كان ياما كان في هذا الزمان ، بين اليوم والأمس والأحيان ، كانت وما زالت هناك نخلة باسقة طلعها نضيد ، كل النفوس الضعيفة ترى النخلة هي السبيل الوحيد إلى الوصول للمكسب السريع وتحقيق الثروة التي كانوا يحلمون بها هابيل وقابيل وزوير وعوير ، فقد طرح الله بها البركة في كل جوانبها ، فليفها يقلد منه الحبال وتعقد عليه السواقي والصوار ليلف على رقبة المظلوم ويد الشريف ، والكرب يزايد به على النار في الموقد عند الطبخ لأكل الأرنب وكثير من الأحيان الأرانب ، والزور يصنع منه الدعون والحِظار والعرشان لتبنى به الفيلل والبنايات الشاهقة ، أما الخوص فيقلد هو الأخر لصنع منه الحبال وتنسج منه القفر والمخاريف والسمم واشياء كثيرة وكثيرة ليدس فيها الطعم لكبش الفداء ، كما ان عسقها يصنع منه الأقواس والنبال وألعاب البنات مثل الحُجِي والسهام التي تثقب بها القلوب النزيهة ، وتكمن البركة الكبيرة والتي يكثر حولها الطامعون من أصحاب النفوس الضعيفة ويتطلعون إلى تغدرها ، تلك الثمار من الخلال والبسر والرطب والسح الذي لا يشبع نهمهم الجائر أبدا ، حتى الشماريخ وهي عارية من الثمار يستخدمونها كفحم للمجامر والمغابير وحرق كل الثبوتيات من حسابات وأرقام حقيقية لموارد النخلة ، فلم يتركوا شيئا فيها ما أتستغلوه وسلبوه ، وحين أرادوا أن يكرموها هالوا على جيلها الروث التي تغوطته بطونهم من السحت والحرام ، ودنسوا عروقها بالقاذورات دون رحمة .
لكن رغم ذلك فهي كريمة وتقيض طول العام ، ليس من أجلهم بل من أجل أبناءها الشرفاء الضعاف ، أما هم يصعدون متسلقين جوسها إلى الغدر ينهبون ثرواتها بكل جور وطغيان ، نسوا إنها من ربتهم وترعرعوا على خيراتها ، والأدهى والأمر إنهم أخذوا يُصدرون المال الذي يجنوه منها إلى بنوك العالم ، اخذوا منها كل شيء ونسوا حتى أن يضعوا بها أبسط شيء وهو السلام الذي تنشده منهم بعد ما رَبو بها وأكلوا خيراتها ، حتى البر الذي تنشده بعد هذا العطاء نكروه ، فقرر من أولاه الله والناس مسؤوليتها أن يضع لها من هم يحموها من الطامعين ، فجعلهم خلائف عليها يسيرون منافعها لها وأبناءها الضعاف في الحال والأحوال والمال ، وجعل لها تشريع ودستورا ونظام ، يمشون عليه ويدركون منافعها لمن أستحق بكل قدر وكيل ومعيار ، دون باطل وبطلان .
