بعد أن أبحرنا في بدايات العلّامة الكبير الألباني، وعرّجنا على البيئة السياسية التي نشأ فيها سواء في ألبانيا او محط رحال عائلته دمشق، والتأثيرات التي رافقته وكيفية تغلبه على الظروف ليصنع العلم من الحجر، ويكتسب المعرفة من الصخر، ما فتح له أبواباً ليتبوأ مناصب تليق بمسيرته وتحصيله العلمي بجهودٍ شخصية قلّ نظيرها.
مسيرة الشيخ التعليمية
بدأ الشيخ الألباني بإعطاء دروسه الأولى في محل الساعات الخاص به في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، ليلي ذلك نقل طلابه إلى بيت أحد الإخوة في الإيمان، حيث نما عدد الطلاب بشكل مطرد، ثم استأجروا للصفوف طابقاً كاملاً في أحد الأبنية في دمشق، وبعد ذلك تم نقل الفصول مرة أخرى إلى منزل خاص، وكانت دروس الشيخ تقام مرتين في الأسبوع، ويحضرها عدد كبير من الطلاب وأساتذة الجامعة.
وقد تم في المحاضرات دراسة قضايا العقيدة الإسلامية والقانون والحديث وغيرها من العلوم الشرعية بشكل مفصل، وعلى وجه الخصوص، درس الشيخ الألباني في دروسه محتوى الأعمال الكلاسيكية والحديثة التالية عن الإسلام: “زاد المعاد” لابن القيم (السيرة النبوية)، “نهبة الفكر” لـ ابن حجر العسقلاني (دراسات حديثية)، “الروضة النادية” لصديق حسن خان (تعليق على عمل الشوكاني “الدرر البهية”، فقه)، “فتح المجيد” لـ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (التوحيد)، “البيع الخاص” لأحمد شاكر (تعليق على كتاب اختصار علوم الحديث لابن كثير، الحديث) (دراسات)، «أصول الفقه» لعبد الوهاب خلاف (فقه)، «الترغيب والترهيب» المنذري (حديث)، «الأدب المفرد» للبخاري (حديث عن) (الأخلاق)، “الحلال والحرام” للقرضاوي، “منهج الإسلام في الحكم” لمحمد أسد، “مستلح التاريخ” لأسد رستم (تأريخ)، “فقه السنة” لمحمد أسد، “”مصطلح التاريخ” لأسد رستم””. سعيد سابق (فقه)، «رياض الصالحين» للنووي، «الإعلام في أحاديث الأحكام» لابن دقيق العيدة، «طبقات فحول الشعراء» لابن سلام، وكذلك الجمحي (شعر).
وإلى جانب العمل في المكتبة الظاهرية والدروس في دمشق، قام الشيخ الألباني وأمثاله بوضع برنامج لزيارة مدن أخرى في سوريا لتشجيع الناس على اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله سلم، ونتيجة لذلك، كان الشيخ الألباني يتردد بانتظام على مدن مثل حلب واللاذقية وإدلب وسلمية وحمص وحماة والرقة وغيرها، واجتمع على محاضرات الشيخ كثير من الناس الذين أرادوا دراسة الحديث، وتحولت دروسه إلى ندوات علمية، حيث تم فهم مصطلحات الحديث، وقراءة كتب السنة، وطرح الأسئلة، وإجراء المناقشات العلمية.
التدريس بجامعة المدينة المنورة (1961-1963)
في عام 1961، في المدينة المنورة، بمرسوم من ملك المملكة العربية السعودية، سعود بن عبد العزيز آل سعود، تأسست الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والتي أصبحت واحدة من أكبر المؤسسات التعليمية الإسلامية وأكثرها احتراماً في العالم، وكان أول عميد للجامعة هو مفتي المملكة العربية السعودية محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وعلى عكس الجامعات الإسلامية الأخرى التي كانت تتضمن مواد علمانية في مناهجها الدراسية، ركزت جامعة المدينة المنورة في البداية بشكل حصري على دراسة العلوم الشرعية.
وعلى الرغم من أن الشيخ الألباني لم يكن حاصلاً على درجة الدكتوراه، وهو ما يشترط عادة لشغل منصب تدريسي في إحدى الجامعات، إلا أن قيادة الجامعة الإسلامية دعت الشيخ إلى كلية دراسات الحديث، ويرجع هذا الاختيار إلى الأسباب التالية:
أولاً، لقد كان المجتمع العلمي في البلاد الإسلامية على علم بالعمل البحثي اليومي للشيخ في المكتبة الظاهرية منذ منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، أي أنه عندما تمت دعوته إلى الجامعة، كان الشيخ الألباني يبحث في الحديث منذ أكثر من 25 عاماً؛
ثانياً، في الخمسينيات بدأ نشر بعض كتب الشيخ مما أكسبه شهرة عالمية فيما بعد، بالإضافة إلى ذلك، نُشرت مقالاته في المجلات الدينية والتربوية (على سبيل المثال، “التضامن الإسلامي = الحضارة الإسلامية”)؛
ثالثاً، منذ الخمسينيات ودخل الشيخ في مراسلات أكاديمية مع كبار علماء الدين في عصره، وكثيراً ما كانوا يلجأون إليه بطلبات الحكم على أي حديث، ويرسلون مخطوطاتهم للتحقق منها، ويطلبون منه أن يكتب مقدمة لأعمالهم، بالإضافة إلى ذلك، تعرف الشيخ شخصياً على بعض علماء الإسلام؛
رابعاً، عُرف الشيخ بعمله في المناصب الإدارية، فقد قام بالتحقق من صحة أحاديث القسم التجاري والاقتصادي من موسوعة الشريعة الإسلامية بناء على طلب جامعة دمشق (1955) وأعد كتاب للنشر في الحديث، لجنة الجمهورية العربية المتحدة (1958-1961)؛
خامساً، كان الشيخ قريباً إيديولوجياً من المذهب الديني في المملكة العربية السعودية، قبل وقت قصير من افتتاح جامعة المدينة المنورة، تلقى الشيخ الألباني دعوة من المفتي الأعلى للمملكة العربية السعودية للعمل مدرساً في كلية دراسات الحديث، وبعد بعض التردد كما قيل، وافق الشيخ.
ونتيجة لذلك، قرأ الشيخ الألباني سلسلة من المحاضرات حول دراسات الحديث في جامعة المدينة المنورة من عام 1961 إلى عام 1963، وبفضل جهوده ارتقى تعليم الحديث وعلومه إلى مستوى مختلف نوعياً، بعد ذلك، بدأ العديد من الطلاب، الذين أصبحوا فيما بعد من علماء الحديث المشهورين وحصلوا على الدكتوراه، في الانخراط في دراسات الحديث.
وقع طلاب جامعة المدينة المنورة في حب الشيخ الألباني ليس فقط لعمق علمه وإخلاصه في الدعوة إلى الله وإخلاصه، ولكن أيضاً لبساطته في التواصل، مما ميزه عن غيره من الأساتذة، إلا أن شعبية الشيخ الألباني بين الطلاب أثارت حسد بعض أعضاء هيئة التدريس، بالإضافة إلى ذلك، بدأ أعداء الشيخ يتضايقون من الأسئلة التي بدأ الطلاب يطرحونها في محاضرات التفسير والفقه: “من روى هذا الحديث؟”، و “هل إسناد هذا الحديث موثوق؟”.
ونتيجة لذلك، قام بعض الأساتذة، الذين أصاب مرض الحسد والحقد قلوبهم، بكتابة رسالة افتراء إلى إدارة الجامعة، اتهموا فيها الشيخ الألباني بتشكيل زمرة، وأعربوا عن مخاوفهم أنه كان على وشك فعل شيء سيئ، وقد نجحت الإدانة ضد الشيخ الألباني، وحتى صديقه المقرب الشيخ ابن باز، الذي كان يشغل آنذاك منصب نائب رئيس الجامعة، لم يتمكن من الدفاع عنه، وبحسب الشيخ الألباني، فإن الرسالة التشهيرية ربما وصلت إلى الملك نفسه، لكن قبل أسبوعين من بدء العام الدراسي، تلقى الشيخ الألباني، الذي كان في إجازة صيفية في دمشق، رسالة من الشيخ ابن باز، وفيه أبلغ الشيخ ابن باز أنه وصله كتاب من المفتي يفيد بعدم ضرورة تجديد عقد العمل مع الشيخ الألباني.
