غيّرت حركة حماس قواعد اللعبة في الإعلام العالمي؛ فلم تعد الأكاذيب الإسرائيلية تنطلي على الشعوب الغربية، التي ظلت رهينة محبس الإعلام الصهيوني الموجه، لأنّ وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دورًا مهمًا في إيصال الصوت الفلسطيني للعالم وحشد الدعم العالمي له، رغم تقييد وحجب بعض الحسابات المؤيِّدة للحق الفلسطيني عبر بعض هذه المواقع، خاصة بعد أحداث غزة. وقد وعى الكيان الصهيوني جيدًا أن قواعد اللعبة ليست في صالحه؛ حيث كشفت صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية أنّ لقاء جمع كلًّا من وزير حرب الكيان، والقائم بمهام وزير العدل بمديرين من شركتي «فيسبوك» و«تيك توك» بهدف اتخاذ إجراءات فورية لإزالة المحتوى الذي «قد يحرّض على العنف أو يبث معلومات مضللة»، وبالطبع لم يكونا يقصدان عنف إسرائيل ولا افتراءاتها المضللة.
أثارت وسائل التواصل الاجتماعي ضجة كبرى في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن تداول مئات الآلاف من الشبان الأمريكيين مقاطع فيديو على تطبيق «تيك توك»، عبّروا فيها عن تعاطفهم مع أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة الأسبق، وذلك بسبب رسالة تعود لعقدين من الزمن، انتقد فيها الولايات المتحدة لدعمها إسرائيل؛ وهي الرسالة التي وجهها عام 2002، لكن الفيديو الذي حصد أكثر من عشرين مليون مشاهدة حتى كتابة هذا المقال، بدا كأنه يتحدّث عن الوضع الحالي في غزة وتأييد أمريكا السافر للعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني. كان من أثر انتشار ذلك الفيديو أنّ كثيرًا من المقاطع انتشرت مؤيِّدةً لرأي ابن لادن، وحثت المستخدمين الآخرين على قراءة الرسالة التي تداولها الشباب في سياق انتقاد الدعم الأمريكي لإسرائيل في حربها المستمرة ضد غزة.
المثير للسخرية في الأمر أنّ البيت الأبيض؛ الشريك الأساسي في المذابح التي تُرتكب ضد الفلسطينيين، لا يرى أنّ تأييده للكيان الصهيوني، أدى إلى قتل الأبرياء من الشيوخ والنساء والأطفال، بل أعاد بكائيته على ضحايا هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، عندما انتقد أندرو بيتس المتحدث باسم البيت الأبيض تداول رسالة ابن لادن، ووصفها بأنها إهانة لضحايا هجمات سبتمبر، وذلك في بيان قال فيه: «لا يوجد أيّ مبرر على الإطلاق لنشر الأكاذيب البغيضة والشريرة والمعادية للسامية التي أطلقها زعيم تنظيم القاعدة، بعد ارتكاب أسوأ هجوم إرهابي في التاريخ الأمريكي وتسليط الضوء عليها، كدافع مباشر لقتل 2977 أمريكيًا بريئًا».
في الرسالة المترجمة إلى الإنجليزية، برر أسامة بن لادن، الهجمات التي نُفِّذت ضد الولايات المتحدة، معتبرًا أنها ردٌ على هجومها على العرب والمسلمين، وتحديدًا على فلسطين، وقال: «فلسطين غارقة تحت الاحتلال العسكري، ولقد سلم الإنجليز فلسطين بمساعدتكم ودعمكم لليهود الذين احتلوها لأكثر من خمسين عامًا. سنواتٌ مليئةٌ بالظلم والطغيان والجرائم والقتل والطرد والدمار والخراب». وفي فقرة أخرى يقول: «إنّ إنشاء إسرائيل واستمرارها من أعظم الجرائم، وأنتم قادة مجرميها، وبالطبع لا داعي لشرح وإثبات درجة الدعم الأمريكي لإسرائيل.. إنّ إنشاء إسرائيل جريمة يجب أن تمحى، وكلّ من تلوثت يداه بالمساهمة في هذه الجريمة يجب أن يدفع ثمنها غاليًا». وخاطب الأمريكيين مباشرة عندما قال: «إنّ الشعب الأمريكي هو الذي يدفع الضرائب التي تمول الطائرات التي تقصفنا في أفغانستان، والدبابات التي تضرب وتدمر بيوتنا في فلسطين، والجيوش التي تحتل أراضينا في الخليج، والأساطيل التي تضمن حصار العراق»، لافتًا إلى أنه «ولهذا السبب لا يمكن للشعب الأمريكي أن يكون بريئًا من كلّ الجرائم التي يرتكبها الأمريكيون واليهود ضدنا».
