في ظلِّ أحداث العدوان الصهيوني الأميركي على غزَّة، والحرب الهمجيَّة البربريَّة الَّتي يشنُّها الاحتلال على شَعب غزَّة الأعزل من قتلٍ للأبرياء من الأطفال والنِّساء والكبار والعجزة، وهدمٍ للمساجد والمدارس والمستشفيات، وقطعٍ للماء والغذاء والدواء ومنعٍ لقوافل الإغاثة من الدخول إلى غزَّة وتنكيلٍ بأهل غزَّة في حرب إبادة مجرمة، واستمرار هذا الإجرام الصهيوني الأميركي في تجاوزٍ لكُلِّ المشتركات الإنسانيَّة والأخلاق والقِيَم والأعراف الَّتي أقرَّتها الأُمم المُتَّحدة، وفي ظلِّ انتكاسة صارخة للأُمَّة العربيَّة والإسلاميَّة في مواجهة هذه الحرب، وحالة الخور والوهن والضعف الَّتي يعيشها حكَّامها وحكوماتها رغم تعدُّد الاجتماعات واللقاءات والبيانات الَّتي لَمْ تفعل شيئًا لوقفِ هذه المجازر في حقِّ الشَّعب الفلسطيني، وفي المقابل ما قدَّمته المقاومة الفلسطينيَّة الباسلة من معاني الصمود والإيمان والدِّفاع والبسالة في مواجهة العدوِّ المحتلِّ، لِتثبتَ أحداث غزَّة كذب مقولة الجيش الَّذي لا يُقهَر، فباتَ هذا الجيش الَّذي ظلَّ رغم عدَّته وعتاده وإمكاناته والتسليح المستمرِّ له من قِبل الصهاينة الأميركان لقمة سائغة لرجال المقاومة المؤمنين البواسل. كُلُّ هذه المعطيات وضعت الشعوب الحُرَّة أمام مسؤوليَّة البحث عن كُلِّ الخيارات الَّتي تُتيح لها مساندة أبناء غزَّة في مقاومتهم لهذا العدوِّ الجبان الشرس. فكانت أسلحة الدُّعاء والمقاطعة الاقتصاديَّة، ونقل صورة هذا العدوان ووحشيَّته للعالَم، ليسجلَ للتاريخ السقوط الأخلاقي والنفوق القِيَمي لهذا الكيان والولايات المُتَّحدة الأميركيَّة والمنظَّمات الدوليَّة والدوَل الدَّاعمة له في وحلِ الإجرام والعبث بالأخلاق والمشتركات والقِيَم الإنسانيَّة، وعَبْرَ ما تسجِّله أقلام الكتَّاب والباحثين والمغرِّدين وصنَّاع الكلمة بالصوت والصورة من مشاهد مفجعة، وشواهد لارتكاب الاحتلال جرائم حرب، ونقطة سوداء ملطَّخة بدماء الأبرياء في جبين الامبرياليَّة الأميركيَّة والعنصريَّة الصهيونيَّة.
وانطلاقًا من القناعة بأنَّ المثقف هو مَن يمتلك مشروعًا ثقافيًّا حضاريًّا وطنيًّا واعدًا ومنهجًا عمليًّا مقنَّنًا في قراءة أحداث الأُمَّة والتحدِّيات والفرص والمتغيِّرات الَّتي باتَتْ تُشكِّل تاريخها وتُحدِّد موقعها بَيْنَ ثقافات وحضارات العالَم، مستحضرًا كُلَّ المعطيات الَّتي شكَّلت تاريخها ومحطَّات القوَّة والضعف الَّتي مرَّت فيها في ظلِّ استقراء الأحداث وتحليل المعطيات، الرهان الَّذي يُمكِن خلاله إدخال الثقافة كمُكوِّن أساسي في إعادة إنتاج الواقع وتصحيح المفاهيم والمتغيِّرات والممارسات وتفسير الأحداث والتراكمات الَّتي باتَتْ تُشكِّل معطياته، لذلك يأتي طرحنا في التساؤل أين يقف دَوْر المثقف من هذه الأحداث، في ظلِّ المعطيات الإيجابيَّة الَّتي أعاد خلالها طوفان الأقصى التذكير بالقضيَّة الفلسطينيَّة، قضيَّة العروبة والإسلام الَّتي كادت أن تباعَ في أروقة السِّياسة واتفاقيَّات الأُمم المُتَّحدة ومجلس الأمن وأشكال التطبيع العربي مع الاحتلال، لِيأتيَ دَوْر المثقف اليوم في استنهاض الوعي العربي المدعوم بالشواهد والدلائل والإثباتات التاريخيَّة والإيمانيَّة والصورة الباسلة المُشرِقة الَّتي قدَّمها أبناء غزَّة وأبطال المقاومة في مواجهة الاحتلال الغاشم والعدوان القذر؟
وعلى الرغم من تباين الآراء واختلاف المفاهيم وتغاير الأفكار في تحديد مَن هو المثقَّف، بحسب اختلاف المدخلات والوظائف الَّتي قَدْ تكُونُ لها خصوصيَّتها في مجالها، فما يريده المُجتمع العادي من المثقَّف قَدْ يختلف عمَّا يريده السِّياسيون وعمَّا يريده الإعلاميون، وما يريده مِنْه الوعَّاظ والخطباء وعلماء الشريعة؛ وما تريده مؤسَّسات التعليم، يختلف عمَّا يريده رجال وروَّاد الأعمال، وأصحاب الأموال والشركات، وفي ظلِّ اتِّساع المؤثِّرين في الواقع الاجتماعي ودخول فئات مختلفة في هذا المسار لِيتمَّ الحديث اليوم في ظلِّ كونيَّة الثقافة وعالَميَّتها وإشاعتها، عن المتعلِّم والأكاديمي وأصحاب التجارب والخبرات، وروَّاد المشاريع والمبتكِرِين والمخترِعِين، والمفكِّرِين الاستراتيجيِّين، والاقتصاديِّين، وأصحاب الشهرة الجاثمين على الشَّاشات الفضائيَّة، وأصحاب التناقضات والمزاجيَّات المتسلِّقين على أكتاف السُّلطة، ومشاهير «السوشيال ميديا»، والمؤثِّرين في المنصَّات الاجتماعيَّة، إلَّا أنَّنا نؤمن بأنَّ الموقع الَّذي يجِبُ أن يحتلَّه المثقَّف في ظلِّ معطيات القضيَّة الفلسطينيَّة الفكريَّة والعقديَّة يصنع مِنْه شخصًا أكثر اقترابًا من ملحمة الواقع وأكثر جرأة في تسجيل وتحليل البطولات العظيمة الَّتي يسجِّلها أبطال المقاومة في زمن الانتكاسة الدوليَّة، وتتَّجه إليه الأنظار في ظلِّ مهامِّه العميقة وطبيعة الدَّوْر الَّذي يؤدِّيه في صناعة التوازنات الفكريَّة، صاحب فِكر خلَّاق، ولدَيْه تجارب وخبرات، ومبادرات وتوجُّهات داعمة للثوابت، يؤمن بالمشتركات الإنسانيَّة ويتبنَّاها، يعيش خريطة التنمية، يغرِّد داخل السِّرب ويُعزِّز من خلاله البناء الداخلي والفِكر الرَّصين ويعظِّم فِقه الأجيال نَحْوَ قضيَّتهم العقديَّة والتاريخيَّة والإنسانيَّة، وهو يغرِّد خارج السِّرب عِندما يتخلَّى السِّرب عن ثوابته، وينحو إلى سُلطة التأثيرات الخارجيَّة في استجداء الاتفاقيَّات والتطبيع مع العدوِّ المحتلِّ، يقرأ في التاريخ مساحات التغيير في المعادلة، وتصحيح الأفكار والقناعات، وإعادة النظر في بعض المُسلَّمات الَّتي ظلَّت أوهامًا في الفِكر العربي المغيَّب لعقود طويلة بَيْنَما أثبتت أحداث الحرب على غزَّة فشل هذه المُسلَّمات والأفكار حَوْلَ الاحتلال ونظريَّة السَّلام.
إنَّ النموذج الَّذي يقدِّمه المثقَّف لصناعة التغيير وإنتاج الوعي الجمعي، مرهون بحجم ما يمتلكه من روح المسؤوليَّة، ويقدِّمه من عظيم التضحيات، ويؤسِّسه من معاني الإلهام في حياة الأجيال، يستنطق القِيَم ويستنهض الهِمَم، يحمل رسالة الإنسانيَّة في مشتركاتها وقِيَمها ومؤتلفاتها، ويسطِّر أروع نماذج العمل وشواهد الإنجاز، تضعه أمام شاشة مكبِّرة وعدسة عاكسة لمبادئه وأهدافه وغاياته واستعداداته ومداخل التطوير الَّتي يتبنَّاها، فكُلَّما قدَّم للمُجتمع نماذج مشاهدة، ومشاهدات واقعيَّة في البناء والتنمية والإصلاح والبناء الفكري، وأوجد صفوفًا مُجتمعيَّة داعمة لمنهجِ العمل المشترك من أجْل الوطن، سوف ينعكس ذلك على قناعات الرَّأي العامِّ وتقديره للمساحة المتاحة للمثقَّف، وكيف استثمرها في بناء مشروع الإنسان الحضاري؟ لذلك فهو مشارك في نهضة مُجتمع، مشاركة الفعل، حاضرًا فيها؛ حضور الممارسة والإنتاجيَّة باعثًا لها لمزيدٍ من الإتقان والابتكاريَّة، فيقود المُجتمع إلى الإنتاجيَّة وتعزيز الهُوِيَّة الوطنيَّة، ويسمو بالابتكار ويُبرز مفهومًا أعمق للمواطنة، فينقل التفكير الاجتماعي من الأنا إلى الجمع، ومن الفرديَّة إلى الشراكة، وفق معايير واضحة للأداء ومحطَّات يتشارك في رسم ملامحها مع أبناء مُجتمعه غير منعزل بأفكاره بحجَّة عدم وجود مساحة للتوافقيَّة فيها مع الآخر؛ وطن يحتوي الجميع بسِيرته العطرة، وبسريرته الَّتي تبني في النَّفْس رغبة في عطائه، واستماعًا لِبَوْحه، ودعمًا لمنهجه بالبحث في معالي الأمور، وترقية النَّفْس في التعامل مع الخطوب وشحذ الهِمَم لِتمتطيَ الثريَّا، والنزول بالفضيلة لِترتسمَ في حياة المُجتمع منارة شامخة المعالي، مصلحًا في زمن التغيير، يقرأ في وطنه ظلال التعايش والعيش، والتَّسامح والسَّلام والتنمية فيبادر وينشط ويجتهد ويعمل ويخلِص ويستفيد من الفرص المتاحة، فيعيش في ظلال الأوطان حياة الأمن والاستقرار والتنمية والتطوير.
إنَّ إسقاط هذه الصورة النموذج في ظلِّ أحداث غزَّة على رسالة المثقَّف اليوم وهو يشاهد بأُمِّ عَيْنَيْه المجازر الوحشيَّة الَّتي يقوم بها الصهاينة على مرأى ومسمع العالَم ومنظَّمات الأُمم المُتَّحدة، ومؤسَّسات المُجتمع الدولي المعنيَّة بالمرأة والطفولة وحقوق الإنسان والتعليم للجميع وقدسيَّة رسالة التعليم ومؤسَّساته وتأمين المستشفيات والمراكز الصحيَّة، بَيْنَما تمارس آلة العدوِّ إجرامها في القصف والتدمير والاعتداء والتنكيل، يضع المثقَّف أمام مسؤوليَّة تاريخيَّة في إعادة إنتاج الوعي بالقضيَّة الفلسطينيَّة، تلك الَّتي كاد الزمن أن ينسيَها الأجيال، ويمحوها من ذاكرته، لِتصبحَ مائدة للمساومة والبيع والتنازل عَنْها في أروقة المنظَّمات الدوليَّة ومجلس الأمن ولقاءات السِّياسيِّين والمخابرات والعسكر، حتَّى