لكن النخلة بدأت تتأوه وتأن بشده ، لم تجد رغم ذلك البيدار الذي يشفق عليها من ويلات النهب والخراب ، فبعض الذين أولاهم ولي أمرها مسؤوليتها لم يكونوا كما كان ضنه بهم ، فأرسلوا المجز في خاصرتها يجتث كربها ويحرق زورها وليفها وسعفها ، ويوما بعد يوم بدأ حال النخلة يضعف ويقل إنتاجها شيئا فشيء حتى قالوا إنها اضمحلت ولم تعد تنتج الخيرات كما كانت ، فبدأ المتسلطون في نزع خيرات النخلة من أفواه أبنائها الفقراء ، والتأثير على دخلهم في المأكل والمشرب ، فقالوا نحن نريد الماء لنروي به النخلة حتى تنبت لكم كالسابق غلة كبيرة ، وهناك هامتاً كبيرة من الجن تسد مياه الفلج عن الوصول إليها ، وحتى ترفع ساقاً واحة فقط من ساقيها ، لابد أن ندفع لها المال ، فرفعوا على الفقراء من أبنائها سعر الماء ثم سعر الكهرباء الذي تُضح به الماء في الأفلاج !! ، ثم عمدوا على إستقطاع مبلغ من رواتبهم ليشتروا به سماد ويكثروا عليها من الماء ، فضاق بهم العيش ، ثم ما لبثوا حتى أخرجوا العمال من أهلها إلى التقاعد وجاءوا بالعمال الأجانب ليعتنوا بالنخلة ، فعمدوا على طرح مناقصات عامة لخصخصة إدارتها والعناية بها ، والأيام تتوالى عليها وهي تصاب بهزال وضعف عام في كل جوانبها ، فصغر ساقها بعد ما أخذوا منه جزءا لجارتها النخلة التي كانت جزءا منها في السابق ، بل أمها التي نبتت في جنبات سقها ، ومع الزمان أقتطعت وفُصلت لتزرع في جيل أخر بنفس الأرض ، فأقاموا عليه سور حديد وعزلوها عنها لتكون لها أسم أخر عن أسم أمها .
مسكينة النخلة لقد عبث الجميع بقيضها حين غرتهم ثمارها ورطبها في شماريخ عذوقها المائلة من كثرة الغلة ، فقد كان العذق الواحد به من الخيرات الكثير والكثير ، لقد كان يطعم أهلها كلهم ، فما بالك ببقية العذوق التي بسقت بعد هذا العذق بسنوات وتوالت عليه الرؤية بأن يزيد من عائدات أهلها أكثر من السابق ، لكن العكس حدث ، وبدأ الجميع يتسأل ويستغرب ، رغم كثر خيرات النخلة فأين تذهب عائدات مواردها الباقية ؟!! ، لم يجد الجميع ردا مقنعا أبدا على هذا السؤال ، فكانت الإجابات كالآتي .. بأن الموارد شحيحة ولكننا بصدد إكتشاف منفعة أخرى في هذه النخلة قد تزيد من دخل المجتمع والفرد !! ، ومن يقول أن هناك مشاريع أخرى سوف تساق إلى جيل النخلة يجعلها تزهر أكثر ويرجع إليها شبابها ونهضتها الميمونة ، لقد سارعوا إلى غلي بسرها بالماء الحار ليكون فاغورا يبسلونه ويعطي واجهه إقتصادية قوية للنخلة ، ففرقوه على الدعون ليجف وييبس ثم يباع ، وحين سأل العامة مرة أخرى أين ريع ما بيع من التبسيل ، فلم نرى شيئا جديد يلوح في أفق النخلة ، فما كان لهم سوى أن قالوا جزوا غدرها وإستخراجوا منه الجذب ( حجبها ) وكلوه حتى لا تقوم للنخلة قائمة بعد ذلك ، لكن الله رد لهم كيدهم في نحورهم وأباده وكشف كل مخططاتهم ونجت النخلة من خيانتهم .
نعم النخلة ما زالت حتى الآن بخير تقلبها الرياح يمنه ويسره ، وما زالت عروقها صامدة تقاوم شدة العواصف والطوفان ، تنتظر بيادر أُمناء يقومون برعايتها كما كان يقوم بيدارها الوحيد الحالي ومعه بعض المخلصين ، مسكينة النخلة رغم هذا وذاك إلا إنها ما زالت تقيض طول العام ، لكن قيضها ليس للعامة إنما للخاصة ، فكثيرون هم الذين يتضورون جوعا وينظرون إلى النخلة بحب وشفقة على ما آل إليه مصيرها .
يعقوب بن راشد بن سالم السعدي
#عاشق_عمان