من الصعب المبالغة في أهمية تراث عهد الملك فيصل بن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، (1906 – 1975)، لقد أثر ذلك على جميع جوانب الحياة في المجتمع السعودي: فالإصلاحات واسعة النطاق التي قام بها الملك في البلاد نقلتها إلى مستوى جديد نوعياً، كماتم توحيد نظام التخطيط في البلاد، وتم اعتماد أهم القوانين التي لا تزال الحكومة السعودية تعتمد عليها عند تطوير القواعد التشريعية الجديدة.
إن جهود فيصل على المستوى الدولي وضعت المملكة في مصاف القوى الرائدة المشاركة بنشاط في التعاون الدولي السياسي والاقتصادي والثقافي، وفي الوقت نفسه، ينبغي الاعتراف بتأثير شخصية الملك فيصل على الخط الذي تنتهجه المملكة في السياسة الخارجية كعامل مهم في السياسة الخارجية.
ولا يقل أهمية بالنسبة لتاريخ المملكة العربية السعودية عن أنشطة الملك فيصل عندما كان أميراً، حيث كان يرأس إدارة السياسة الخارجية، ثم الوزارات الأخرى وحتى الحكومة.
وفي الواقع الحديث، تأتي الآن فترة مهمة في تاريخ المملكة وأنشطة الملك الراحل فيصل لصالحها، عندما تنخرط المملكة العربية السعودية مرة أخرى في سلسلة من العمليات الإقليمية والعالمية المعقدة، عندما يتغير نموذج العلاقات السابقة في العالم العربي، ويتغير وضع المملكة العربية السعودية، لقد وضعت القيادة الإقليمية على المحك مرة أخرى، على سبيل المثال، يمكن فهم العملية العسكرية التي قامت بها المملكة العربية السعودية ضد أنصار اللهفي اليمن المجاور والدعوة إلى إنشاء “تحالف إسلامي” واسع (يصل إلى 34 دولة) لمكافحة الإرهاب والتطرف من خلال منظور التجربة التاريخية للمملكة في العلاقات مع حلفائها ودول الجوار، فضلاً عن محاولات الوقوف على رأس الحركات والتحالفات الإقليمية ودون الإقليمية خلال الفترة المضطربة من حكم الملك فيصل.
ومع ذلك، فإن أحداث الربيع العربي، التي أثرت بشكل غير مباشر على المملكة بدرجة قليلة، أدت إلى عدد من التغييرات في العلاقاتالسياسية الإقليمية، ومن المحتمل أن يكون لتحول اقتصادات الدول المتضررة من “موجة الاضطراب” تأثير سلبي على العلاقات الاقتصادية العالمية في المستقبل، وفي مواجهة هذا التهديد المحتمل المتمثل في تعطيل العلاقات الاقتصادية على نطاق إقليمي وإعادة هيكلة النظام الاقتصادي العالمي، المرتبط في المقام الأول بالمشاكل المحتملة في مجال النقل (وربما الإنتاج) لموارد الطاقة الحيوية، فمن الضروري ومن المهم أن ننتقل إلى التجربة التاريخية لشخصية مشرقة مثل الملك فيصل، ويمكن أن يوفر ذلك خدمة لا تقدر بثمن في تعديل القرارات الرئيسية التي يتم اتخاذها الآن في مجال العلاقات الدولية (العقوبات التجارية والاقتصادية ضد عدد من الأنظمة، والتغيرات في إنتاج النفط وحجم الصادرات من قبل المنتجين الرئيسيين – في المقام الأول دول الخليج العربي، وكذلك القرارات السياسية على مستوى الأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، وأوبك، ومنظمة التعاون الإسلامي، وغيرها).
بالنسبة للتعاون الاقتصادي – من الاعتراف إلى الإجراءات النشطة على الساحة الدولية كعضو كامل العضوية، وفي الوقت نفسه، من المهم الإشارة إلى الاستقلالية العالية التي تتمتع بها السياسة الخارجية للمملكة بقيادة الأمير، ومن ثم الملك فيصل، الذي استطاع أن يتحدى القوى القوية في اللحظات الضرورية، رغم المخاطرة، لكن لاعتبارات العدالة والمنفعة لوطنه أو الأمة العربية، سمحت له الصفات الشخصية للملك فيصل بالتحدث بشكل علني ومباشر.
ونظراً لأنه ظل مسلماً حقيقياً وغريباً عن المعايير المزدوجة، فقد حاول القضاء في بلاده، من ناحية ، على الإلحاد وإنكار التقاليد القديمة التي رآها هو نفسه في الأيديولوجية الشيوعية، ومن ناحية أخرى، ضغوط العقلانية والمصلحة الذاتية التي تكمن وراء بعض أسهم الدول الغربية، وتحقيقاً لهذه الغاية، لم يكن فيصل خائفاً من اتخاذ أو تنفيذ قرارات صعبة للغاية في إطار المنظمات الإقليمية حتى فيما يتعلق بحلفائه، وهو ما فهموه في النهاية، وتم حل النزاعات، ومن الأمثلة على ذلك رد فعل المملكة على حملة سيناء عام 1956 أو حرب أكتوبر العربية “الإسرائيلية” عام 1973، عندما تم في الحالة الأولى قطع العلاقات الدبلوماسية مع عدد من الدول، وفي الحالة الثانية تم تطبيق عقوبات شديدة، بما في ذلك الحظر النفطي، بطريقة أو بأخرى، تم التعبير عن الموقف السعودي الذي نجده يتكرر اليوم في نهج المملكة من القضية الفلسطينية وتصريحات رئيس الاستخبارات السابق، الأمير تركي الفيصل خير دليل على ذلك.
بالتالي، على الرغم من التحركات التي تمت في السنوات القليلة الماضية لتطوير وجذب المشاعر القومية السعودية المتزايدة، فإن النخبة الحاكمة السعودية اعتمدت تقليدياً شرعيتها على الإسلام، وتستمر في القيام بذلك بطرق رئيسية، حيث تدمج النخب الحاكمة السعودية دائماً الإسلام في تعبيراتها عن هويتها، وما لقب الملك هو “خادم الحرمين الشريفين” بمكة والمدينة إلا دليل على ذلك،وبالإضافة إلى ذلك، ينص النظام الأساسي للمملكة العربية السعودية على أن “المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة”، ودستورها هو “القرآن الكريم والسنة النبوية”، بالإضافة إلى ذلك، يجد القادة السعوديون أنه من الأهمية بمكان إظهار خدمتهم للإسلام.
وتعد القضية الفلسطينية، وخاصة القدس، جانباً مهماً من الهوية السعودية من خلال تعريف المملكة كدولة إسلامية، كما أن الإسقاط الإسلامي العالمي للمملكة العربية السعودية يشير إلى أن خدمة النخب الحاكمة السعودية لا تقتصر على المجتمع السعودي فحسب، بل إنهم قادة وخدم للأمة الإسلامية العالمية، وهذا الجانب العالمي من الهوية السعودية الإسلامية يعني أن القدس، وبالتالي القضية الفلسطينية، لا يمكن فصلها بسهولة عن الهوية السعودية.
وتعود أولوية القدس والقضية الفلسطينية للمملكة العربية السعودية وإسقاط القيادة الإسلامية السعودية إلى الأيام الأولى للمملكة السعودية، وفي مراسلاته مع المسؤولين الأمريكيين، قال الملك عبد العزيز آل سعود: “إنني أحتل موقعاً متفوقاً في العالم العربي،وفي حالة فلسطين، عليّ أن أطرح قضية مشتركة مع الدول العربية الأخرى”.
