تجديد جلد الأفاعي الكبيرة لا يقلل سميتها، بل يزيد قدرتها على اللدغ، ويخلصها مما علق بجلدها القديم من بقايا تلف أصاب بعض مناطقه لسبب أو لآخر، وفي جميع الأحوال انسلاخ الأفعى من جلدها يدل على أنه أخذ يضيق بها، وأنها في طور النمو والاستطالة والتضخم، وليس في طور الانكماش والتقلص، لأن أي ندبة تصيب جسد الأفعى يعرض حياتها للخطر، ولعل هذا الواقع يحكم السياسة الأمريكية في عهد بايدن الذي أقحم نفسه في مواجهة ثلاث جبهات خطيرة للغاية: عسكرية غير مباشرة مع روسيا على الجغرافيا الأوكرانية، واقتصادية مفتوحة على المجهول مع الصين، ومركبة في منطقة الشرق الأوسط، وهذا يفسر اختزال الزمن، وانخراط الجزار الأمريكي بشكل مباشر عبر إرسال أساطيله ومدمراته وحاملات طائراته إلى الجبهة الأكثر خطورة خشية أن يتكسر نصل حربته الغارق بدماء الأبرياء، وسرعان ما فتحت الأناكودا الأمريكية شدقيها وأخذت تنفث سمومها من بعيد على كل من يقف في طريقها لإنقاذ فرختها المدللة المتكورة على ذاتها في فلسطين المحتلة، بعد أن شارفت غدتها السمية على النضوب من دون أن تفلح في القضاء على شعب الجبارين في فلسطين الجريحة.
على امتداد قرابة خمسين يوماً وحرب الإبادة التي تشنها” إسرائيل” على أطفال غزة ونسائها ومرضاها ومراكزها الصحية وكل مظاهر الحياة فيها لم تستطع منع صواريخ المقاومة من الانطلاق بثقة نحو أهدافها في البطن الرخو داخل كيان الاحتلال، ولم تفلح في تحرير أسير واحد كما كان يهدد نتنياهو وغالانت وبقية العنصريين الصهاينة في الحكومة الأكثر تشدداً في تاريخ الكيان منذ لحظة زرعه بالقوة على الجغرافيا الفلسطينية، وعلى الرغم من الدعم الأمريكي والغربي والتآمر الداخلي والإقليمي، بل والكوني لخدمة كيان الاحتلال ومساعدته في وأد الطفولة وإطفاء الأمل في عيون الفلسطينيين بقي المقاوم الفلسطيني سيد الساح، وأرغمت تل أبيب على هدنة مؤقتة وتبادل جزئي للأسرى، ولم يغير قدوم المسؤولين الأمنيين وتقاطرهم واجتماعهم في الدوحة من عزيمة الفلسطينيين، وتمسكهم بكرامتهم وبأهداب العزة والأنفة التي أفرزتها ملحمة طوفان الأقصى، فجاءت الموجة التالية من التصعيد الإسرائيلي ضد أبناء فلسطين بمباركة علنية أقرَّ بها المتحدث باسم الأمن القومي الأميركي:،جون كيربي مؤكداً تأييد الولايات المتحدة قرار كيان الاحتلال الإسرائيلي بتجديد عدوانه على قطاع غزّة بعد انتهاء الهدنة، وهذا يعني أن كل ما كان يتم الحديث عنه عن ضغوط أمريكية على حكومة نتنياهو لوقف الحرب ليس أكثر من رماد تذره واشنطن في عيون الرأي العام الأمريكي والعالمي لتغطية الإجرام الإسرائيلي، ومنحه ما يحتاجه من غطاء لعله يستطيع بلوغ ما عجز عن تحقيقه في الأيام الخمسين من مجازره وحرب الإبادة التي اعتمدها علنيا مرتكباً أبشع أنواع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية طالما أن العصا الأمريكية مرفوعة بغضب في وجه كل من يحاول الوقوف في وجه آلة القتل والإبادة التي زود بها البنتاغون جيش الاحتلال الصهيوني ليتابع جرائمه وسفك دماء الأبرياء بلا حسيب أو رقيب.
