كنت حتى يوم أمس قد قررت أن استمر في سلسلة مقالاتي عن “سنيّ الضياع” وأن أؤجل الكتابة عن “طوفان الأقصى”، حتى تأتي الحمامة بغصن الزيتون، ولكن استفزتني بعض التعليقات في وسائل التواصل الاجتماعي، فهناك من يترحم على أطفال غزة وهذا واجب بالطبع، ولكن ينسب المسؤولية في ذلك إلى الضحية، وليس إلى الصهاينة المُجرمين المُعتدين، الذين يقصفون مساكن الناس الآمنين بالصواريخ والطائرات، ويدمرونها بمن فيها على رؤوس ساكنيها، والفلسطينيون هم المعتدى عليهم، والمسلوبة أرضهم من قبل هذا المحتل الغاصب، وليس العكس نغض الطرف عن المعتدي.
قد لا نلوم الضعفاء وعامة القوم، فقد يكونون قد تلوثت مسامعهم بما يُردده خونة الأمة العربية، واختلط عليهم الحابل بالنابل، فكرروا ما سمعوا كالببغاوات، ولكن عندما تسمع هذه التعليقات من المثقفين والنخبة في المجتمع العربي، يصعب عليك فهم مصدر هذا الخذلان الفج، وأنت تعلم يقينًا أنهم يعلمون أن أرض فلسطين أرض عربية، ومحتلة من قبل اليهود المجرمين، وأن هؤلاء اليهود الصهاينة، وعلى مدى 75 عامًا، وهم يشردون وينكلون ويقتلون في الشعب الفلسطيني، وأنهم يدنّسون المسجد الأقصى، ويضربون النساء والأطفال دون رحمة أو شفقة، وعلى مرأى ومسمع من العالم كله، ولا يرف لأحد رمش عليهم.. سبحان الله كيف تقلب الموازين؟!
وقد تجد لقطة فيديو لطائرات هليكوبتر يتم إسقاطها بصواريخ سام كما يقول التعليق، وتُعيد نشرها اعتزازًا بعمل المقاومة، فتجد من ينكر ذلك عليك، ويزعم أنها لعبة إلكترونية، وقد تجد تصريحاً على منصة “X” (تويتر سابقًا) للزعيم فلاديمير بوتين الرئيس الروسي، يقول فيه إن روسيا ستقف علنًا مع الشعب الفلسطيني، إذا تدخلت أمريكا في المعركة، لتجد فجأة من يُشكك في ذلك أو ينفيه نيابة عن مصدره، فتتساءل أليس من واجب روسيا أن تقوم هي بنفي الخبر أو تصححه؟!
أما إذا كان الكلام منسوبًا للرئيس الأمريكي أو الفرنسي أو أي من الزعماء الأوروبيين، فيصرح بتصريح يدين فيه المقاومة الفلسطينية، ويتهمها بالإرهاب والاعتداء على الصهاينة، فتجد هؤلاء يسارعون في نشر الخبر، بهدف إرهاب وإرعاب القوى الفلسطينية، ومن يقف موقفهم أو يؤيدهم، فينشروه دون تردد، ويضيفون عليه بعض العبارات التي تضخم من الخبر، وقد نسوا أو تناسوا، أن الشعب الفلسطيني، هو المنكل به والمهدورة دماؤه وحقوقه، وأن الذي يقوم به هو أبسط البسيط لحقوقه.
ألم يرَ هؤلاء السفهاء، أن المسجد الأقصى قد دنس بقطعان اليهود؟! وأن حرائر فلسطين يتم ركلهن بأقدام اليهود على أبواب المسجد، وأن الأطفال يقادون إلى السجون، وكأنهم من عتاة المجرمين، وتكسر أطرافهم بأوامر من مسؤولي عصابة بني صهيون.
إن الذين استطاعوا أن يكوِّنوا هذه القوة العظيمة في سراديب تحت الأرض، هم مجرد سكان حارة (بلدة غزة) وإن الذين يحاربونهم أصحاب دولة عسكرية قوية، سبق لها وأن قهرت جيوش دول عربية، إذن هؤلاء القوم عملوا بالتوجيه الرباني لقوله تعالى: “وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ” (الأنفال: 60). بالطبع طبقت هذه الآية حرفيًا ويظل النصر من عند الله عز وجل، وقادوا هذا الهجوم صبيحة يوم 7 أكتوبر، ولم تخيفهم القوة الإسرائيلية، ولم تردهم أو تردعهم أسوارها الأمنية والعسكرية الرهيبة، ولا رشاشاتها ومدافعها التي تعمل آليًا، وقد نفذوا هجومًا مباغتًا برًا وجوًا وبحرًا على كتائب ومعسكرات، وجيش مسلح في مستعمرات حربية، ولن تخيفهم أمريكا بأساطيلها الهرمة، ولا أوروبا المنافقة.
أمَّا حاملة الطائرات الأمريكية جيرالد فورد التي تحمل الرقم 78 والتي أرسلت لتقديم الدعم لإسرائيل، فستسكن هي ورقمها السبعيني في قاع البحر الأبيض المتوسط، وهذا الرقم يمثل الشؤم لليهود، وستقيم في قاع البحر ما أقام جبل عسيب في نجد كما قال الشاعر: أمرؤ القيس وهو يرثي نفسه حيث قال:
“أجارتنا إن الخطوب تنوبُ // وإنيّ مقيمٌ ما أقام عسيب
أجارتنا إنا غريبان ها هنا // وكل غريبٌ للغريب نسيبُ”
وأقول للذين رقّت قلوبهم على أطفال غزة، ولم ترق قبل ذلك على أطفال فلسطين، كمحمد الدرة الذي قتل بدم بارد في حضن أبيه، وغيره من الأطفال الذين ينكل بهم وبأهلهم يوميًا، ولم تهتز لكم شعرة عليهم، إن فلسطين ولولا خيانات بعض العرب لها، لما ظلت محتلة كل هذا الوقت، ولم يهب لنجدتهم إلا الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
الذين يظنون بعبثية المقاومة، نقول لهم: لقد أُعطي لكم الوقت الكافي لتفعلوا أنتم شيئًا، ومرت لحد الآن 75 عامًا، ولم يتبقَ من فلسطين إلا قطاع غزة بمساحة تقدر بـ45 كم2 وهي مجرد سجن كبير يحاط بالشباك، والأسوار العظيمة، ويحيط بها جيش الصهاينة من كل مكان، ومعظم سكانها مطلوبون للإعدام، إما بالاغتيالات أو بالقصف بالطائرات والسفن الحربية أو بالصواريخ بعيدة المدى، وقد نُفذ الإعدام في عدد كبير منهم حتى تاريخه، فهل تريدونهم أن يسلموا أنفسهم بأنفسهم للجزارين، أم يختاروا المواجهة مع العدو فإما الشهادة أو النصر، لقد عملوا بنصيحة الشاعر الفلسطيني الذي قال:
سأحمل روحي على راحتي // وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسرُّ الصديق // وإما مماتٌ يغيظ العدى
إن العدو الصهيوني تكبد خسائر عظيمة لم يشهد لها مثيل؛ منذ حرب 6 أكتوبر عام 1973، وإذ يتألم قطاع غزة من القصف الهمجي، فلهم العوض عند الله في الجنة بإذنه تعالى، وقد طمأن الله عباده بقوله تعالى: “وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا” (النساء 104)..
هذه بشرى من الله لعباده الصالحين، بينما لم يعد الظالمين إلّا بعذاب جهنم.
حمد بن سالم العلوي