غزة لا تستجدي ــ ولن تستجدي ــ أحداً في العالم قط، وعلى العالم أن يستجدي غزة كي تقبل سماع خطاب من ما يزالون يترادفون في الأنساق المصطفة وفق مشيئة جلاد الإنسانية وقيمها السمحة المهددة بقبعة الكاوبوي المتلذذ باصطياد طرائده في براري السطوة والتوحش وأحكام الجاهلية الأولى التي تقدس مبدأ القوة والقوة فقط، وإذا كان الغزاوي المجبول من بأس وإرادة وإعجاز ويقين لا يخاف راعي البقر المتوحش في القرن الحادي والعشرين، ولا يقيم وزناً لكل كلاب الصيد المسبحّة بحمد ذاك الراعي المتغطرس، فقد لا يكون غيره كذلك، فكثيرٌ من المتجلببين بالعباءة الأمريكية على قناعة بأنهم أذكياء استطاعوا اغتنام الفرصة ولم يجانبوا الصواب، ولذا قد لا يُلَاْمُ بعضهم على مواقف الخسة والصمت المريب المفروض عليهم كما فُرِضَ على من سبقهم ممن أطالوا سجودهم في المحراب الأمريكي حتى تلطخت جباههم بخاتم التبعية المحفور كنقش ووشم يُعْرَفُ من خلاله الراكعون في أعتاب البيت الأبيض وفي حديقتيه: الخلفية الأوروبية والشرق أوسطية، فأين هؤلاء من طفل مقاوم يقول بلسان اليقين لشاغل البيت الأبيض: “تباً لك”… أنا طفل فلسطيني غزاوي لا أخافك ولا أخشاك؟ وأين هؤلاء ممن يثبت بالأفعال أنه قادر على دفع ضريبة العصيان والتمرد على الإرادة الأمريكية المتفردة بالقرار الدولي والتي قادت العالم بالعصا الغليظة من دون جزرة طيلة العقود الماضية.
نعم العالم برمته مَدِيْنٌ لغزة.. مدين لأطفالها الرجال الذين يولدون أبطالاً لا يهابون الموت، بل يلعبون معه لعبة “أين أنا؟”… أطفال فلسطين الذين ما زادتهم غطرسة المحتل وإجرامه إلا تجذراً بالأرض التي تتطهر كل يوم بدماء شهداء من أطفال يكتبون على بوابات هيئة الأمم المتحدة بأرواحهم المجنحة: “عجز المنظمة الدولية يساهم بذبح من تبقى من أطفال فلسطين”.
العالم مدينٌ لخنساوات غزة اللواتي يكفنَّ فلذات أكبادهن بالعلم الفلسطيني بقلوب كأنها زبر الحديد مع أنها توزع على الكون معاني الرقة والطهارة وتحدي القتل الممنهج بالإنجاب الميمون المبارك، وتربية الأجيال على تحدي آلة القتل الصهيونية المدعومة أمريكياً.
العالم مدين لرجال غزة ومقاوميها الذين تجاوزوا حدود الإنجاز والإعجاز وعنكبوا قلاع فخر الصناعة الحربية، فحولوا باطن الأرض إلى معسكرات تدريب بطوابق عدة، وأعدوا لعدو الله والإنسانية ما يكسر أنوف جنرالاته ومتزعميه، وإذا أصر أي من أولئك على رفع أنفه بعد الذلة وحاول تقديم مشهد استعراضي حاملاً علم الكيان ومصمماً على رفعه في ساحة غزة فرصاصة واحدة من قناص غزاوي ثابت الكف والجنان كفيلة بإخماد أنفاس ذاك المتغطرس.
العالم كله مدين للدماء الغزاوية الطاهرة الندية الزكية المشعشعة، مدين لعطش غزة وجوعها والظلام الذي يلفها بسبب حرمانها من الوقود وأدنى متطلبات الحياة.. العالم مدين لمشافي غزة وطواقمها الصحية التي كانت هدفاً مباشراً لآلة القتل الصهيونية.
العالم مدين لغزة بكل من فيها لأنها أخذت على عاتقها ــ وعن طيب خاطر ــ أن تتحمل مسؤولية كسر الهيبة الأمريكية والإسرائيلية بآنٍ معاً، وهزيمة جيش الاحتلال الغاصب لم تتبلور بأبهى صورها إلا عندما استشاط البيت الأبيض غضباً، وأعلن انخراطه المباشر في الحرب على غزة، لأن الوحش الذي كلفه بحماية مصالحه في الشرق الأوسط تبين أنه عاجز عن حماية نفسه في مواجهة نظرة التحدي المعرشة في عيني كل طفل غزاوي ينزف ويلفظ أنفاسه الأخيرة بقذائف الموت الأمريكية الممنوحة للكيان المتوحش.
نعم الطفل الغزاوي الشهيد يسلم الروح وهو ينظر بغضب، فيدب الذعر في أوصال جنرالات الكيان الإسرائيلي وجنوده الذين بات كل منهم ينتظر لحظة تفحمه في العربة المدرعة التي سرعان ما تتحول إلى كتلة من لهب ونار بقذائف المقاومين الميامين وهم يعلمون الكون معاني الرجولة والتصدي والصمود والانتصار، وجدوى تبني نهج المقاومة بدلاً من الاستزلام والخنوع.
الإعلان الرسمي عن الهزيمة الإسرائيلية التامة كان منذ لحظة استحضار حاملات الطائرات والمدمرات والبوارج الأمريكية لإنقاذ تل أبيب من بأس غزة الذبيحة المحاصرة، وتم مهر الوثيقة بالخاتم الرسمي عندما استخدمت واشنطن حق النقض الفيتو في مجلس الأمن متحدية إرادة المجتمع الدولي، وضاربة عرض الحائط بكل ما له علاقة بالمنظمة الدولية وميثاقها وحقوق الإنسان وشرعة المجتمع الدولي.
إدارة جو بايدن التي تدعي أنها الشرطي الأوحد في العالم تكشر عن أنيابها وتقول للجميع إن الولايات المتحدة الأمريكية بكل ما تملكه ترفض وقف حرب الإبادة ضد الأطفال الفلسطينيين لأن آباء أولئك أذلوا جيش الكيان الإسرائيلي، وما أصاب تل أبيب وعرَّى جيشها وحكومتها قد أصاب الهيبة الأمريكية في مقتل، فالهزيمة الحتمية القادمة هي هزيمة لواشنطن قبل أن تكون هزيمة لتل أبيب لأن إدارة بايدن ممثلة بالرئيس ووزير خارجيته ووزير حربه ورئيس أركان جيوشه وقائد استخباراته وكثير غيرهم حضروا إلى تل أبيب جميعاً، وأخذوا بأنفسهم زمام قيادة الحرب على غزة المحاصرة، وبالتاي الهزيمة لهم بالدرجة الأولى، ولأن هزيمة نكراء بهذا المستوى تعني دق المسمار الأخير في نعش الأحادية القطبية الأمريكية فإدارة بايدن غير معنية بكل ما له علاقة بالقيم الإنسانية والأخلاق العامة والقانون الدولي، وإذا كان أولئك يظنون أنهم بجريمتهم النكراء هذه يمنعون تبلور انتصار الدم الفلسطيني على صواريخهم وقنابلهم التي يزن بعضها طناً، وبعضها الآخر طنين من المواد شديدة الانفجار، فاستخدام الفيتو الأخير يعني الاعتراف المسبق بالنتيجة المحسومة لصالح غزة ونهج المقاومة.
نعم الألم كبير وشهداؤنا ليسوا مجرد أرقام، وما يجري في غزة حرب إبادة جماعية ممنهجة، وهي بكليتها جرائم حرب وجرائم إنسانية، وجرائم ضد القانون الدولي والإنساني، وطالما أن العالم وقف مكتوف الأيدي أمام العربدة الأمريكية، فكلما أوغل المجرمون القتلة بالدم الطاهر البريء كلما افتضح أمرهم وبانت حقيقتهم التي تشكل خطراً داهماً على الإنسانية جمعاء، وما خروج المظاهرات الأكثر كثافة وتعبيراً في شوارع لندن وواشنطن ونيويورك وغيرها إلا الدليل الدامغ على قدرة غزة الفائقة ونجاحها في تغيير بوصلة الرأي العام العالمي، وإعادة تصويب توجيهه، وهذه مقدمة حتمية لسقوط رعاة الإرهاب الكوني في شر أعمالهم، وهم على يقين أنهم مهما أوغلوا بجرائمهم لن يستطيعوا كسر إرادة شعب غداً مجبولاً بترابه المجبول بدماء شهدائه، والعالم اليوم برمته مدينُ باستجداء غزة كيلا تكون قاسية يوم إعلان انتصارها، وإهدائه إلى الإنسانية جمعاء، وشكر من كانوا داعمين لصمود غزة ويستحقون أن يعلنوا شركاء بجدارة في النصر القادم والقريب إن شاء الله.
د. حسن أحمد حسن