وأمام الضجة التي أثارتها رسالة ابن لادن، أزالت صحيفة «الجارديان» البريطانية، النسخة المترجمة من الرسالة التي كانت قد نشرتْها لأول مرة في عام 2002، من موقعها على الإنترنت، بعد أن نقلها مستخدمو «تيك توك» منها. وقالت الصحيفة: إنّ الرسالة «المنشورة على موقعنا الإلكتروني قبل عشرين عامًا، تم تداولها على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي دون السياق الكامل؛ لذلك قررنا حذفها».
ويبدو أنّ الضغوط على تطبيق «تيك توك» الذي نشر رسالة ابن لادن نقلا عن الصحيفة البريطانية، كان من القوة بمكان، فقد أزال المحتوى بحجة أنه «ينتهك بشكل واضح قواعدنا بشأن دعم أيّ شكل من أشكال الإرهاب»، لكن باحثين في معهد «الحوار الاستراتيجي»، الذي يدرس التطرف على وسائل التواصل الاجتماعي، ذكروا أنهم عثروا على واحد وأربعين مقطع فيديو بعنوان «رسالة إلى أمريكا» على تطبيق «تيك توك»، وأنه لا يزال من السهل الوصول إلى مقاطع الفيديو تحت مصطلح البحث «ابن لادن» أو غيره من العناوين.
في كلّ الأحوال فإنّ وجود تطبيق غير أمريكي أو غربي، يفتح المجال للآخرين أن يهتموا بهذا الجانب، ولماذا لا يكون لدى العرب أو المسلمين تطبيق يظهر للعالم قضاياهم العادلة؟ إنّ كلّ الانتقادات التي وجهت لتطبيق «تيك توك» المملوك لشركة صينية، يدل على مدى التأثير الذي حققه التطبيق في أمريكا، فهو قوة من القوى الصينية الناعمة، ويحظى بشعبية كبيرة بين الشباب الأمريكيين، حيث يستخدم غالبية الذين تقل أعمارهم عن ثلاثين عامًا التطبيق مرة واحدة على الأقل في الأسبوع، وفقًا لمسح أجرته منظمة «كي أف أف» الأميركية، لذا لا غرابة أن يدعو بعض المشرعين الأميركيين إلى حظره في الولايات المتحدة، باعتباره «يشكل تهديدًا للأمن القومي الأمريكي». ومنذ السابع من أكتوبر الماضي، زعم منتقدو التطبيق أنه يستخدم نفوذه لدفع محتوى مناهض لإسرائيل، ويتعارض مع مصالح السياسة الخارجية الأمريكية وهو ما ينفيه «تيك توك».
قبل عشرين عامًا، لم يكن عدد الذين اطلعوا على رسالة أسامة بن لادن بنفس عدد الذين اطلعوا عليها الآن. وقبل المدة نفسها لم يكن أسامة بن لادن ليجد التأييد الذي يجده الآن من الأمريكيين، ولم يكن الوعي الأمريكي قد وصل إلى ما وصل إليه الآن، وللدلالة على ذلك – مثلا – فقد نشرت لينيت أدكينز وهي ناشطة أمريكية على منصة «تيك توك»، ويتابعها ما يناهز اثني عشر مليون مستخدم، الرسالة، وقالت: «أريد من الجميع أن يتوقفوا عن فعل ما يفعلونه الآن، ويذهبوا لقراءة «رسالة إلى أمريكا»، أشعر وكأنني أمرّ بأزمة وجودية الآن»؛ فيما عبّر العديد من المستخدمين، الذين أعادوا نشر تلك الرسالة على حساباتهم، عن تعاطفهم مع أسامة بن لادن، وشعورهم بالصدمة بعد قراءة تلك الرسالة، كما أوضح البعض أنهم خُدعوا على مدار كلّ تلك السنين الماضية، وأنه يجري تسويق فكرة الإرهاب بشكل مخادع، وما «الإرهاب» إلا كذبة.
ها هو أسامة بن لادن يُبعث حيًا في أمريكا، بعد الإعلان عن قتله في الثاني من مايو 2011، وقد وصفته صحيفة «وول ستريت جورنال» بأنه المؤثر الجديد على تطبيق تيك توك، عندما تناولت موضوع انتشار رسالته، وقالت الصحيفة: إنّ «الإرهابي، الذي خطط لهجمات الحادي عشر من سبتمبر انتشر على نطاق واسع هذا الأسبوع، ولكن بطريقة سيئة».
وسواء اتفقنا مع ابن لادن أو لم نتفق، فالمؤكد أنّ ما قاله عن دعم أمريكا للكيان الصهيوني صحيح، وهو ما يعرفه كلّ إنسان حر في الوطن الإسلامي وفي العالم الثالث. والجميل أنّ الأمريكيين بعد عشرين عامًا – وهم يرون مشاركة بلادهم في إبادة الفلسطينيين في غزة – بدأوا يستوعبون اللعبة، وأنهم كانوا يعيشون في كذبة كبرى، وأنهم كانوا مغيبين عن الحقائق، بفضل الإعلام الموجه الذي تسيطر عليه اللوبيات الصهيونية.
زاهر المحروقي / كاتب عماني مهتم في الشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»