بعد أن استحضرنا نبذة من سيرة الشيخ الألباني بشكل موسّع قليلاً، وتجولنا في رحاب مسيرته ورحلاته وشغفه للعلم ونشر تعاليم الإسلام، “لكل كتابٍ أجل”، ولكل عالم محطة في هذه الحياة تنتهي بوفاته، لكن الفرق أنه يترك إرثاً يجعله حيّ بيننا، صوته حاضراً وصورته مشعّة، كتبه حاضرة، ومحاضراته ومقالاته حفظها محبيه، بالتالي، وبتأريخ سيَر العلماء، نحاول استذكار هذا الموروث الذي أغنى الأمة سواء للشيخ الألباني أو غيره، مع الإشارة إلى أنه ليس بالضرورة أن نتفق مع كامل هذا النهج أو نختلف فيه كلياً، خاصة لمن يعتمدون الأدلة والقرائن والأسانيد ودقتها في المسائل الدينية والحديثية.
كما يذكر الشيخ الألباني نفسه: “كانت بعض الدروس التي قدمتها صحيحة، كما تبينت لاحقاً، وبعضها لم يكن كذلك، والخطأ يرجع إلى شيئين: التقليد الأعمى للمذهب، والتصوف، وهذا ما رمينا إليه منذ البداية، أي الخطأ وارد، ومن ينقد بهدف التصحيح يصل إلى النتائج المرجوة.
وجدير بالذكر أن الشيخ الألباني، لم يندم يوماً على شغفه بالكتب على الإطلاق، فبعد الانتهاء من المدرسة الابتدائية، أصبحت القراءة هوايته المفضلة. وبطبيعة الحال، إذا نظر شخص ما إلى ما قرأه في البداية، فسوف يفهم أنه ليس فقط عدم وجود فوائد في تلك الكتب، بل على العكس من ذلك، يمكن أن يكون لها تأثير ضار، ولكن من خلال القراءة الكثيرة، تعززت معرفته باللغة العربية وتطورت مهاراته في الكلام، وما يشرح هو عن نفسه في هذا الصدد، يمكن تقسيم قراءته إلى عدة مراحل:
في البداية، قرأ بنهم روايات الكتاب المعاصرين، وأحبّ بشكل خاص القصص عن مغامرات اللص الشهير أرسين لوبين، ثم جاءت المرحلة الثانية، على سبيل المثال، قرأ مجموعة “ألف ليلة وليلة”، ورحلات السندباد البحري، وقصة صلاح الدين، وقصص عن أبطال آخرين من الماضي، وما إلى ذلك، ثم بفضل تدبير الله عز وجل ورحمته، غير مهنته (من نجار إلى ساعاتي)، وبدأ العمل مع والده، وأصبح لدي الكثير من وقت الفراغ، كما أسلفنا في الأجزاء الأولى، ما أتاح له الوقت الكثير لينكب على القراءة.
يتذكر الشيخ الألباني تماماً اليوم الذي التقط فيه مجلة المنار لأول مرة وقال: “أذكر جيداً كيف قرأت في أحد أعداد مجلة المنار مقالاً يقول فيه السيد رشيد رضا، ربما رحمه الله، عن كتاب الغزالي إحياء علوم الدين، وأشار إلى مزايا هذا العمل وعيوبه، وانتقد بشكل خاص التوجه الصوفي للكتاب وما ورد فيه من أحاديث ضعيفة لا أساس لها من الصحة، وذكر في هذا الصدد أن أبا الفضل زين الدين العراقي قد ألف مصنفاً خاصاً لكتاب إحياء علوم الدين ذكر فيه مصادر الأحاديث الواردة في كتاب إحياء علوم الدين -الدين”، وتحقق من صحتها، فسمى عمله “المغني عن حمل الأصفر في الأصفر في تخريج ما في الإحياء من الأخبار”، ويتألف هذا العمل من أربعة مجلدات، بدا المجلد الأول الآن غير منظم، جزء منه لم يكن به مثل هذه التفسيرات، بينما كان الآخر به، لم يعجبه هذا النقص في النظام على الإطلاق، لذلك قرر إعادة كتابة المجلد بأكمله من جديد، وتزويده بالتفسيرات اللازمة، وعندما انتهى من إعادة كتابة المجلد الأول وبدأ بالمجلد الثاني، لاحظ فرقاً شاسعاً بين الشروحات في بداية المجلد وفي نهايته، وبحسب ما ذكره الألباني نفسه: “لقد استفدت كثيراً من إعادة كتابة هذا العمل، خاصة وأنني بذلك عوضت النقص الذي بدأ أشعر به في المعرفة، لأنني أولا كنت قد بدأت للتو في دراسة العلوم الشرعية، وعلى العموم فقد استفدت من هذا العمل استفادة كبيرة، وما زال لدي ولله الحمد نسخة معادة من ذلك العمل”، وكما يقول الشيخ محمد المجذوب: “أراني الشيخ الألباني نفس النسخة من عمله، وهو يتألف من ثلاثة مجلدات، مقسمة إلى أربعة أجزاء، ويبلغ إجمالي صفحاته 2012 صفحة، ويمكن اعتبار إعادة كتابة هذا العمل من قبل العراقي الذي يحتوي على حوالي 5 آلاف حديث، وتجميع الملاحظات عليه مقدمة للدراسات الحديثية للشيخ، ومنذ تلك اللحظة وحتى نهاية حياته كان همّ الشيخ الألباني الأساسي خدمة علم الحديث الشريف.
كما يمكن الاستشهاد بالقصة التوضيحية التالية من مذكرات الشيخ: “كنت الوحيد من بين جميع إخوتي الذي كان يذهب باستمرار إلى المسجد مع والدي، ومن عاداته الانتظام في زيارة المسجد الأموي للصلاة فيه، وقد تصرف الأب رحمه الله على هذا النحو لما ورد في كتب المذهب الحنفي من فضل الصلاة في هذا المسجد، فمثلاً في إحدى الرسائل الواردة في رسالة حجية المذهب الحنفي “حاشية ابن عابدين” نقل كلام سفيان الثوري: “صلاة في المسجد الأموي تعدل سبعين ألف صلاة”، لا أستطيع أن أفهم لماذا يتمتع هذا المسجد بهذه الكرامة العظيمة، خاصة أنه بني بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم تحولت الأيام إلى سنوات، وقادني بحثي إلى دراسة أكبر مجموعة معروفة من التاريخ الإسلامي، تسمى “تاريخ دمشق” لابن عساكر، وهذه الأسطورة التي وردت في كتاب “حاشية ابن عابدين” موجودة في فصل “في كرامة الجامع الأموي”، ويشار إلى هذا العمل بالذات “تاريخ دمشق” كمصدر أساسي، وهذا هو مذهب علماء آخر المسلمين: يكفيهم أن الحديث نقله بعض المؤلفين، حتى ابن عساكر، حتى يعتبر الحديث ثابتا. ولما كنت بعد سنوات أدرس المخطوطات في المكتبة الظاهرية عثرت على كتاب ابن عساكر تاريخ دمشق، وكانت هذه المخطوطة في 17 مجلداً ضخماً، وقد قرأتها كلها.
وفيما يختلف البعض معه ربما هو ما جاء على ذكره فيما يتعلق، ببحثه مسألة دفن النبي يحيى عليه السلام وقبره، في المسجد الأموي، وكتب رأيه في ذلك اعتماداً على بعض الكتب، لكن علماء دمشق حينها انتقدوه وقالوا له إن كل ما كتبه لا قيمة لها لأنه اعتمد على كتب غير موثوقة المصادر.
أما بالنسبة لخلاف الألباني مع والده، فقد يعتبر البعض أن هذا الخلاف هو علامة على عدم احترام والديه، هكذا أجاب الشيخ نفسه على السؤال المقابل: “قد يعتقد ذلك بعض المتحيزين حقًا. علاوة على ذلك، فإنهم يتحدثون عن ذلك علانية، ولكن من المستحيل أن يقول حتى عالم واحد من علماء الإسلام في العالم: “إن فضل السنة المخالفة لمذهب الأب هو عقوق الوالدين”، حسب أهل العلم، عقوق الوالدين يتعلق في المقام الأول بعقوق الأب، أي عدم تنفيذ أوامره والتحدث ضده، لكن هذا التعريف لا يصح إلا إذا كان سبب العصيان لا يكمن في الرغبة في اتباع القرآن والسنة، إذا اجتهد الإنسان في اتباع الكتاب والسنة ووالديه يعارضان ذلك فما نوع العصيان الذي يمكن أن نتحدث عنه؟ لذلك لا أعتقد أن أي شخص عاقل سيعتبر هذا عصياناً للوالدين، بل وإلا يمكن اتهام إبراهيم عليه السلام بمعصية أبيه، وبالطبع قد يعترض قائل: “هذه أمور مختلفة، لأننا في حالة سيدنا إبراهيم نتحدث عن المواجهة بين الكفر والتوحيد”، أجيب: نعم، مختلف، ولكن في حالتي نحن نتحدث عن مخالفة السنة والتمسك بالمذهب، لأن التقليد الأعمى للمذهب حرام”.
وفيما يتعلق بنهم القراءة وضيق الحال، كان الشيخ يلجأ في كثير من الأحيان إلى المكتبة العربية الهاشمية “عيد إخوان”، التي كان موظفوها، وهم أصدقاء الشيخ، يزودونه بالكتب التي يحتاجها، وكما قال الشيخ الألباني نفسه لاحقاً: “إن المكتبة الظاهرية ومكتبة القصيباتي والمكتبة العربية الهاشمية كانت سبباً في أن الله يسر لي (الطريق إلى المعرفة)، فأنا استفدت من الكتب كأنني كنت مالكهم.
