نحن جميعاً بحاجة إلى بناء علاقة أقوى مع القرآن الكريم، القرآن مليء بالحكمة والهداية في كل آية وكلمة، إنها مسؤوليتنا أن نسعى للحصول على هذا التوجيه، وفهمه، ووضعه في سياقه، والأهم من ذلك التصرف بناءً عليه.
والتفسير علم فريد يجمع بين سائر العلوم الإسلامية كما يعلم الجميع، وأثناء استكشاف السورة، يصادفنا مناقشات تتعلق بالنحو والصرف والبلاغة والأحاديث والفقه والسيرة وجميع تلك الدراسات التي تعرف بالعلوم الإسلامية.
ولطالما اعتبر الفلاسفة والعلماء الجمال طبيعة إنسانية لطيفة ومتوافقة، ورغم أن ظهور المعرفة الجمالية يعود إلى القرن الثامن عشر، إلا أن علماء القرآن القدماء ناقشوا جمال القرآن من منظور البلاغة، ومن أشهرهم جار الله الزمخشري (ت 538هـ) الذي اهتم في تفسيره ببلاغة القرآن، أما سيد قطب، باعتباره مفسراً للقرآن الكريم في العصر الحديث، أثر في الدراسات الأدبية المعاصرة باستخدام نظرية الصورة الفنية.
في سورة مريم على سبيل المثال لا الحصر، عبّر الزمخشري عن مكونات بلاغية مثل الإهداء والتأخير، والتباين، والفصل والربط، واختيار الكلمات المناسبة للمعنى من حيث الدلالة، مفرداً أو جمعاً، وفي المقابل فإن سيد قطب، ونظراً لدور عناصر الخطاب والحركة وظلال الكلمات والموسيقى في تصوير مشاهد سورة مريم، فقد أظهر تأثير تخيل الكلمات وتجسيدها في نفسية المتلقي.
بالتالي، إن السيدة مريم عليها السلام، شخصية مهمة جداً في القرآن الكريم، فقد ورد اسمها 34 مرة، ومعظم هذه الاستشهادات مرتبطة بسيدنا عيسى عليه السلام، الذي يشار إليه عادة باسم عيسى بن مريم، حيث يشير هذا الاسم على الفور إلى أن يسوع لم يكن له أب ويشير إلى أنه في القرآن ليس “ابن الله” بل ابن مريم،وفي ضوء ذلك، فإن تمييز مريم (المرأة الوحيدة التي ورد اسمها في القرآن) بأن لها سورة تحمل اسمها ليس مفاجئاً. وعندما يكلمها الملاك: “يا مريم، إن الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على سائر النساء” ، وهذا يعني أن القرآن هنا يبشر بالمكانة الفريدة التي حملت بها عندما لم يمسسها رجل وكونها أم السيد المسيح.
وبسبب أهمية السيدة مريم بالنسبة للمسلمين والمسيحيين، وللعلاقات بين الأديان، فقد كتب الكثير عن هذه السورة، بالتالي، إن تحديد البنية داخل السورة أمر مهم، لا سيما في ضوء طريقة تقديم المادة في القرآن، والتي تحدد السورة بأكملها بنص متواصل، دون أي تقسيمات أو فقرات، باستثناء العلامات الموجودة على السورة فينهاية كل آية.
وتتبع سورة مريم النمط العام لاستخدام قصص الأنبياء السابقين (وشخصيات أخرى) ولكنها فريدة من نوعها في القرآن بطريقتين أساسيتين:
أولاً، يتم وضع القسم الذي يوضح المشاكل التي يسببها الكفار ومصيرهم في نهاية السورة مباشرةً بينما تحدث القصص التي تروي فضل الله على الأنبياء في البداية.
ثانياً، تم تصوير فضل الله على هؤلاء الأنبياء على أنه خاص جداً، حيث أظهر الله رحمته لهم.
بالتالي، فإن الكلمات الواردة في آيات مثل: “ذكر رحمتي ربك عبده” التي تفتتح السورة، والقصص التي تليها، تعطي إشارة قوية إلى موقف يتطلب الرد، مما يوضح أهمية السياق في تفسير سبب ذكر الأشياء، ويحدد الرد سبب ذكر شخصيات معينة ومقدار ما يقال عنها وما الذي يقال عنها بالضبط، وكذلك محور القصص المشار إليها.
ففي الآية 34 من سورة مريم: “ذلك عيسى بن مريم قول الله الحق الذي فيه يمترون”، ما يعني أن هذا بيان وكلام الحق الذي فيه يختلفون، ويتنازعون ويشككون، سيدنا عيسى ابن مريم يعلن حقيقة ولادته المليئة بالأحداث، لقد أوجد على الوجه الذي جاء في الحق الإلهي، وليس على الوجه الذي يتمسك به أهل الكتاب في الجدال ويموتون من أجله، ففي تفسير ابن كثير على سبيل المثال، يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وآله سلم: عليه ذلك الذي قصصنا عليك من خبر عيسى، ” قول الحق الذي فيه يمترون ” أي: يختلف المبطلون والمحقون ممن آمن به وكفر به، ولهذا قرأ الأكثرون.
ختاماً، وفي نهاية هذا العام، وفي كل عام، يعود الجدل دائماً إلى موقف المسلمين من الاحتفالات الدينية للطوائف الأخرى، ورغم معرفة الجميع بأن عيسى بن مريم نبي الله وأن القرآن الكريم والعقيدة الإسلامية واضحة جداً بأن الله سبحانه وتعالى مالك السماوات والأرض، ولم يلد ولم يولد، فإن كانت قناعات الطوائف الأخرى والاحتفالات عكس ذلك، فلا يجب أن ينجر المسلمون وأن يشركوا بالله عز وجل عن جهل أو علم، مع الإشارة إلى تقديرنا ومحبتنا الكبيرتين لأهلنا المسيحيين، لكن كلمة حق يجب أن تُقال، عيسى عليه السلام، ابن مريم عليها السلام وليس ابن الله.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت