يعيش العالم العربي اليوم -بعد فقدان بوصلته في قضية فلسطين والأقصى- ما يعيشه العالم منذ إعلان دولة الاحتلال على أرض فلسطين المغتصبة من شتات وفوضى وتشرذم في الرأي، فلم تعد القضيةُ الفلسطينية لدى العرب (الرسميين) مجتمعين هي قضيتَهم الأولى، ولا حتى الوطنُ العربيُّ ووحدتُه هي وحدتَه التي كانت في الرعيل الأول من حكام العرب السابقين ولو ظاهرا.
لقد اعتَلَتْ قياداتٌ جديدة سُدَّةَ الحكم، فقامت بفك الارتباط مع سلفهم من آباءهم عن قضايا محورية، وانسلخت عن مبادئَ أساسيةٍ، وقيمٍ عالية، مما تسبب في حصول صدع عميق، لا يمكن تَوْرِيتُه ولا تَحْيِيْدُه.
لقد فاجأت هذه القياداتُ الجديدةُ، في انسلاخها وانفرادها بقرارها عن المؤسسات الجامعة، كمجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية، البقيةَ الباقيةَ من الدول العربية، التي حافظت على كيانها العربي، وقيمها ومبادئها وقضاياها المحورية، ومن ذلك شعورُ الأُخُوَّة، والبيتِ الواحد، والذي يُحَتِّمُ الحفاظَ على أقصى الممكن من الصورة الموحَّدة للمؤسسة العربية، وهو ما انتهزته وتنتهزه هذه الدول المنفلتة، في فكرها الفرداني، بعيدا عن تكتلها العربي ومؤسساته، وبصورةٍ فَجَّةِ وقاسية، في قدر كبير من الأنانية والقباحة واللامبالاة، في شتى القرارات المحورية، عسكريةً، واقتصاديةً، وغيرَ ذلك مما أثره ينال المنطقةَ جميعها، ولا يقتصر على حدود تلك الدولة وجغرافيتها.
ربما آن الأوان لهذه البقيةِ الباقية من دولنا الحرة العربية التي ما زالت على العهد، ولم يتغير موقفها، ولم تدخل في عباءة الظلام الغربية ولا الصهيونية، ولا أَتُونِ التيه القِيَمِي، ولم تبعْ إنسانيتها ودينها بحفنة مساعدات اقتصادية أو تقنية أو عسكرية، ولم تشحذْ على أبواب المتكبرين، ولم تَدُسْ على شعبها وعلى صوته، فتملأَ السجون بهم، أو تلاحقَهم لاجئين في الشتات، أو تَسْحَلَهم سحلَ فرعون، فتجعلَهم شيعا، تستضعفُ طائفةً منهم..تُقَتِّلُ أبناءهم وتستحيي نساءهم…
آن الأوان لهذه الدول الزكية أن تتبنى ذاتَ الجرأةَ التي تبنتها أخواتها النشاز، وتقومَ بما يجب عليها القيام به اتجاها -كما تفعل هي بها- غيرَ عابئة بترهل المؤسسات الجامعة، ولا بالحفاظ على هيبتها، فكما لم تحافظ الدولُ النشازُ عليها فلِمَ تفعل هي؟!… بل إن مدافعتَها ومواجهةَ هذه الدول المنحلة عن كل مبدأ وعقيدة بما تواجههم هي به من غُلُوٍّ وأنانية وتفرد قد يحفظ هذه المؤسسات، ويطهرها من النفاق والخيانات، ويُقَوِّي وِحْدتَها، ويَزُمُّ رأيَها، ويُعزز موقعَها السياسي والعسكري والاقتصادي في العالم.
أيتها الدول الشريفة الحرة من دولنا العربية، لا يكفي أن تحافظوا على مبادئكم بينكم، وتظهروها فقط للعالم الغربي المتواطئ مع الصهاينة، دون أن يكون للمتصهينين من أنظمة دولكم الشقيقة الناشز النصيبُ الوافرُ من تلكم الخصومةِ والمدافعة وذلكم العراك، بل يجب أن يكون لكم موقفٌ حازمٌ منها، وهي تدوس عليكم -قبل العدو والبعيد- وعلى قيمكم ومبادئكم وقضاياكم ومقدساتكم شاهرا ظاهرًا، حتى أرهقتكم، وجعلتكم أضحوكةً في العالمين بتمزيعكم وتمزيقكم… غثاءً كغثاء السيل، لا قيمة لكم ولا برهان، دون أي اعتبار منها لكم ولا لآبائكم ولا لدمائهم ودمائكم ودماء إخوانكم، موقفٌ يحفظ لكم ولقيمكم بعضَ هيبتكم…. لَربما يَرُدُّ لكم ذلك أشقائكم ودولَه، إن كان نشازُهم هذا عن جهل وسوءِ تقدير، أو يكبتَهم فيخلِّصَكم اللهُ ودولَكم التي يتحكمون بها منهم، إن كان نشازُهم عن خيانةٍ وعمالةٍ وسبقِ إصرار وتدبير.
