تُمثِّل معاهد السَّلامة المروريَّة أحد نواتج الجهود الوطنيَّة لتعزيز السَّلامة على الطريق، وقَدْ جاءت تنفيذًا عمليًّا لتوصيات ندوة السَّلامة المروريَّة، والخطَّة الإجرائيَّة للاستراتيجيَّة الوطنيَّة للسَّلامة على الطريق، ومنذ تأسيسها المتدرِّج الذي بدأ بمعهد السَّلامة المروريَّة في محافظة مسقط؛ عملت على جعل سلطنة عُمان بيت خبرة وطنيَّة وإقليميًّا في الأداء المروري الناضج، والممارسة الهادفة، والتي أسْهمَتْ في حصول هذه المعاهد على العديد من الجوائز في المشاركات الدوليَّة والإقليميَّة والمحلِّيَّة في مجالات السَّلامة المروريَّة والقيادة الوقائيَّة الآمنة والوعي المروري وترسيخ العادات المروريَّة الذكيَّة في المُجتمع.
لقَدْ أدركت القيادة العامَّة لشُرطة عُمان السُّلطانيَّة بأنَّ الهاجس المروري باتَ يُشكِّل تحدِّيًا كبيرًا في منظومة العمل الوطني، فإنَّ التحوُّلات الحاصلة في المُجتمع والتوجُّهات المرتبطة بها، خصوصًا في استخدام الطريق، والتغييرات الحاصلة في فكر الشَّباب وقناعاته، يتطلب تبنِّي سياسات توعويَّة وتدريبيَّة وبرامجيَّة وتأهيليَّة قادرة على التأثير فيه واحتوائه وضمان توجيه اهتمام الشَّباب نَحْوَ إعادة إنتاج وهيكلة السلوك لصالح المحافظة على أخلاقيَّات القيادة على الطريق، وتغيير المفاهيم الخاطئة المتولِّدة لدَيْه في استخدام المَركبة والتعامل معها، وهذا الأمْرُ بحاجة إلى مأسسة هذا القِطاع وتنظيمه وتنشيط فرص التعلم المبتكر والتدريب النَّوعي والتفكير الخلَّاق وحوكمة الأداء، وقياس مستوى التقدُّم في الوعي المُجتمعي المروري، وعَبْرَ منظومة مروريَّة ترعى مفاهيم السَّلامة المروريَّة وتحافظ على تداول مفرداتها، وتعمل على تطبيقها في واقع حياة الشَّباب، وتقدِّم من خلال ما تمتلكه من خبرات وتجارب وتضمُّه من كفاءات وطنيَّة ونماذج محاكاة وأساليب وأدوات مجرَّبة، وشراكات مع بيوت الخبرة العالَميَّة والإقليميَّة والمحلِّيَّة، الطريق للحفاظ على كفاءة الأداء الشُّرطي المروري، فكانت معاهد السَّلامة المروريَّة خير نموذج يُمثِّل هذا القِطاع، ويوسِّع من ديناميكيَّة ومرونة التحوُّل المتسارع فيه.
