فإنَّ الهدف من توطين هذه الوظائف وإحلال القوى العاملة الوطنيَّة فيها إنَّما للحدِّ من موجة الارتفاع الحاصلة في الأيدي الوافدة، ومستوى وجودها في هذه الوظائف وسيطرتها التامَّة على مدخلات الإنتاج في هذه الوظائف، بما يؤكِّد أهمِّية أن تقومَ وزارة العمل وغيرها من المؤسَّسات ذات الصِّلة وعَبْرَ لجان عمل مشتركة بتفعيل الضبطيَّة القانونيَّة ومساءلة المؤسَّسات والشركات وتقييم مستوى التزامها وتقيُّدها بتطبيق هذا الإجراء، وأنَّ الهدف من الإحلال والتوطين فسح المجال لتمكين الشَّباب العُماني ليكُونَ عنصرًا مُهمًّا في المعادلة، ويضْمَن استيعاب القِطاع الخاصِّ والأهلي للشَّباب العُماني الباحث عن عمل.
أخيرًا، فإنَّ ما يطرحه هذا الواقع المؤسف خلف الكواليس وتحت الطاولة من اتِّفاق بَيْنَ أصحاب الشركات، وتدوير الأيدي الوافدة بَيْنَها، والاتِّفاق مع الشاغلين للوظائف المحظورة على غير العُمانيين بإرجاعهم بمُسمَّيات وظيفيَّة أخرى بعيدة كُلَّ البُعد عن الأنظار، بحاجة إلى إجراء وطني واضح ومسار تقييمي ورقابي فاعل وممكّن، وأدوات رقابيَّة وتشخيصيَّة قادرة على امتلاك البيانات الصحيحة والمعلومات الأكيدة من واقع أسماء الشاغلين لهذه الوظائف قَبل تطبيق القرار من الأيدي الوافدة وموقع وجودها في الشركة بعد القرار من واقع سجلِّ الأيدي الوافدة وحركة انتقالها وعودتها من وإلى سلطنة عُمان، فهل سيُعاد تقييم البرنامج والنتائج المترتبة عليه؟ وهل سيتمُّ الرجوع إلى المواطن العامل في شركات القِطاع الخاصِّ لقراءة الأثر الناتج عن هذا التوجُّه ومدى ملامسته له شخصيًّا ومرئيَّاته وملاحظاته حَوْلَه؛ إذ من شأن هذا المنتج الفكري أن يقدِّمَ صورة متكاملة حَوْلَ القرار وأبعاده ونتائجه ومستوى الالتزام به؟
د.رجب بن علي العويسي