إن دولةً شقيقةً تمنع عن المساكين والضعفاء الأشقاء أطفالا ونساء وشيوخا شربةَ ماء، وجرعة دواء، ووقود طعام، وتتخابر مع العدو الصهيوني -وليس مع قَطَر أو حماس- مجرمِ الحرب بشهادة الأمم المتحدة ومنظماتها الإنسانية شرقا وغربا، في ما يخرج من غزة وما يدخل فيها، ومن يسمح الكيان له ومن يمنع، ومَنْ يخفض وَمَنْ يرفع، لَحرِّيٌّ بها أن يُواجهَ نظامُها السياسي الحاكم بجدية وصرامة، ويتمَّ اتخاذُ إجراءاتٍ حقيقية وحاسمة في حال استمراره في خدمة العدو وخنق الأطفال والنساء وإذلالهم، وتصعيدُ الحديث معه، (لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوۡ يَخۡشَىٰ ٤٤/ طه)، وإلا فالمقاطعة، واتخاذ الاجراءات الكفيلة السياسية والقانونية لمحاسبته وإسقاطه ومحاكمته، سِيَّمَا وأن نظاما سياسيا مغايرا حكم الدولة الشقيقة ذاتها في ٢٠١٢ م، كان موقفه مشرفا يومئذ في أحداث مشابهة، إذ أرسل وفدا من حكومته على رأسه وزير الخارجية لدعم أهل غزة من اليوم الأول، فضلا عن ترك المعبر مفتوحا للناس والإغاثة، وتهديدِه لمجرم الحرب الصهيوني في قتله المدنيين، وتهديمه البنية التحتية، وبسبب ذلك الموقف الإنساني المشرف والشجاع والمخلص لأمته وللإنسان لم تدم الحرب أسبوعا واحدا وانتهت، وقد حُقِنت دماء الأبرياء، وأُمِّنتْ أرواعُهم.
أو دولةً شقيقة أخرى تسابق الزمن في لُهَاثٍ عجيب للتزلف للكيان الغاصب في فلسطين… ترتمي في أحضانه، رغم موقف الكيان الرسمي فضلا عن الشعبي، ومسحه لها ولبقية العرب الأرضَ، بتصريح وزرائه ومفكريه وأدبائه وإعلامه بأن العرب حيوانات يجب القضاء عليهم، أطفالِهم ونساءِهم، وفتوى حاخاماته ورجال دينه رسميا بتسوية مستشفياتهم على رؤوس مرضاهم، فلا حرمة للعرب ولا احترام… تُسارع فيهم على حساب الجميع من جيرانها وأهلها ودولهم، ولا تتورع أن تلقي كلمتها في مجلس الأمن/ الأمم المتحدة خلاف ما جاء في بيان الشقيقات مجتمعات، وتصف أطرافَ الحرب بعكس ما فيهم، فردة فعل المقاومة المشروعة إرهاب عندها وبربرية، والكيان المحتل يدافع عن النفس وله الحق في ذلك، ولكن دفاعه مبالغ به فقط، تدعمهم نفسيا وإعلاميا وورد حتى عسكريا، حتى لفظة شهداء تغيب من قواميس إعلامهم ويستكثرونها على المقتولين ظلما وعدوانا دون بيوتهم ودون أعراضهم..
وثالثةً أخرى يصدق عليها المثل الشعبي: “الناسْ في همَّة وسيفوه يُغلي الكُمَّة”، فبينما دماء الأبرياء من أهلهم المساكين في غزة وفلسطين عامة تُهْرَاق، وأبناء جنسهم (وليس الجنود والمرابطين على الحدود) يبادون، وتهدم بيوتهم على رؤوسهم أطفالا ونساء وشيوخا، نجدها غارقة في موسمها، واحتفالاتها بما اشتملت عليه من تجاوزات على مختلف المستويات؛ الدينية والأخلاقية، والقيمية، وحتى الإنسانية، وإذا ما انبرى غيرها من شقيقاتها العربيات بالنجدة، فأطلقت صواريخ على الكيان تمر من سمائها، اعترضتها أن تبلغ غايتها في دكِّ المحتل في فلسطين تخفيفا على الأبرياء المغدورين، وهل مرّ الطيران العسكري الصهيوني فوق سماءها، وهو يشن هجماته على منشآت نووية لدولة مستقلة (إيران) عامي (٢٠٠٥ و ٢٠١٢) فلم تعترضها هي ودول عربية أخرى.. سؤال مطروح؟!… بينما من قيم هذه الأمة الكبرى: أنها كالجسد الواحد يتداعى بعضه لتعب بعض، وأنهم (إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلۡبَغۡيُ هُمۡ يَنتَصِرُونَ ٣٩/ الشورى ) بعضهم لبعض..!
أيها الشعوب الحرة العربية أنتم غير معذورين عن إسماع أنظمة هذه الدول العربية الناشز أصواتكم، وأن يكون لكم موقف مشرف في الدفاع عن دينكم وأمتكم وقيمكم ومقدساتكم ودولكم وحاضركم ومستقبلكم بما تستطيعون، وليس أبسطَ من أن تجعلوها في ضمائركم وأدبياتكم، وتجعلوها شغلكم وشاغلكم، فتقاطعوا التعامل معهم، والسياحة في دارهم، والشراء والبيع معهم، وتنصحوا بالحسنى ما أمكن مذكرين، وقلوبكم تفعل ذلك محاولةً لتنبيههم وانتشالهم مما قد يكون أوقعهم فيه عدوُّكم وعدوهم… تؤدونه حُبًّا لهم، وشفقةً عليهم وعليكم وعلى أمتكم (لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ أَوۡ يُحۡدِثُ لَهُمۡ ذِكۡرٗا ١١٣/ طه).
وحَّد الله العرب والمسلمين، ونصر الله المجاهدين في غزة وعموم فلسطين على عدوه وعدوهم، ودحر من تكالب معهم وتداعى من العالمين، عربا وعجما، وجعل الله سبحانه في هذا بداية النهاية للظالمين، وعودة الأقصى الحزين والمقدسات عامة لأهلها، مسلمين ويهودا ومسيحيين.. عاجلا غير آجل يا رب العالمين..
عبد الحميد بن حميد بن عبد الله الجامعي
الجمعة
١٩ ربيع الآخر ١٤٤٥ هـ
٣ أكتوبر ٢٠٢٣ م
مسقط – سلطنة عمان