عمل الكيان الصهيوني جاهدًا على مدى أكثر من خمس وسبعين سنة، لمحو كلّ ما هو فلسطيني، وركز على التراث الشعبي، باعتباره يمثل التاريخ المعنوي والمادي للشعب الفلسطيني؛ وعندما فشل الكيان في ذلك عمد إلى سرقة ذلك التراث ونسبه إلى اليهود، وهم شعوب وقبائل شتى أتت من مختلف بقاع الأرض ، وهكذا سُرقت المأكولات الفلسطينية مثل «الحمص» و«الفلافل» و«المتبل» و«التبولة» و«الزعتر» وغيرها؛ فجاءت فكرة تخصيص يوم للتراث الفلسطيني – هو السابع من أكتوبر من كلّ عام – ردًا على محاولات الكيان الصهيوني تشويهَ ذلك التراث وسرقته وطمس معالمه؛ إذ إنّ التراث الفلسطيني – مثل أيّ تراث – يمثل ركيزة أساسية للهوية الوطنية، وهو ما يفتقده «الإسرائيليون» القادمون من أوروبا، بعاداتهم المغايرة وتقاليدهم ولغاتهم، إذ إنهم لا يمتّون إلى الأرض الفلسطينية بأيّ صلة.
في الوقت الذي يتعرّض فيه الفلسطينيون – شعبًا ودينًا وتاريخًا وحضارةً وثقافةً – لأبشع عمليات القتل المادي والمعنوي، بهدف طمس الهوية الفلسطينية، صدرت الترجمة العربية لكتاب المستعرب الألماني وعالم اللاهوت والآثار واللغات القديمة جوستاف دالمان، تحت عنوان «العمل والعادات والتقاليد في فلسطين» عن «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» في الدوحة، في عشرة مجلدات، بعد جهد استمر خمس سنوات. جاء هذا الإصدار حدثًا معرفيًا استثنائيًا؛ لأنّ الكتاب كما ذكر المركز هو «وثيقة فريدة تاريخية وأنثروبولوجية، تسجيلية وتحليلية، يتناول فلسطين بحضارتها وتاريخها وتراثها ومعالمها وأرضها وشعبها، ويدرس مدينة القدس ومحيطها الطبيعي والبشري بمنهجية علمية رفيعة».
جاء هذا الكتاب ليؤكد صحة شكوك الصهاينة الأوائل في إمكانية تحقيق مشروع الدولة اليهودية في فلسطين؛ فحين أراد ماكس نوردو – وهو من أقرب أصدقاء ثيودور هيرتزل، مؤسس الصهيونية السياسية الحديثة – أن يقنع بعض الحاخامات الأوروبيين المترددين، واقترح أن يبعث اثنين منهم إلى فلسطين، يَرَيَان الأرض والواقع رأي العين، ثم يقدّمان تقريرهما عن حقائق الأوضاع هناك، أرسلا برقية من فلسطين إلى نوردو، يقولان فيها بالرمز: «العروس جميلة جدًا، وهي مستوفية لجميع الشروط، لكنها متزوجة فعلا»؛ وعندما عادا والتقيا نوردو، أكدا له أنّ هناك شعبًا عربيًا فلسطينيًا يسكن فلسطين من آلاف السنين، ويزرع أرضها ويعتبرها وطنه، وبالتالي فإنّ اليهود الراغبين في الذهاب إلى فلسطين والاستيطان فيها، أمامهم معركة قاسية مع أصحابها الأصليين. ومن هنا تتأكد أهمية الكتاب لأنه يتناول الحياة الاجتماعية لسكان فلسطين، وجميع مظاهر الاستقرار البشري، كسكنى الحجر (منازل الحضر)، وسكنى المَدَر (بيوت الطين في الأرياف)، وسكنى الشعر (خيام البدو). وقد عكف المؤلف على دراسة ذلك كله، واستخلاص البدايات والمنشأ القديم لهذه العناصر الحضارية، واستكشاف ينابيع الحياة اليومية الجارية، الأمر الذي برهن بقوة أنّ الشعب الفلسطيني كان موجودًا فوق أرضه منذ الأزمان القديمة. ولا يكتمل وصف حياة الناس لدى جوستاف دالمان، من دون وصف المكان الذي يعيش هؤلاء الناس فوقه وفي شعابه. ولهذه الغاية – يوضح صقر أبو فخر محقق الكتاب – أنّ دالمان شُغل بتسجيل كلّ شيء عن فلسطين، كعيون الماء والبرك والحمامات والتلال والجبال والأودية والحصون والقلاع والأبراج والأديرة والمدارس. «ولعل من حسن طالع الباحثين العرب أنّ ترجمة هذا الكتاب الشامل إلى العربية ألجأت المترجم والمحرر العلمي إلى بذل أقصى الجهد في تحقيق كلّ موضع في هذا الكتاب والتحقق من لفظه ورسمه وموقعه»، ولا تكمن أهمية الموسوعة في ذكر القصص الشعبية والأشعار والأغاني فقط؛ بل في التفاصيل الدقيقة والجداول البيانية، وفي الصور التوضيحية التي التقطها الكاتب قبل 100عام، بالإضافة إلى أنه تحدّث عن تجاربه الشخصيّة التي عاشها وحواراته مع بعض السُكان لفهم طبيعة حياتهم بشكل أفضل.
يُعتبر مجلد «القدس ومحيطه الطبيعي» كنزًا تاريخيًا وجغرافيًا واجتماعيًا وبصريًا عن القدس في مطلع القرن العشرين، من خلال ما نقله المؤلف من المشاهد التي شملت تلالها وأوديتها وسواقيها وأسواقها وأبوابها وأسوارها ومعالمها، وهو زاخر بالمعلومات المهمة والدقيقة، مما يُعد وثيقة ممتازة عن التحولات العمرانية والسكانية التي غمرت المدينة؛ الأمر الذي يسهم إسهامًا قويًا في دحض الرواية الإسرائيلية عن تاريخ القدس، ويقدّم شهادة علمية فائقة الأهمية على عروبة القدس وفلسطين في الماضي القديم، وحتى عصرنا الحاضر. ولم يكتف المؤلف باختباراته في الأرض الفلسطينية فقط، بل راح يجول في البلاد المحيطة بها، والتي تشكل مع الأراضي المقدسة وحدة بشرية وحضارية ولغوية وتاريخية واحدة، وشملت جولته شرق الأردن ولبنان ودمشق وحلب وديار بكر، وتمكن من أن يحوز ذخيرة معرفية مهمة، ومحصلة كبيرة من اكتشاف طرائق العيش في هذه البلدان.
استغرق تأليف الموسوعة نحو أربع عشرة سنة، فيما صرف المؤلف جوستاف دالمان نحو عشرين سنة في جمع المعلومات وتدوينها ومطابقتها على الواقع الجغرافي، وكان المجلد الأول من هذا الكتاب قد صدر في سنة 1928، ثم صدر الجزء الثامن الأخير في سنة 1942، أي بعد وفاة دالمان بسنة واحدة. وما يميّز الكتاب أنّ مؤلفه عاش في فلسطين بين عامي 1899 و1917، ولم يكن زائرًا عابرًا لها مثل المستشرقين الآخرين؛ وقد شُغف بالقرى الفلسطينية وحياة البدو وطرائق العيش التي أتقنها الفلسطينيون في مدائنهم وقراهم وبواديهم، فكان يجول في الأمكنة، وينام في بيوت الفلاحين وخيام البدو، وتمكن من جمع معلومات ثرية جدًا عن الحياة في فلسطين، وعقد صلة متينة بين الماضي والحاضر، وبين الجغرافيا والآثار والإثنولوجيا والحياة اليومية للسكان، وتزدحم في هذا السفر بمجلداته العشرة مئات الصور التي تُعد اليوم وثائق بصرية، تكاد تنطق بأحوال الزمان الماضي القريب.
تولى الترجمة مجموعة من المترجمين، الذين أتقنوا الألمانية واعتنوا بمراجعتها وتدقيقها، وهم: محمد أبو زيد (المترجم الرئيسي) وعمر الغول وفيوليت الراهب ومتري الراهب وجوزف حرب. وتولى عملية التحرير وضبط المصطلحات وتدقيق أسماء الأماكن والمواقع واللهجات المحلية صقر أبو فخر، فيما أنجز قسمُ التحرير في المركز العربي للأبحاث الفهارس العامة (الأماكن والأعلام والجماعات)، فضلًا عن التوثيق.
لقد وفق «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» في الدوحة، بإصدار هذه الموسوعة في هذا الوقت بالذات، والكيانُ الصهيوني – ومن معه – يجاهدون في مسح الفلسطينيين من الأرض ومسح تاريخهم وحضارتهم وثقافتهم، وهو ما يفعله دائمًا من لا ماضي ولا تاريخ له، ولا غنى عن الموسوعة لأيّ باحث في التراث الفلسطيني، لأنّ كلّ ما جاء فيها عبارة عن مقاومة حملات تشويه وسرقة التراث، التي يشنها الاحتلال الصهيوني.
وفي كلّ الأحوال فإنّ الموسوعة – باعتمادها على التاريخ الحيّ للناس، وعلى مروياتهم ومشاهدات جوستاف دالمان – تدحض كلّ الأكاذيب الصهيونية والإسرائيلية حول «وطن بلا شعب.. لشعب بلا وطن».
زاهر بن حارث المحروقي كاتب عماني مهتم في الشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»