لم تكن الهواتف رفيقة المشاوير يوم ارتقيت مسفاة العبريين لأول مرة فتاهت مني التواريخ ، لغياب الرسائل “النصِّية” المحفِّزة للذاكرة ، ولتعذُّر وجود الصور المشدودة للدهشة الأولى.
ولا كان الإسفلت الكُحْل الذي يعمِّق سواد “حِجَاج” المسفاة إلي أهداب عينيها ، فالمشي كان على أسنَّة الحجارة وعلى إطارات “الباجيرو” أن تغالب صعود الجبال نيابة عنا فلا “نعيش أبد الدهر بين الحفر” وِفْقَ تحديات أبي القاسم الشابي.
وكانت المسفاة يومها عذرية التفاصيل لندرة الذين يندفعون بفضولهم نحو القمم البِكْر.
وناعسة الدرايش لعدم الاضطرار لفتحها للتفتيش عن الغرباء ، فكل “الحَسِّ” الذي يهمس للصمت هو من دبيب أهلها.
وكان التجوال في تفاصيل البلدة عبر الممشى الحجري الواقع بمحاذاة الصخرة المثقلة بأعرق حصون المسفاة ، وكأن دار الحجر في وادي ظهر بصنعاء يتكرر هنا.
والأصح أن دار الحجر هو الذي يكرر حصن المسفاة ، فدار الحجر من معمار القرن الثامن عشر بينما المسفاة عمانية التشييد وفارسية الأزمنة فهي أقدم من الحمراء اليعربية.
وذات الممر يأخذ الماشين إلى رفصات حجرية تسلِّم إلى رفصات حجرية لتنتهي عند بركة البلدة التي يستريح عندها الفلج.
وعند “جديل” البركة تنتهي آخر الممرات والرفصات ليبدأ “جديل” الفلج.
وإذا ما شرَّق الماشي اقترب من منبع الفلج المتفصِّد من مسامِّ الأخضر الأشم.
وإذا ما غرَّب أخذه “الجديل” إلى حواف البيوت القديمة ومقاصير النخيل وتعريشات العنب والموز.
وبينما العام ٢٠٢٣ يرتشف ثمالات كأسه الأخيرة جددتُ والإبن مازن العهد بالمسفاة فسلكنا ذات الدرب العالق بالتغرود ولهاث الدواب التي مشته في السنين الخوالي حاملة الناس والأمتعة.
وكابدتْ صعوده سيارات الدفع الرباعي وهي تبذل أقصى ما أعطتها اليابان من عزم لتدوس على أسنَّة الحجارة.
وترتقيه اليوم “الصوالين” المكيفة بلا مشقة وهي تدندن بلحن طربي لتراقص الشجيرات حتى الوصول.
ولم تكن الدرب وحدها التي تغيرت بل المسفاة كلها تخلع أسمال الأمس المُعْتم وتنتقل من خلوة أهلها مع رياح الجبال إلى شراكة مع العالم عبر “البوكنج دوت كوم”.
ومن مجرد سبلة تصطبح على قهوة دلة الطين وجحلة الطين وموقد الطين إلى مقاهٍ تعدّ قائمة خلطاتها الساخنة على مكائن “سانريمو” الإيطالية و”كاريمالي” و”لا باڤوني”.
ولم تعد البلدة كالعهد بها في سالف العصر تبسط “عزاف ريوق” الصباح المتبرِّكِ بالتميرات وخبيزات “الرخال” و”الدنجو” السابح في السُّكَّر والسمن فهي تفترش اليوم أجمل الاطلالات على غدور النخل وتعريشات العنب وورق الموز.
ويتوزَّع زوَّارها على مقاعد وطاولات مقاهيها التي تجاري أناقة المدن التاريخية فينثروا ضحكاتهم على نهار مفعم بنكهات حلوى “البراوني” التي أطاحت بتميرات البرني والفرض “المِقَلْود” وحلوى “الشيز كيك” التي انتصرت على “المدلوكي” و”السح والسمن”.
ولم تعد مسفاة العبريين نديمة الصمت واجترار العزلة فهي ضاجَّة من نفسها طوال الشتاء وصاخبة في أشهر الصيف.
ولبلوغ ذراها اليوم يتم عبر طابور طويل من السيارات ذات اللوحات العمانية وغيرها من لوحات ما وراء الحدود.
وعند آخر متر في الدرب لا بد من اختبار للصبر في البحث عن موقف للسيارة ، والتأكد من استحقاق الحصول على الليسن لضمان الوقوف الصحيح.
يطالعك حصنها العالي كما في السابق ولكن ثقافة الضيافة رقَّقَتْ هيبته بإضافة بعض اللمسات الفندقية ، فتردَّدتُ أأشاطر محمود درويش تحسُّره على قاع المدينة بعد أن “صار للإسمنت نبض فيها” و”صار لكل قنطرة جديلة” أم أشاطر اندفاع شبابها لجعل كل شبر إسمنتي ينبض ، ولكل قنطرة جديلة.
إنهم يهرقون اليوم الدم والعرق لاخراج المسفاة من قشرتها القديمة.
ف”لا لون للجدران،
لولا قطرة الدم”
و”لا ملامح للدروب المستطيلة”.
ويتسابقون لتأهيلها بما يتناسب واستحقاقها من حصص السياحة العالمية كنقطة جذب تجمع بين مدن الجبال والمنتجعات المعتدلة الحرارة في عز الشتاء.
لكن هذه الالتماعات الشبابية الطافحة لم تفلح في استئصال الأمس كله فما زالت هناك:
“حجارة سوداء�وأياد محنَّطة نحيلة”.
ومن بقايا الحجارة السوداء والأيادي النحيلة هذا الممشى الحجري المسقوف الذي يئن تحت وطأة البيوت فوقه ، وبنفس العناق القديم مع الشجر والحجر.
و إنْ لم يعد الممشى المسقوف استهلال البلدة بعد ما تقدمته سلسلة من شرفات المقاهي عن اليمين وعن الشمال.
وحتى الرُّفصات الحجرية الباقية والتي تقود إلى رفصات غابتْ عنها هجعة المكان ، وتكشَّفَ الغموض الموارب وراء الدرايش القديمة بعد أن طرزت خطوات الماشين الرفصات وزادت من تلميع حصياتها الملساء.
كما أن الظلام ما عاد يتخبَّط في الممشى الذي استضاء بالقناديل الكهربائية ولافتات الخانات الخاصة ببيع المنتجات الحرفية واللبان وخلطات البخور.
واصطخبتْ الزوايا بصفير مكائن “السانريمو” وروائح “الأمريكانو والكباتشينو والكراميل ماكياتو والسبانش لاتيه”.
وسيصادف الداخل إلى المسفاة على يمين الدرب لوحة تشير إلى منفذ لبيع العسل فينجذب إلى المكان انجذاب النحل إلى الخلية وإن غابتْ الملكات ، فأجود الشهد ما يعتصر من تجاويف الجبال وأفضله “بو طويق” وهو شهْد الشَّهد ، فلا بد من عسل المسفاة فلذة كبد الجبال ، وتجاويف بيوت النحل ودويِّه وأسرار عوالمه.
وتأخذني الخطوات باتجاه رفصات تتسكع بين بقايا البيوت وبقايا القصص فأهبط استجابة للافتة تحمل اسم “مقهى روغان” حيث رجل الهمم العالية أحمد بن سليمان بن سيف العبري يحتلب “السانريمو” في أكواب تحمل اسم روغان هذا الحصن العماني القادم من الزمن الفارسي.
لقد تسلطت عليه “بوارق حاديهن مرنان” ذات إعصار فيه نار فأكلت جزءا منه وتركت الباقي لبوارق الزمان وحاديه ومرنانه.
لم يتأفف هذا الشاب من الوقوف طوال النهار في هذا المقهى الذي يديره باقتدار مع مساعديه ، فهو ابن المسفاة الواقفة كجبالها.
اختار لنا أحمد العبري زاوية في مقهاه تفترش العصر وتطل على شالٍ أخضر زركشته قمم النخيل.
وبجوارنا ساقية في الأسفل تستعجل نوبتها لتتضاحك بالماء ، وجلسنا وسط خلطة حالمة من هفهفة أوراق الموز وأراجيح العصافير تلملم برفيف أجنحتها المساء ونقيق ضفادع تجتر مياه هبطات قديمة للوادي.
اقترب نادل من روندا يحمل دلة القهوة وحلوى “البراوني” وفي عينيه أحزان “كيجالي” وانكسارات الصدوع الأفريقية واحترابات “الهوتو والتوتسي”.
لم تكن المسفاة الجبلية بغريبة عليه فهو من بلد “الألف تل”
وأهل رواندا جيران الأمس العماني المحاذي لتنزانيا.
وقطيفة العشب عند أخماص نخيل البلدة هنا ، لها ما يناظرها هناك في السافانا الأفريقية.
كانت دلة قهوة روغان عمانية صرفة وكأنها “صُلِفَتْ” للتو من دلال سبلات الطين.
وقبل أن نخرج من “روغان” طالعتنا خارطة لفلسطين بشموخ الشوق إلى أرض أولى القبلتين.
لقد أصر صاحب المقهى على إحداث صدمة في أمخاخ بعض المتصهينين فوضع هذه الخارطة عند الباب وبطول الداخلين والخارجين ، وحبَّرها بعبارات نازفة بالمداد الأحمر مكتوبة باللغتين العربية والانجليزية لتحمل موقف ملاك قلعة روغان ومقهاه وتنتصر للحق الفلسطيني.
أقف بجوار الخارطة لِأُكْبِر في صاحب المقهى هذه الروح العروببة ، فأخوّة الدم يجب أن تتقدم دوما على جلب الفلس.
نمشي بنداء من خلطة بخور ظفاري وأمامنا سائحة من النرويج رفقة مرشد عماني يوشوشها بما يعرف عن البلدة وشعابها.
يبدو أن السائحة جاءت لتقيس الفارق بين هذا العلو وجبال المناطق الحرجيَّة المحيطة بالعاصمة أوسلو والتي يكسوها الثلج في ديسمبر وبناير.
ذكَّرْتُها بمروج التزلج الوطني حيث ينتصب تمثال للملك “أولاف الخامس” وكلبه فاصطكت أسنان السائحة بالفارق الطقسي بين مسقط وأوسلو.
تركتها ومرشدها يسبحان في أضواء القناديل بممرات البلدة لعلها تطفئ بهذه الومضات الحالمة حنينها لزينة أعياد الميلاد في “اسكندنيفيا”.
لكنها تبدو أكثر سعادة هنا ، فهي تدخل ليلة “الكريسماس” بقميصها الصيفي بينما عائلتها ترتعش بجانب المدفأة.
وفي هذا الفارق الطقسي الكثير من محفِّزات نسيان وجبة أضلاع الضأن والديك الرومي ولفائف “سكيلينغ بولر”.
نقترب من مدخل “بيت السراج” فيقترب البخور الظفاري وندخل البيت الذي أعيد تأهيله كمتجر فيشع بابتسامة البائع.
يضع البائع الهطالي جمرة صناعية فوق المبخرة وعليها “قُضَّ” صمغ فتنتشر الرائحة فنتحسس “نعيش” الذين سينزلون من الرؤوس.
يصر البائع الهطالي على بخوره المحلي الصنع الذي أتعبَ أصابع ساكنات بيوت الحجر.
حاججْناه في تشابه روائح صناعته مع روائح مألوفة فأصرَّ على الأصابع الذائبة في خلطات البخور والتي أطلقت الأسماء على “المِكَبَّات” بأمنية أن تتعملق يوما إلى “براندات” شأنها شأن البراندات العالمية للعطور .
