مع الايمان بأن التسامح الديني والتوازن الفكري في سلطنة عمان ممارسة أصيلة تتجاوز المواقف اللحظية والطارئة، حتى اصبحت ثوابت ومرتكزات جسدتها الشخصية العمانية وعززتها قوانين الدولة ومؤسساتها، تجلت بوضوح في التنوع الديني والمذهبي منذ وقت طويل، وتنوع المساحة الفكرية التي تتجه نحو التوازن والحيادية في قراءة الأحداث والتعامل مع المستجدات بلا افراط أو تفريط، أو غوغائية أو ارتجالية، أو تهور أو صراخ، أو فرض الأمر الواقع أو مصادرة الفكر ، فقد عرفت الأديان السماوية طريقها إلى عمان منذ ما قبل الإسلام، ولم يمنع إسلام العمانيين أن يعيش بينهم بعض المنتمين للديانات الأخرى، وحرص أئمة عمان وسلاطينها العظام على رعاية حقوق أهل الذمة، وتوفير الحماية لهم وحسن معاملتهم حيث تم إعفاء الصبيان والشيوخ والفقراء والنساء من دفع الجزية، على أن هذه الروح الإيجابية التي حملتها شخصية الانسان العماني وتشرّبتها الأرض العمانية الطيبة – التي لا تنبت إلا طيبا-؛ شجع غير المسلمين على العيش في سلطنة عمان، لما يتسم به أبناء ُعمان من روح التسامح والاحترام لمبدأ العقيدة وعدم الإكراه في الدين باعتبارها ثقافة أصيلة ومنهج حياة وطريق للتعايش والعيش المشترك.
غير أن استمرار هذه الصورة الإيجابية وتعمقها في الشخصية العمانية وقدرتها على التعايش والتحول والتكيف مع مختلف المراحل والحقب والعقود والقرون التاريخية التي مرت بها سلطنة عمان، وظلت حاضرة في تفاصيل الحياة اليومية إلى يومنا هذا، دون أن تؤثر محاولات التشويه للقيم والشخصية العمانية في جوهرها، رغم ما أتاحته التقنيات والمنصات الاجتماعية من فرص لإثارة هذه التباينات والخلافات، في حين ظلت الخصوصية العمانية محافظة على مرتكزاتها ومبادئها الداعية إلى السلام والتعاون والمحبة والحوار والتعايش والتكامل بين الشعوب وحل الخلافات بالطرق السلمية؛ إنما يأتي في إطار حرص الدولة على احترام الخصوصية الدينية المذهبية وتعزيز السلامة الفكرية والعقدية ما يمنع إثارة أي مدخل يفرق بين أبناء الوطن الواحد بسبب الدين أو المذهب، أو اللون أو الجنس أو غيرها من المنغصات التي باتت تهدد تماسك المجتمعات وقدرتها على النمو، فلا يوجد في سلطنة عمان تحزبات سياسية أو تجمعات فكرية أو عقدية أو غيرها من اشكال التنظيم الأخرى في كيان الدولة ومنظوماتها ، فسلطنة عمان لجميع العمانيين وولاء العمانيين جميعهم لجلالة السلطان المعظم، وحق كل مواطن مكفول بنص النظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السلطاني (6/2021) حيث جاء في المادة (٢١) ” المواطنون جميعهم سواسية أمام القانون، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، ولا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللون أو اللغة أو الدين أو المذهب أو الموطن أو المركز الاجتماعي”.
واتخذت جهود الدولة مسارات واضحة في تحقيق هذا الاستحقاق الوطني، والمحافظة على استدامته في السلوك والممارسات والخطاب والقرار، في إطار موجهات قائمة على التنويع والتشاركية والحوار والتجانس والتناغم ، انعس ذلك في شكل الخطاب الرسمي وبرامج التنمية التي شملت مختلف الولايات والمحافظات والقرى والمدن ، بل سعت بكل مرونة ويسر إلى احتواء المواقف وإدارة المعطيات المرتبطة بهذا الجانب والعمل على حلها بصورة جذية في وفاق متكافئ واحترام لحق الآخر، فعززت من احترام المرجعيات الدينية والمذهبية وألية الرجوع إلى علماء الشريعة كل بحسب مذهبه، وراعت خصوصية الولايات والمحافظات في ما يتعلق بالأبعاد الدينية والمساجد وتعليم الطلبة أمور صلاتهم ودينهم دون فرض رأي واحد بقدر ما هو إطار مشترك يعمل الجميع على تحقيقه في إطار المحافظة على قدسية الوطن وسلامة البناء الفكري لأبنائه وتجنيبه كل أسباب الفرقة والخلاف ، بل وقفت وعبر منظوماتها الأمنية والدينية والتربوية والاجتماعية بحزم أمام مجرد التفكير في استغلال هذا التنوع في التأثير على البناء الفكري والديني للمجتمع؛ بل صنعت من هذا الاختلاف الفطري مساحة للتكامل وصناعة القوة وإعادة انتاج الممارسة المجتمعية بما يتناغم مع مبادئ الدولة وثوابتها.