وجدير بالذكر أن الموقع الإلكتروني للسفارة السعودية في واشنطن العاصمة ينص على ما يلي: “المملكة العربية السعودية هي موطن لاثنين من الحرمين الإسلاميين المقدسين: مكة المكرمة والمدينة المنورة،والمسجد الأقصى في القدس، الذي يضم المكان الذي عرج منه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء، يكمل ثلاثي المقامات المقدسة في العالم الإسلامي، بالتالي، إن مركزية القدس بالنسبة للمسلمين وهويتهم الإسلامية تجعلها جزءاً لا يتجزأ من الرؤية الإسلامية العالمية للمملكة العربية السعودية، ورداً على اعتراف الرئيس السابق دونالد ترامب بالقدس عاصمة لـ “إسرائيل”، نتذكر أن الملك سلمان بن عبد العزيز استضاف قمة عربية، أطلق عليها اسم “قمة القدس”، في الظهران بالمملكة العربية السعودية، وتعكس هذه الخطوة المسؤولية التي ترى النخب الحاكمة السعودية أنها تتحملها، على الأقل رمزياً، تجاه الإسلام والقدس.
كما تبرز القضية الفلسطينية والقدس في الخطاب السعودي، فقد كان لكل ملك سعودي دور فريد في العلاقات العربية “الإسرائيلية”، وقد تم استخدام الموقف الذي اتخذه كل منهم بشأن القضايا الفلسطينية كدليل على تقواهم وشجاعتهم وقيادتهم، وربما اتخذ الملك فيصل بن عبد العزيز الموقف البطولي المؤيد للفلسطينيين الأكثر شهرة، إذ يحظى الملك فيصل باحترام عالمي من قبل السعوديين والمسلمين على حد سواء بسبب موقفه خلال الحرب العربية “الإسرائيلية” عام 1973 كما أسلفنا، ولم يعكس الحظر النفطي الذي فرضه موقفاً مؤيداً للفلسطينيين فحسب، بل يعكس أيضاًموقفه القوي في مواجهة المطالب والضغوط الأمريكية، فالخطاب السعودي يرفع إرث الملك فيصل إلى المستوى الأعلى للزعماء العرب والإسلاميين المعاصرين، وكما أشار الملك خالد بن عبد العزيز في خطابه أمام منظمة التعاون الإسلامي بعد أشهر قليلة من اغتيال الملك فيصل عام 1975، فإن “أفضل طريقة لإحياء ذكرى فيصل هي أن نقوم جميعاً بتحقيق أهدافه لضمان التضامن”، ووحدة جميع المسلمين والسعي لتحقيق عظمة الأمة الإسلامية، وفوق كل شيء، فإن أمله الأكبر هو أن يصلي، بفضل الله ومشيئته، في المسجد الأقصى، أول القبلتين وثالث الأقدس، مع القدس العربية مرة أخرى.
بالتالي، إن تجاهل الخطاب الغربي العام حول آفاق تطبيع العلاقات بين السعودية والكيان الصهيوني، عمّق القضية الفلسطينية في الهوية السعودية، بالتالي، من غير الصحيح افتراض أن القضية الفلسطينية لم تعد مهمة بالنسبة للسعوديين،فهي في قلب كل سعودي وكل عربي، وعودة المملكة إلى ريادتها تبدأ من فلسطين، وتنتهي بها، فمآثر الملك فيصل ومن أتى من بعده خير دليل على ذلك.
وكما قال الأمير تركي الفيصل، بما معناه، لقد تحطمت صورة الكيان المحتل، وسقطت الأقنعة ولم يعد هناك من شك، أن ما سطرته حماس، أعاد توجيه البوصلة إلى الاتجاهات الصحيحة، قلتها وأكررها، إن فلسطين هي الروح التي تنبض فينا، والتخلي عنها يعني التجرد من الإنسانية وكعقوق الوالدين والكفر والإلحاد، فالمملكة وكل الأشراف معاً نحو إحقاق الحق، وهذا موقف يفرحنا ويبعث الأمل فينا، أن القضية لن تموت وأن من يجب أن يرحل هو هذا الكيان المارق المحتل والغاصب.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.