نخرج من “بيت السراج” تحت سُرُج الممر فيقودنا إلى بيت الحصن القادم من ٣٠٠ عام والذي هيأه أبناء الشيخ خميس بن سعيد العبري ليكون نُزلاً يجمع بين فخامة الإقامة الفندقية وروح الضيافة العمانية.
ما زال “حلوى كافيه” أجمل إطلالات الحصن على الحارة الحجرية وبساتين النخيل.
هنا بمقدور الزائر أن يعتصر غيمة في فنجان قهوته وأن يشربها بنكهة السبلات القديمة وبرائحة بيت “الصفاة” و”بيت الفاجة” و”بيت الأدماني”.
وفي إحدى ارتياداتي للمكان أوقفني العزيز سالم العبري على صورة الشيخ صاحب البيت القديم وبعض مقتنياته من الساعات والسكاكين والبجالي وعصاه التي تعكز عليها في سنين المسفاة.
وعلى بعد أشبار تكنسها رائحة العشب الندي وبامتداد جدران اكتست شفق الغروب يتثاءب “نزلٌ” آخر حمل اسم “بيت بيتين” وهو الأقرب لما يسمى اليوم “بالتوين فيلا” ، فهو نتاج دمج بيتين معاً لذلك درجت تسمية “بيت بيتين” على الألسن.
وهناك مقهى آخر نطالعه ، وآخر هناك يبرق بلافته، وهنا لوحة تشير لنزل آخر ولمقهى آخر وذاك وذاك وذاك.
وكلها ودعت “المقلاة والمحماس” وخفتَ فيها صليل السفن ، وتبدّدَ فحيح “طاحونة البُنِّ التي كانت جزءاً من طفولتنا” ولكن “عطر الهيل الفواح” على حاله كما في القصيدة الدمشقية لنزار.
ومن المفارقات أن أهل المسفاة الذين ملأوا كل الأمس لوحدهم ، وشكلوا الحضور الأول والأخير في الزوايا والحنايا قد تواروا عن الأنظار ليملأ الغرباء الغياب.
لقد فتشتُ عن المتمنطقين سيور السكاكين المفضضة الأغماد فلم أجدهم ، أتراهم استوطنوا الحمراء وتركوا البيوت لأولادهم يشغلونها ؟.
وساءلتُ المكان عن صنَّاع “السِّيح” فلم أعثر عليهم أتراهم طووها أم أن شعر الماعز ما عاد يمسِّده “نول” الزمان.
وبحثتُ عن الذين يلفُّون المصر دونما وقوف طويل أمام المرايا ، أتراهم يتباطأون في لف المصر في زمن الأبناء الذين يكثرون من تصوير آبائهم لكيلا يغيبوا عن الأنظار وإن غابوا.
وسرحتُ الذهن صوب من كانوا يسرجون الليل وقد تنكبَّوا “الصمع” لإسكات عواء الذئاب وصياح “المقوعات” الجائعة ولعلهم ما زالوا في لعبة الطريدة والقناص.
وعلى “حِجَاج” عين المساء تحدَّرْنا من الذرى العالية ونحن نتحشرج ببكائية ابن حائل الشاعر سعد الفريجي فنتوسّل المسفاة لإبقاء بعض المسفاة.
لعل ندامى الجبال يعودون يوما لنسج “السِّيَح”.
ومطاردة الذئاب.
وحشو “الكيلات” بالبارود والرصاص لقتل الذئاب :
“يا ناس ذاك البيت لا تهدمونه
خلوه يبقى للمحبين تذكار
خلوه حب سنين خلفه ودونه
في داخله قصة مواليف وأسرار
من يعشق الأطلال دمعه يخونه
لا صارت أقدامه على سكة الدار
عش الحمام اللي بعالي ركونه
رمز الوفاء رمز المحبة والإصرار”
حمود بن سالم السيابي
مسقط في ٢٥ ديسمبر ٢٠٢٣م