لقد كان لهذا المسار محطاته الاستراتيجية التي عكست روح التغيير التي جاء بها المغفور له بإذن الله حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه في الثالث والعشرين من يوليو من عام 1970 ، فحالة الانقسام والخلاف والصراع التي عاشتها الدولة العمانية قبل هذه الفترة ، وما ولدّته من نزاعات وحروب وفتن داخلية وولاءات قلبية، وغياب الاطار الوطني الذي يحافظ على كفاءة النسيج الاجتماعي الوطني وتكامل مقوماته لصالح البناء الوطني وتعزيز قواعد الدولة وفرض النظام وتطبيق الإجراءات وسيادة القانون، عزز من أولوية جلالة السلطان الراحل طيب الله ثراه، على تثبيت قواعد الأمن والنظام والاستقرار ووحدة الصف والضبط والربط كمنطلقات لتثبيت دعائم البناء الشامل وتحقيق السيادة الوطنية وإزالة كل الملوثات التي قد تشوه صورة المستقبل ، فكان الأمن والأمان والاستقرار الذي تنعم به سلطنة عمان ويشهد به الجميع منذ ما يزيد على خمسة عقود مضت، أحد ثمار مبادئ الضبط والربط، وكفاءة أدوات المتابعة والرقابة التي انتهجتها الدولة، وأصّلتها في عمل ومهام واختصاصات المنظومات العسكرية والأمنية والمدنية والقانونية والقضائية والضبطية ، ومع تعدد العوامل التي صاغت نهج التسامح الديني والتوازنات الفكرية في سلطنة عمان وحافظت على أصالته في إطار كفاءة الإجراءات وثباتها وتكامل الأطر، فيما اظهرته السياسة الخارجية من ثبات ومصداقية ودبلوماسية حكيمة نالت على تقدير العالم واحترامه كراعية للسلام والتنمية والتفاهم الدولي، في ترسيخ مبادئ الاحترام المتبادل، والتعايش السلمي، وحسن الجوار، وعدم التدخل في شؤون الآخرين، دون أن يعني ذلك انعزالا أو انكفاء داخليا، في مصداقية وثبات وحيادية متوازنة راعت كل المعطيات وحافظت على الخصوصية العمانية والمصالح الوطنية باعتبارها الغاية الاسمى وطريق القوة لضمان الحفاظ على فاعلية الدور الحضاري لسلطنة عمان ، أو ما اعتمدته السياسة الداخلية العمانية، من مرتكزات شمولية التنمية والحوار الاجتماعي المشترك والشراكة المجتمعية وتعزيز دور المرأة والحقوق والواجبات وتشجيع العلم والتعليم والمعرفة الاصيلة والفكر الناقد البناء والتزام الاعلام سياسة الحيادية في الخطاب، وتفعيل الأطر المجتمعية المرتبطة بالتكافل الاجتماعي ومراعاة حقوق الفئات الخاصة في المجتمع، وغيرها كثير؛ حيث قدم هذا التنوع المنتظم والاستيعاب المتكافئ للأحداث الذي يراعي في أولوياته مؤتلف الانسانية وقيم العيش المشترك؛ نموذجا فريدا في التوافق الاجتماعي والتعايش الديني والفكري والحوار الداخلي الذي تفتقده الكثير من المجتمعات.
إنّ سلطنة عمان وهي تجسد نهج التسامح الديني والتوازنات الفكرية ممارسة اصيلة وقواعد حاكمة والتزامات تأريخية وإنسانية في ظل مستويات عالية من الثبات والمصداقية المتناغمة مع طبيعة التحولات الجديدة في محطات النهضة العمانية المتجددة، تنطلق من إيمانها بأن تربية الناشئة العمانية على التوازنات الدينية والفكرية في إطار الهوية والخصوصية والقيم والأخلاق العمانية الاصيلة، ومبادئ الحق والعدل والمساواة، إنما يضمن بذلك طريق القوة في استيعاب لأحكام الشريعة ومنظوراتها للحياة والكون والانسان وولاء متفردا للإنسان العماني لله والعقيدة وللوطن وجلالة السلطان بما يجنبه الشطط والأحكام المسبقة او الانحراف الفكري والافلاس القيمي، وقد أكد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله ورعاه في أكثر من خطاب على أهمية هذه الثوابت والقيم في تحقيق التوازنات التي انتجتها سلطنة عمان واستطاعت من خلالها أن يكون لها موقعها الحضاري في السياسة الدولية التنموية والاصلاحية ، وقد جاء في بيان ترأس جلالة السلطان لاجتماع مجلس الوزراء في الثالث من يناير من عام 2023 : ” وفي سياق الحديث عن مستجدات الساحتين الإقليمية والعالمية، ونظرًا لما يشهده العالم من تغيرات في السلوكيات والمفاهيم وترسيخ البعض لمفاهيمهم، واستغلال مبادئ حقوق الإنسان، وغيرها من المبررات لفرض رؤى وبرامج وسلوكيات لا تتفق مع الثوابت والمبادئ السائدة.. فقد أكد جلالته ـ أبقاه الله ـ على أهمية العمل على ترسيخ المبادئ والقِيَم العُمانية الأصيلة المستمدة من تعاليم ديننا الحنيف، وحث الأسر على الأخذ بأيدي أبنائها وتربيتهم التربية الصالحة.
وعليه فإن المحافظة على السمت العماني والصورة المشرقة للتسامح الديني والاعتدال الفكري في سلطنة عمان؛ يؤكد أهمية المحافظة على ثبات الإجراءات التي اعتمدتها الدولة العمانية في ترسيخ الامن والاستقرار والسلام والتعايش والحوار مع إضافة التجديد عليها بما يتناغم مع أدوات العصر ومتطلباته، ويستفيد من توظيف التقنية والفضاءات المفتوحة في إعادة آليات الخطاب الديني والاعلامي والتربوي وطريقة التعامل مع الأدوات والية استخدامها، والمحافظة على السياسات التي انتهجتها الدولة العمانية في ما يتعلق بالاهتمام بالثوابت والخصوصيات ومن بينها رسالة المسجد، الذي صبغ حياة العمانيين وكوّن شخصياتهم على مر العصور، والذي يجب أن يبقى محافظا على مكوناته في تحقيق هذا النهج.
من هنا فإن اسقاط ما اشرنا إليه من مرتكزات وثوابت يؤكد أهمية الوقوف الواعي والمتأمل للحالة العمانية حول ما أثاره توجه وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الموقرة بشأن سحب أئمة المساجد من المساجد التي لا تقام فيها صلاة الجمعة وما تركه هذا الامر من فراغ الائمة، وحجم التداعيات الأمنية والاجتماعية والفكرية والدينية التي ارتبطت به، بما يؤكد على أمرين أولهما: أن إعادة هيكلة وحوكمة منظومة المساجد وأوقاف المساجد وأموال المساجد ينبغي أن لا تؤثر في مسار تعيينات الأئمة ذلك أن التعيين إنما يعبر عن مسؤولية وطنية في منظومة العمل والتشغيل واستيعاب الكوادر الوطنية من مخرجات العلوم الشرعية أو غيرها من الكلبات من خارج السلطنة، أو أن تتبني توجها بوقف هذه التخصصات حتى لا تضع الحكومة نفسها أمام تكدس المخرجات ، والامر الآخر يتعلق بإعادة رسم ملامح الدور القادم لأئمة المساجد وهو دور تربوي وتثقفي وتوجيهي وتوعوي ، يتناغم مع متطلبات تحقيق رؤية عمان 2040 في محور الهوية والقيم، وتعزيز صناعة القدوات وبناء القدرات وإنتاج النماذج الوطنية
أخيرا.. لسنا ملائكة، ولسنا المجتمع الفاضل،؛ والتحديات الفكرية التي يواجهها ناشئة اليوم كفيلة بتغيير هذه الثوابت لديهم إن لم يجدوا من يعمل على تثبيتها فيهم قولا وعملا، وفكرا وممارسة؛ ونعتقد بأن الحفاظ على أصالة نهج التسامح الديني والتوازنات الفكرية؛ إنما جاءت عبر جهود مضنية حرصت الدولة على ضرورة إبقاء خيوط التكامل فيها وجسور التواصل بين القطاعات الأمنية والمدنية والمجتمعية والدينية ممتدة، في إطار من إدارة المشاعر ومراعاة الخصوصيات واستيعاب البعد الثقافي المجتمعي، وتشخيص المتغيرات ومعالجتها في إطار من التوافقية والهدوء وصمت العمل، المعززة بكفاءة الإجراءات وثبات معايير المتابعة والرقابة، وأن المحافظة على قوة هذا الخيط وتماسكه وترابطه إنما يتعلق باستشعار وطني بأهمية الحفاظ على هذا المسار الذي يشكل المسجد ركيزته الأساسية.
د. رجب بن علي العويسي