تصريحات جون كيربي الفظة تؤكد أن من يقود العمليات هم الأمريكيون أنفسهم، فخسارتهم من عجز نتنياهو عن تحقق الأهداف التي أعلنها هي أكبر بكثير من خسارة تل أبيب ذاتها، وهذا يعني أن الأخبار التي تم تناقلها عن مشادات بين بلينكن وأعضاء الكابنيت الحربي لا تخرج عن تكامل الأدوار وإسناد المهام وفق ما يرتئيه المايسترو الأمريكي الذي يقود الأعمال القتالية، وما يزال يفشل في وقف امتدادات طوفان الأقصى المبارك، ومن يدقق في مضمون ما تم نشره من أخبار يدرك هذه الحقيقة، فعندما يقول غالانت أن جيشه يحتاج لعدة أشهر لضمان القضاء على المقاومة الفلسطينية، ويجيبه بلينكن بأن المدة الممكنة التي قد تمنح له لتنفيذ ما تعهد به لا تبلغ الأشهر المتعددة المطلوبة، فهذا لا يعني رفض الطلب الإسرائيلي، بل تحفيز القتلة ليكونوا أكثر إجراما ووحشية في عدوانهم المستمر والمتجدد، وهذا يفسر تصريحات غالانت وعربدته بحضور بلينكن بأن (حماس تفهم لغة القوة فقط، وسنواصل الحرب حتى القضاء عليها وعلى قدراتها، وإعادة المختطفين)، وهو يعلم علم اليقين استحالة تحقيق ما يريد، ولا يخرج عن هذا الإطار ما أشارت إليه صحيفة “وول ستريت” الأمريكية نقلاً عن مسؤولين أمريكيين بالقول: (إن الضغط الدولي وحجم الضحايا قد يجبران “إسرائيل” على وقف الحرب مطلع العام)، وفي هذا إشارة واضحة إلى ضمانة أمريكية جديدة لحكام تل أبيب ليستمروا في وحشيتهم، وليعملوا على زيادة عدد الضحايا ولمدة شهر كامل، وبكل تأكيد بعد انقضاء الشهر لن تعدم واشنطن الوسيلة لاختلاق ذرائع جديدة تسوقها تحت مسميات متعددة لن يعجز الخبث الاستخباراتي الأمريكي عن اختلاقها كلما تطلب الأمر.
ما غاب عن ذهن بلينكن عندما قال إن المدة المتاحة قد لا تمتد لأشهر، وغاب عن أذهان بقية المسؤولين الأمريكيين الذين نقلت “وول ستريت” تصريحاتهم التساؤل المشروع: إلى متى يستطيع الكيان الغاصب الاستمرار بالحرب وتحمل تداعياتها، وإلى متى يستطيع المستوطنون الصهاينة البقاء في الملاجئ والأماكن المحصنة، وهم يرون بأم العين استمرار انهمار صواريخ المقاومة؟ وماذا لو اشتعلت الضفة الغربية، وأراضي 48 بانتفاضة شاملة بعد القنوط من إمكانية استيقاظ الضمير العالمي المصادر بالجبروت الأمريكي والأطلسي، وقبل هذا وذاك ماذا لو فتحت بقية الجبهات، وأغلق باب المندب ببأس المقاومين اليمنيين أمام السفن الإسرائيلية ومن يدعم العدوان الإسرائيلي؟ ….
تساؤلات كثيرة على المسؤولين الأمريكيين أن يقدموا أجوبة قابلة لإقناعهم شخصياً قبل التفكير بإقناع الآخرين، فهل من مصلحة لواشنطن بدخول العام القادم والنيران مشتعلة في المنطقة الأكثر أهمية لأي رئيس أمريكي قادم؟
د. حسن أحمد حسن باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية