يحتفلُ محبو اللغة العربية في الثامن عشر من ديسمبر من كل عام باليوم العالمي للغة العربية،وإدراكا من القائمين على هكذا إحتفال، هو الاعتراف بدور اللغة العربية في إنارة معالم الطريق الاولى للعلم والمعرفة، فكانت السراج المنير عندما كانت البشرية تعيش في حالة بُهمٍ وتخبطٍ وصراعٍ وظلم وظلمات، وجهل مركب وجاهلية محكمة سادت البشرية جمعاء في تلك الحقب الزمنية. وكان العرب أحد اركانها الاساسين، حتى انزل الله قرآنه على من اصطفاهُ واختاره رحمة للعالمين وليس للعرب وحدهم. كانت اول عبارة أمرٍ لنبيه المختار (إقرأ) إقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق إقرأ وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان مالم يعلم. صدق الله العظيم (سورة الفلق) كانت هذه رحلة اللغة الخالدة المحفوظة.( قال تعالى كتاب فصلت آياته قرآنا عربياً لقوم يعلمون). صدق الله العظيم (فصلت).
إنطلقت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حاملة الدعوة الى بقاع الارض. الى الفرس والروم وأهل مصر وأهل الحبشة.
ودخلت الناس في دين الله افواجا. وتعد اللغة العربية من اكثر اللغات انتشارا منذ القرن السابع الميلادي مع الفتوحات الاسلامية في الشرق الاوسط وشمال إفريقيا ووسط وغرب آسيا وصولاً الى مناطق كبيرة في الصين. وقد كان للعرب الدور الأكبر في زرع بذرة اللغة العربية في مناطق العالم المختلفة وبالأخص الشرق الاقصى الصين وإندونيسيا وماليزيا والفلبين كذلك الهند الصينية كمبوديا ولاوس وفيتنام وتايلند وبورما (ميانمار) وسيريلانكا وشبه القارة الهندية.
كذلك بلاد شنقيط (موريتانيا) والسينغال ومالي والنيجر ونيجيريا وتشاد وشرق إفريقيا. كينيا وتنزانيا وزنجبار بل إنتشرت اللغة العربية في الداخل الافريقي اوغندا ورواندا وبروندي وغينيا وموزمبيق ومعظم الدول الافريقية. كذلك اوروبا وروسيا وامريكا اللاتينية وامريكا الشمالية. اليوم يحتفل العالم بيوم اللغة العربية ويُقر ان اللغة العربية شملت وإنفردت عن غيرها من اللغات في الجمع بين البعد الديني والانساني والحضاري ولا يفهمُ الدينُ الاسلامي إلا من خلالها. حيث نُقلت كل المصادر والحضارات القديمة من خلالها في عصر ما يعرف بعصر الترجمات في الخلافة العباسية وتحديداً عصر هارون الرشيد وابنه المأمون حيث تُرجمت الحضارات الرومانية والفارسية والهندية وغيرها من الترجمات التي انارت الدروب المظلمة للبشرية ولا ادل على ذلك من كتاب المستشرقة الالمانية هنكه (شمس العرب تشرق على الغرب) الذي دحضت فيه كل مغالطات بعض المستشرقين الذين تجردوا من الأمانة العلمية والصدق والحيادية. إن العالم يحتفل بيوم اللغة العربية لأنها حلت محل اللغات القديمة بروعتها وكأن كل اللغات السابقة دخلت الى المتاحف. واصبحت اللغة العربية في ذلك الحين لغة العلم والمعرفة والأدب والشعر في أقطار الدنيا المختلفة واستطاعت ان تؤسس كل العلوم المرافقة للقرآن، وان تُدوَنَ بها كل العلوم بكل مصطلحاتها ومنجزاتها. كما يقول فضيلة الشيخ عباس ارحيلة استاذ التعليم العالي، بجامعة القاضي عياض، بمراكش بالمملكة المغربية. وقد أشاد الكثير من العلماء بمكانة اللغة العربية في كثير من الندوات والمؤتمرات وما تعرضت له من تشويه ومؤامرات من قبل الحملات الصليبية وبعض المستشرقين وغيرهم من الحاقدين والمرجفين لخوفهم الشديد من إنتشار اللغة العربية والدين الاسلامي. وأجمل ما قيل في اللغة العربية في الحديث الشريف. قال النبي صلى الله عليه وسلم، أحب العرب لثلاث لأني عربي، والقرآن عربي، ولسان اهل الجنة عربي. وقال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه (تعلموا العربية فإنها تزيدُ من المرؤةِ).
اثناء تحضيري لكتابة هذا المقال وصلني نبأ وفاة الشاعر المحب للغة العربية وبيانها وجمالها وشعرائها. المرحوم بإذن الله تعالى الشاعر والأديب والمصلح الكويتي عبدالعزيز سعود البابطين ابو سعود في هذا اليوم 15 من ديسمبر2023. هذا الرجل بقامة إثنتين وعشرين وزارة ثقافة ومثلها هيئات ومؤسسات تعنى باللغة والثقافة والأدب وتمثل إثنتين وعشرين دولة عربية. هذا الرجل لم تشغلهُ الحياة بجمع المال ولكن إنشغل بإنفاقه على العلم والمعرفة والشعر والأدب.ويعود تعرفي على أعمال المرحوم الى بداية التسعينيات من القرن الماضي. واثناء وجودي في الكويت حضرت ندوة تعريفية عن صدور معجم البابطين لشعراء العربية في عصر الدول (والإمارات) وقد بلغ الذين سجل هذا المعجم اسماءهم وطُرفاً من أخبارهم ونماذج من اشعارهم 12934 شاعراً ممن عاشوا في تلك الفترة الزاهرة من تراثنا الادبي وحتى اليوم. انه انجاز عملاق بكل معنى الكلمة سخر البابطين كل جهده ورصد الموارد المالية وقبلها طبعاً تشكيل المؤسسة وإختيار أعضائها والعاملين بها واهدافها النبيلة. تعود اهتمامات الراحل الى العام 1974 حيث بدأ الشاعر عبدالعزيز سعود البابطين مشروعهُ الثقافي بإنشاء بعثة سعود البابطين الكويتية للدراسات العليا.
بهدف نشر العلم وتقديم المساعدة للطلاب وتشجيع النابهين منهم على إستكمال دراساتهم العليا حتى الدكتوراه لطلاب الكويت وبعض الدول النامية ولا تزال هذه البعثة مستمرة الى اليوم.
ولم يتوقف الحلم الكبير عند الراحل فأنشاء عام 1989مؤسسة ثقافية ادبية تعتني بالشعر العربي وتحتفي بالشعراء والنقاد حين اطلق في القاهرة مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري بمجلس امنائها برئاسته. ونخبة من أبرز الاساتذة والمبدعين والمفكرين في الوطن العربي والعالم. وفي عام 1992 وفي دورتها الثالثة دعى رئيسها وراعيها الى عدم الاقتصار على تحفيز الشعراء وتكريمهم وتجاوز ذلك الى تفعيل الحركة الشعرية ذاتها وإطلاق احد رموز الشعر العربي على كل دورة. وفي عام 2002 اقدم الراحل على مبادرة شخصية جريئة مستشرفة، اذ اعلن ضرورة انطلاق موكب الثقافة العربية شعراً وفكراً الى افاق العالمية لتقديم الصورة الحقيقية للمجتمع العربي. وتلتها العديد من الخطوات الرائدة بإنشاء عشرات الكراسي والاستاذيات العلمية في العديد من جامعات العالم، وتدريب الشباب الموهوبين ومحبي اللغة العربية والشعر العربي بالتعاون مع ثلاث واربعين جامعة عربية واسلامية وعالمية. كذلك انشأ مركز البابطين للمخطوطات الشعرية حفظاً لهذا التراث الإنساني الخالد.
وبجانب الشعراء العرب الذين شملتهم الموسوعة نجد اعدادا
كبيرة من شعراء الاقطار الاسلامية والافريقية على النحو التالي:
السنغال 27 شاعراً
ونيجريا 38 شاعراً
غينيا 16 شاعراً
إيران 24 شاعراً
الهند 25 شاعراً
تشاد 7 شعراء
تركيا 18 شاعراً
بنجلاديش 3 شعراء
مالي 25 شاعراً
وبالإضافة الى شعراء من جمهورية بينين، وجمهورية النيجر، وغانا، واثيوبيا، ومقدونيا، وداغستان، وغينيا، وساحل العاج،والبوسنة والهرسك، و روسيا الاتحادية،وتركمنستان، وداغستان، وغامبيا. كل هذه الاعداد من الشعراء يعملون باللغة العربية وادابها ومرتبطون بالشعر العربي الفصيح والقصيدة المقفاه الموزونة وهم نسخٌ مشرفة لشعراء العرب.
وقد إطلعت منذ سنوات على العديد من القصائد لبعض الشعراء في موسوعة عبدالعزيز البابطين لشعراء العربية من غير العرب. من القرن الثامن عشر والتاسع عشر او ما يعرف بأدباء السنغال المستعربين، مثل القاضي مجختي كالا والشيخ احمد امباكي، والشيخ الحاج مالك سي، والشيخ محمد نياس الخليفة، والشيخ ابراهيم نياس، وايضاً من نيجيريا، وغينيا، وجمهورية مالي. ورغم سيطرة الثقافة واللغة الفرنسية على بعض الدول الناطقة بالفرنسية إلا ان الوجه المستعرب وحضور الثقافة العربية والاسلامية في هذه البلدان الافريقية الصاعدة والمجاورة لموريتانيا والجزائر وليبيا والسودان، إلا انها متمسكة بهذا التراث وهذه اللغة. والفضل يعود للتجار العرب الذين نشر اللغة العربية والدين الإسلامي، ولجهود المرحوم الأستاذ الشاعرعبدالعزيز سعود البابطين و موسوعته بأجزائها التسعة التي ابرزت هذا الانتشار وهذا الارث الخالد من تراثنا العربي الاسلامي.
رحم الله الأستاذ الشاعرعبدالعزيز سعود البابطين الذي رحل عن هذه الدنيا، وقد ملئها حباً وعشقاً للغة العربية وادابها وجمالها، وسيظل جهدك يا أبا سعود منارة وارثاً خالداً لحاضرنا ومستقبل هذه الأمة وابنائها البررة.
بقلم: عبدالعزيز بن علي السعدون
19\12\2023