وعلى الرغم من ذلك، احتفظ الشيخ الألباني بأعذب ذكريات السنوات التي قضاها في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة طوال حياته، وللتأكيد، يكفي أن نذكر أنه ورث مكتبته بأكملها لهذه المؤسسة التعليمية.
وبطبيعة الحال، فإن الشعبية المتزايدة للشيخ الألباني ورحلاته لإلقاء محاضرات إلى مدن أخرى في سوريا لم تمر دون أن يلاحظها أحد من قبل أعدائه من أنصار المذاهب المتعصبين والصوفية وأتباع البدع الدينية، ومن أجل تخفيف حدة التوتر وإيصال الحقيقة، زار الشيخ العديد من الشخصيات الدينية في دمشق، وتباحث معهم في قضايا التوحيد والبدع والتقليد الواعي للعلماء والتمسك الأعمى بالمذاهب، ولم يتمكن أعداؤه من دحض حجج الشيخ الألباني بحجج من الكتاب والسنة، فلجأوا إلى أساليب مجربة منذ زمن طويل، على سبيل المثال، تحريض عامة الناس ضد الشيخ، وكتابة إدانات ضده إلى السلطات.
ونتيجة التنديدات انقطعت دروس الشيخ الألباني وأغلقت السلطات مقره، ومع ذلك، استؤنفت الدروس في أقرب وقت ممكن، لكن خلال هذه الفترات لم ينقطع الشيخ عن عمله، فقد انغمس في قراءة الرسائل في المكتبة الظاهرية، وقام بتجميع كتالوكات المخطوطات، والتحقق من صحة الأحاديث، وجمع الأعمال العلمية.
في هذه الأثناء، كان علماء دين دمشق المحترمون، والمعروفون بمعرفتهم العميقة بالدين، يدعمون بشكل كامل الدعوة الإسلامية للشيخ الألباني، ويشجعونه على مواصلة النشاط والزهد، ومن بينهم، برز بشكل خاص علماء دمشق الجليلون مثل الشيخ محمد بهجت البيطار، والشيخ عبد الفتاح والإمام توفيق البرزخ.
خلال الفترة التي كان الشيخ الألباني يدرس فيها في جامعة المدينة المنورة (1961-1963)، شهدت سوريا عدة انقلابات عسكرية، قم في عام 1958، اتحدت سوريا ومصر في دولة واحدة – الجمهورية العربية المتحدة ومركزها القاهرة، ومع ذلك، فإن التحالف المدعوم من الاتحاد السوفييتي لم يدم طويلاً، فقد أطلق السوريون، غير الراضين عن وضعهم، تمرداً أدى في سبتمبر 1961 إلى انقلاب، حيث حاول المصريون قمع مركز المقاومة، لكنهم لم ينجحوا، وانسحبت سوريا من الاتحاد، وفي مارس 1962، حدث انقلاب مرة أخرى في سوريا بقيادة نفس المجموعة من ضباط الجيش، وبعد عام (مارس 1963)، حدث انقلاب آخر في البلاد، فتح ذلك صفحة مأساوية في تاريخ سوريا، مع وصول حزب النهضة العربي الاشتراكي (البعث) إلى السلطة، والذي سيكون بعد سنوات قليلة من الانقلاب التالي برئاسة حافظ الأسد.
ولدى عودته من المدينة المنورة عام 1963، سلم الشيخ الألباني متجر الساعات الخاص به إلى أحد إخوته وركز بالكامل على العمل في المكتبة، وفي الوقت نفسه، تدهورت العلاقات بين سوريا والكيان الصهيوني بشكل حاد بسبب موارد المياه، والسيطرة على المناطق منزوعة السلاح على طول خط وقف إطلاق النار لعام 1948، ودعم دمشق للمقاومة الفلسطينية، ومن أبريل إلى مايو 1967، كانت هناك زيادة في الاشتباكات العسكرية على الحدود السورية “الإسرائيلية” وكانت الأطراف المتصارعة تستعد لحرب أخرى، وتمت التعبئة على حدود الدول العربية والكيان الصهيوني وتركزت القوات.