لذلك اتَّجهت رؤية العمل الشُّرطي في إطار خطَّة التطوير والتحسين وإعادة الهيكلة والحوكمة التي انتهجتها شُرطة عُمان السُّلطانيَّة في فترات سابقة إلى نشر مظلَّة معاهد السَّلامة المروريَّة في مختلف محافظات سلطنة عُمان، حيث يصل عددها اليوم إلى أحد عشر معهدًا متوزِّعة على إحدى عشرة محافظة، تقوم بدَوْر استراتيجي في تعزيز وتطبيق مفاهيم واستراتيجيَّات السَّلامة على الطريق، وتحتضن في أهدافها البرامجيَّة والتأهيليَّة والتدريبيَّة والتوعويَّة منتسبي شُرطة عُمان السُّلطانيَّة، ومختلف فئات وشرائح المُجتمع في إطار جهودها في التأهيل والتدريب في مجال السَّلامة المروريَّة، وهندسة الطُّرق وبناء القِيَم والمهارات والعادات والاتِّجاهات المروريَّة مستخدمة في ذلك أفضل الأساليب وأجود الممارسات العالَميَّة في مجال السَّلامة على الطريق، وتعزيز الوعي المروري، وتعظيم دَوْر الثقافة المروريَّة في تأصيل فِقه وقواعد المرور، والانتقال به إلى ثقافة حياة ومحطَّة لبناء القدرات الوطنيَّة، وصناعة النماذج الرائدة في إدارة والتزام معايير السَّلامة على الطريق. ولمَّا كانت معاهد السَّلامة المروريَّة بيوت خبرة وطنيَّة في مجال تعزيز الوعي المروري وتأصيل مفردات الثقافة المروريَّة، فإنَّ كفاءة هذا الدَّوْر يتجسَّد في البُعد الوقائي والتسويقي الذي تمارسه في إطار خططها ودَوْرتها البرامجيَّة التأهيليَّة والتدريبيَّة والتسويقيَّة والتوعويَّة والتثقيفيَّة وبناء القدرات من خلال نشاطها في عقد الندوات وحلقات العمل ذات الصِّلة أو كذلك عَبْرَ معارض السَّلامة المروريَّة والمشاركة الفاعلة لها في المواسم الاجتماعيَّة والسِّياحيَّة والوطنيَّة، من حيث إبراز أهمِّية الدَّوْر المحوري لهذه المعاهد، ومسؤوليَّة المُجتمع في ترسيخ هذه الثقافة، فأصبحت بيئات معاهد السَّلامة المروريَّة محطَّة للتقييم والمراجعة والتشخيص، ومناخات عمل ومنصَّات للحوار تصبُّ فيها كُلُّ الجهود وتتبادل خلالها وجهات النظر وتنمو فيها الأفكار، وتتعزَّز فيه صناعة النماذج الإيجابيَّة المضيئة والمبادرات التطويريَّة، كما ارتبط وجودها بجملة من الفعاليَّات المتمثلة في إعلان نتائج مسابقة السَّلامة المروريَّة بمختلف مستوياتها، ومعارض السَّلامة المروريَّة التي تبرز خلالها الابتكارات والممارسات الإيجابيَّة الرائدة وفرص التحسين المستمر، وتُعزِّز خلالها دَوْر الشَّباب وطلبة المدارس وموظفي المؤسَّسات في التعريف بالابتكارات والبرامج والمواقع الإلكترونيَّة والمبادرات الفرديَّة والمُجتمعيَّة والإصدارات والمنشورات التي تؤسِّس لفِقه مروري أصيل، وبناء ثقافة مروريَّة سليمة، وإطار عمل تنطلق مِنْها رؤية التطوير القادمة في مجال السَّلامة على الطريق، وخطِّ السَّير الزمني للتطوير المروري الذي يُشكِّل مائدة حوار دسمة ومساحة للعصر الذهني والتفكير الاستراتيجي في قراءة أعمق لمنظور السَّلامة على الطريق وارتباطه بالتحوُّلات الحاصلة في المُجتمع وثقافة الشَّباب، ولذلك شكَّلت هذه الأدوات والأنماط والاستراتيجيَّات منصَّات تفاعليَّة ترصد جوانب التطوُّر والتقدُّم الحاصلة في مفاهيم المرور في السياق الثقافي والاجتماعي وتطبيقاتها في السلوك العامِّ، ودَوْر معاهد السَّلامة المروريَّة في إعادة إنتاج الخبرة الوطنيَّة وتكييفها مع مستجدَّات الواقع المروري في إطار جهودها في إصدار المنشورات ودراسة القوانين والتشريعات ذات الصِّلة، ومِنْها قانون المرور أو غيره من القوانين والإجراءات الضبطيَّة التي تتَّخذها الإدارة العامَّة للمرور أو القيادات الجغرافيَّة بالمحافظات ذات الطابع الفنِّي المروري. لقَدْ شكَّلت معاهد السَّلامة المروريَّة همزة وصل مع المُجتمع وخيوطًا ممتدَّة من التواصل حملت على عاتقها مسؤوليَّة نقل الاهتمام بالمسألة المروريَّة من التنظير إلى التطبيق، ممَّا تبنَّته من مبادرات استهدفت المفاهيم المرتبطة بالمرور والسَّلامة على الطريق والسِّياقة الوقائيَّة والمواطنة المروريَّة، الأمْرُ الذي نتج عَنْه تأصيل ثقافة مروريَّة متوازنة، وتغيير القناعات السلبيَّة والأفكار السوداويَّة والممارسات غير السليمة التي ظلَّت حاضرة في سلوك مستخدم الطريق وبخاصَّة الشَّباب مِنْهم، ولأنَّ معاهد السَّلامة المروريَّة تُمارِس هذا الدَوْر في إطار من الخبرة والمهنيَّة والمنهجيَّة والتدرج في الأسلوب والتغيير في طرائق التدريب وآليَّات التعلُّم المستمر لكُلِّ المنخرطين في برامج ودَوْرات معاهد السَّلامة المروريَّة من المنتسبين لجهاز الشُّرطة وغيرهم من المواطنين وفئات المُجتمع المختلفة التي تربط مهام عملها بالسلوك المروري بدرجة كبيرة، وأسْهمَتْ الشراكة المُجتمعيَّة التي انتهجتها معاهد السَّلامة المروريَّة في سياستها التأهيليَّة والتدريبيَّة والتوعويَّة والأدائيَّة في خلق تناغم بَيْنَ السِّياسات والتوجُّهات والممارسات والإجراءات، وتعظيم قِيمة العمل في إطار الفريق الواحد، وتمكين الأُسرة والوالدَيْنِ والمؤسَّسات التعليميَّة والصناعيَّة والمُجتمع من القيام بِدَوْره في التوعية الوقائيَّة للحدِّ من الحوادث، وترسيخ العادات المروريَّة المتزنة، ناهيك عن أنَّ البرامج والدَّوْرات التدريبيَّة والتأهيليَّة التي تبنَّتها المعاهد راعت معايير التنوُّع والتدرُّج والعُمق وتركيزها على التطبيقات العمليَّة في ظلِّ إكساب الملتحق بها للمعلومات والمعارف النظريَّة، بالإضافة إلى التطبيقات العمليَّة ونماذج المحاكاة الفعليَّة للواقع، حيث توزَّعت بَيْنَ برامج ودَوْرات قصيرة ومتوسِّطة لمنتسبي شُرطة عُمان السُّلطانيَّة والإدارات التي تتعامل مع منظومة السَّلامة على الطريق، مِثل برنامج السِّياقة الوقائيَّة، والبرنامج التأسيسي في مجال المرور، ودَوْرة الدراجات الناريَّة الأساسيَّة وبرنامج تأهيل مدرِّبي سياقة المَركبات الثقيلة وغيرها، وهناك أيضًا برامج ودَوْرات تُنفَّذ لمستخدمي الطريق من مختلف شرائح المُجتمع، مِثل: برنامج السِّياقة الوفائيَّة، وبرنامج تأهيل سائقي الأُجرة، وغيرها، بالإضافة إلى تنفيذ الدَّوْرات والبرامج التخصصيَّة المشتركة لمنتسبي شُرطة عُمان السُّلطانيَّة والملتحقين بالدَّوْرات التدريبيَّة والتأهيليَّة في معهد الضبَّاط ومعهد المستجدّين بكُلِّية الشُّرطة بأكاديميَّة السُّلطان قابوس لعلوم الشُّرطة بالتنسيق مع الإدارة العامَّة للمرور وقيادات شُرطة المحافظات، مِثل: دَوْرة الهندسة المروريَّة للضبَّاط، ودَوْرة تنمية مهارات السَّلامة المروريَّة وغيرها.
من هنا فإنَّ عودة مؤشِّر الارتفاع في الحوادث المروريَّة في عام 2021 حيث بلغت (1539) مقارنة بـ(1341) في عام 2020، واستمرار الارتفاع في 2022 لِتصلَ إلى (1877) حادثًا، وما تبعه من ارتفاع في عدد الإصابات وأعداد الوفَيَات، وما أظهرته المؤشِّرات المروريَّة من تصدُّر السّرعة قائمة أسباب الحوادث المروريَّة، حيث بلغ عدد الحوادث بسبب السّرعة (988) في عام 2022، بارتفاع عن عام 2021 حيث سجّلت (820) حادثًا مروريًّا، يؤكِّد الدَّوْر المعقود على معاهد السَّلامة المروريَّة في قراءة المشهد المروري بسلطنة عُمان، وتبنِّي سياسات ناضجة وموجِّهات مبتكرة يُمكِن من خلالها إعادة إنتاج السلوك المروري في حياة المُجتمع بالشكل الذي يضْمَن تقليل الهدر الناتج عن الحوادث المروريَّة، وتبقى رسالة معاهد السَّلامة المروريَّة نَحْوَ الحفاظ على درجة التوازنات في الثقافة المروريَّة ورفع مستوى الوعي بمبادئ وأُسُس وقِيَم وأخلاقيَّات السَّلامة على الطريق، محطَّة تحوُّل صنعت الفارق، وتبثُّ روح التغيير في حياة الفرد والمُجتمع لضمان تحقيق أولويَّة رؤية عُمان 2040: «مُجتمع إنسانه مبدع معتز بهُوِيَّته، مبتكر ومنافس عالَميًّا، ينعم بحياة كريمة ورفاه مستدام». أخيرًا، فإنَّ شُرطة عُمان السُّلطانيَّة وهي تحتفل بيوم السَّلامة المروريَّة «الثامن عشر من أكتوبر، وسط مَسيرة إنجاز حافلة بالعطاء والإبهار والتميُّز في الشَّأن المروري على مستوى الكم والكيف، لتصنع من جهود معاهد السَّلامة المروريَّة، محطَّة فارقة في العمل المروري الرصين والممارسة المنتجة، إذ أصبح الاحتفال بهذا اليوم يرتبط بمنجز مروري شامخ، وممارسة مروريَّة أصيلة جسَّدتها تلك المبادرات النَّوعيَّة التي قدَّمتها معاهد السَّلامة المروريَّة في استيعابها لمُكوِّنات المُجتمع واستقطابها لمبادراته وشراكتها مع القِطاع الخاصِّ التي جاءت تحقيقًا لمبادئ الشراكة الشُّرطيَّة المُجتمعيَّة، وتعظيم مسار الاستدامة في بناء سلوك مروري قادر على ترك بصمة حضور له على الطريق في ظلِّ التعامل مع متغيِّرات مروريَّة، باتَ الازدحام المروري يُمثِّل أحد أجندتها، بما يتطلبه من تقديم البدائل والخيارات والحلول الجادَّة، والتوسُّع في الإجراءات المعزِّزة لانسيابية الحركة المروريَّة، وهي تؤدِّي هذا الدَّوْر لِتستشعرَ عظمة المُهمَّة، وكفاءة الدَّوْر وفاعليَّة الممارسة في ظلِّ تحقيق التزام مروري يُعزِّز من فِقه المواطنة المروريَّة التي تستشعر المبادئ والأخلاقيَّات والقِيَم وتستنهض الحسَّ الوطني بأنَّ المحافظة على أمن الإنسان من مخاطر الطريق واجب أخلاقي وإنساني، ومسؤوليَّة مشتركة قوامها كفاءة وفعاليَّة وجاهزيَّة الوعي المروري الجمعي من أجْل شوارع عُمان الخالية من حوادث السَّير.
د.رجب بن علي العويسي