وجدير بالذكر أن المكتبة الظاهرية تأسست عام 676 هـ (1277) على يد السلطان بيبرس، وكانت في البداية مدرسة ثانوية لتدريس علوم القرآن، بحلول وقت اندلاع الحرب الأهلية في سوريا عام 2011، كانت مجموعة المكتبة تتكون من أكثر من 13 ألف مخطوطة لعلماء مسلمين، ومن أقدم المخطوطات أعمال الإمام أحمد بن حنبل – “كتاب الزهد”، “الاستهتار بالدنيا” و”كتاب فضائل الصحابة = كتاب كرامة الصحابة”. تشمل المخطوطات الأخرى ذات القيمة الخاصة بالمكتبة كتب “تاريخ دمشق” لابن عساكر، و”غريب الحديث = كلمات نادرة وعبارات نادرة الاستخدام موجودة في الأحاديث” لابن قتيبة الدينواري، وأبحاث لابن أبي دنيا. وفي الوقت الحالي تم نقل مجموعة مكتبة “الظاهرية” إلى “مكتبة الأسد الوطنية”.
بالتالي، كان الشيخ الألباني مسؤولاً جداً عن تصنيف الأحاديث، كما يقول هو نفسه، لكن قبل الشروع في تأليف الكتب وتصنيف الأحاديث، حصل الشيخ الألباني على الإذن بنقل الأحاديث من محدث حلب الشيخ محمد راغب الطباع (1293–1370هـ/1876–1950م)، عندما زار مكتبة “الظاهرية”، كان الشيخ الألباني قد جمع مجموعة كبيرة من دراسات الحديث، والتي أطلق عليها “معجم الحديث النبوي” (“معجم أحاديث النبي”)، يحتوي هذا العمل على نحو أربعين مجلداً ولم يُنشر بعد، وقد اختار الشيخ الأحاديث لهذه المجموعة مع الإسناد من مئات المخطوطات المخزنة في مكتبات دمشق وحلب ومدن أخرى، معتمداً على مئات المخطوطات المحفوظة في المكتبات مثل “الظاهرية” في دمشق، و ”الأوقاف الإسلامية” في حلب، و ”المكتبة المحمودية” في المسجد النبوي، و”عارف الحكمة” في المدينة المنورة وغيرها، حيث تحتوي صناديق المكتبة هذه على أثمن مجموعات الحديث، بالإضافة إلى كتب السيرة النبوية والتاريخ وتراجم أصحاب الحديث، وكلها لم تنشر بعد…”.
كما حافظ الشيخ على مراسلات نشطة مع علماء الحديث البارزين في باكستان والهند (بديع الدين شاه السندي، عبد الصمد شرف الدين، محمد مصطفى أعظمي)، المغرب (محمد الزمزمي)، مصر (أحمد شاكر)، المملكة العربية السعودية ( عبد العزيز بن باز، محمد الأمين الشنقيطي) وغيرهم من البلدان، كما تبادل الشيخ الألباني الكتب مع كبار علماء الإسلام في عصره.
وقبل وفاته بعدة سنوات بدأ الشيخ الألباني يعاني من عدة أمراض، ومع ذلك صبر عليها محتسباً الأجر من الله، وبحسب بعض المقربين، أصيب الشيخ في أواخر حياته بفقر الدم، وكان يعاني من مرض الكبد وفشلت إحدى كليتيه، ولهذا السبب، خسر ثلاثين كيلوغراماً من وزنه، واضطر بشكل متزايد إلى قضاء بعض الوقت في مستشفى الشميساني (عمّان)، لكن رغم مرضه، واصل الشيخ نشاطه العلمي والتعليمي وحتى في المستشفى لم يفوت فرصة للدعوة إلى الله، ولما أصبح الشيخ ضعيفاً تماماً من المرض ولم يعد قادراً على الكتابة، أملى نتائج دراساته الحديثية على أبنائه وأحفاده، بالإضافة إلى ذلك، حتى أيامه الأخيرة لم يتوقف عن القراءة، وكانت دراسة الحديث تشغل ذهن الشيخ ليلاً ونهاراً، في النوم وفي الواقع، في المرض والصحة، واستمر ذلك أكثر من نصف قرن.
وفي يوم السبت 22 جمادى الآخرة 1420هـ (2 أكتوبر 1999)، توفي الشيخ الألباني رحمه الله في مستشفى الشميساني، وانتهت رحلة العلم للشيخ الألباني بوفاته، وهنا لا بد من قول الآتي، أحترم كل إنسان سعى إلى العلم ودراسته ومحاولة إفادة الأمة جميعاً، سواء كان علمه منقوصاً أو كاملاً، مناسباً للبعض أم مخالفاً، لكن مسيرة نصف قرن من البحث العلمي بمجهود شخصي لا يمكن لأي إنسان إلا أن يحترم هذا الشيخ الكبير، رحمه الله ورحم جميع علمائنا الكبار.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.