على هذه الخلفية، قررت القيادة السورية التخلص من خصومها، لم يُزج في السجن بالمعارضين فحسب، بل أيضاً بالشخصيات الدينية غير الموالية للبعثين، ومنهم الشيخ الألباني، وفي مايو 1967، تم سجنه للمرة الأولى، وبعد هزيمة الدول العربية في حرب الأيام الستة في يونيو 1967، تم إطلاق سراح الشيخ مع سجناء سياسيين آخرين.
من هنا، أدرك الشيخ ابن باز الخطر الذي يتهدد الشيخ الألباني وحاول مساعدته، وفي عام 1968، دعا صديقه المقرب ليصبح عميد كلية الشريعة في مكة، إلا أن أعداء الشيخ الألباني، الذين طردوه من جامعة المدينة المنورة قبل خمس سنوات، عارضوا هذا التعيين، وكانت مخاوف الشيخ ابن باز مبررة، ففي عام 1969، اعتقل الشيخ الألباني مرة أخرى من قبل السلطات السورية وألقي به في السجن حيث أمضى حوالي ثمانية أشهر.
وأثناء وجوده في سجن الحسكة أجرى الشيخ الألباني مناقشات مع السجناء ودعاهم إلى القرآن والسنة، وبفضل جهود الشيخ بدأت إقامة صلاة الجماعة والجمعة في السجن، بالإضافة إلى ذلك، عمل في السجن على تدقيق النسخة المختصرة من صحيح مسلم الذي جمع الإمام المنذري وحواشيه، وتمثل هذا العمل في قيام الشيخ بمراجعة جميع أحاديث “ملخص” المنذري مع “صحيح” مسلم الأصلي، وترقيم الأحاديث والتعليق على الألفاظ الصعبة والنادرة الموجودة فيها.
بعد خروجه من السجن، وجد الشيخ الألباني نفسه تحت الإقامة الجبرية، ليس هذا فقط، فقد مُنع من إعطاء الدروس والسفر خارج دمشق، لذلك، ركز بشكل كامل على البحث العلمي.
في هذه الأثناء، في تشرين الثاني/نوفمبر 1970، وقع انقلاب آخر في سوريا، حيث استولى حافظ الأسد على السلطة وسيحكم البلاد لمدة 30 عاماً، ولأن الدستور السوري نص على أنه لا يمكن أن يصبح رئيساً للدولة إلا مسلماً، وفي محاولة لتعزيز سلطته بين السنة الذين يشكلون غالبية سكان البلاد، كان يحضر الصلاة في المساجد السنية، ويؤدي فريضة الحج، ويستخدم المصطلحات الدينية في خطبه، بل ويعين السنة في مناصب حكومية مهمة، بالإضافة إلى ذلك، قام بتعيين الداعية السني المؤثر أحمد الخطيب، وحشد دعم الزعماء الدينيين السنة، بما في ذلك مفتي دمشق.
بالتالي، أثر التحرير النسبي للحياة الدينية في سوريا في النصف الأول من السبعينيات على مصير الشيخ الألباني، فقد تم إطلاق سراحه من الإقامة الجبرية وسمح له بالسفر إلى الخارج، وبدأت مرحلة جديدة في حياة الشيخ، عندما أتيحت الفرصة لمسلمي الدول الأوروبية والعربية ليس فقط لقراءة كتبه، ولكن أيضاً لحضور دروسه، وهذه المرحلة تُعتبر مرحلة مفصلية في حياة الشيخ الألباني بعد كل المعاناة التي عاناها سواء في منعه التدريس في مكة أو حبسه في سوريا، لكنه لم يتوقف، ولم يثبط أي شيء عزيمته، بل واصل علمه وعلّم ونفع كل من وقع في طريقه، وهذا فعلاً نادر، ومجهود كبير، فببساطة كان يستطيع العودة إلى مسقط رأسه لكن نشر التعاليم وتثقيف الناس كانت غايته ومطلبه، فعلاً رحم الله كل من حمل لواء الإسلام ورفعه عالياً.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.