قيضَ الله بحكمته وإرادته لرجال المقاومة الفلسطينيَّة، إنهاض هذه القضيَّة في طوفان الأقصى، فإنَّ دَوْر المثقَّف اليوم في إعادة نهضة الفِكر العربي نَحْوَ القضيَّة الفلسطينيَّة، محطَّة تحوُّل يتجلَّى فيها مشروعه الحضاري والإنساني لِيتحدَّثَ بها بأعلى صوته ويسجِّلَها في نقاشاته وحواراته وتعقيباته، ويسمو فيها فوق أدران الجهالة وصهينة البعض ممَّن ينتمون إلى هذه الأُمَّة في انحرافهم عن النهج، وخروجهم عن المسار، وانقيادهم للتبعيَّة، وانسلاخهم من الثوابت، وتجييشهم من قِبل أجهزة المخابرات، فيصنع مِنْها المثقَّف في قوَّة وحكمة قضيَّة أصيلة، تتجاوز كونها قضيَّة سياسيَّة إلى كونها قضيَّة فكريَّة وعقديَّة، قضيَّة بناء وتنمية، وولاء وتضحية، ووفاء والتزام، ومبدأ وهدف، ومنطق ونهج، فيصنع لها بَيْنَ الأجيال وما قدَّمه أبناء غزَّة من أجْلِ وطنهم من تضحيات صورة ملهِمة تتسابق الأجيال إِلَيْها، في كيفيَّة بناء الأوطان، وصناعة المبادئ، وإنتاج الحضارات، والحصول على الحقوق، مرتكزات وثوابت دينيَّة وتاريخيَّة وإنسانيَّة ومصيريَّة يعمل المثقف عَلَيْها، فينقل محور التغيير في ظلِّ ما يحمله من عقيدة راسخة، وثوابت أصيلة، وفِكر متجدِّد، وأسلوب مؤثِّر، وأسلوب معتدل، وشواهد إثبات من تاريخ الإسلام العظيمة على توجيه هذه الموجِّهات وعَبْرَ إنتاجه الفِكري وتوظيفه للمنصَّات الاجتماعيَّة في تعظيم قدرها في ذاتيَّة الإنسان العربي المُسلِم المعتزِّ بعروبته وإسلامه، ويصنع لها حضورًا لدى القائمين على التعليم والإعلام والثقافة والفِكر والتدريب وغيرها.
أخيرًا، وفي ظلِّ معطيات العدوان على غزَّة، يبقى حضور المثقَّف العربي في الواجهة الطريق لتبصير الأجيال بالقضيَّة الفلسطينيَّة، وتقديم تفسيرات واضحة واستدلالات مؤثِّرة تقرأ فيها ثباتًا في النهج ورصانةً فكريَّة تُعزِّز من الوعي الجمعي العربي بثوابت ومدلولات هذه القضيَّة وما تعنيه لكُلِّ مواطن عربي، وإيضاح الصورة السلبيَّة الَّتي أنتجتها اتفاقيَّات السَّلام واتفاقيَّات التطبيع السِّريَّة والعلنيَّة مع الكيان الصهيوني في ظلِّ ما أفصحت عَنْه أحداث غزَّة، وما كشفته من أقنعة تحت الغطاء، للذين كانوا في يوم ما يوهمون الشعوب بأنَّهم يحملون ثقافة التغيير والإصلاح في وجْه دكتاتوريَّات الحُكم، وأنَّهم حاملو لواء التَّعايش والإنسانيَّة والشراكة والتَّسامح والتَّعاون لِتكشفَ أحداث غزَّة زيف القناع والغطاء الَّذي يتخفَّى حَوْلَه مِثل هؤلاء المتصهينين من الكتَّاب والمثقَّفين والسِّياسيِّين والمفكِّرين ورجال الأعمال وغيرهم كثير، إنَّها محطَّات تأمُّل تضع المثقَّف العربي الشريف اليوم أمام مسؤوليَّة التصدِّي لَهُمْ، وتفنيد ما يثار من أفكار سوداويَّة من قِبلهم حَوْلَ القضيَّة الفلسطينيَّة والمقاومة الفلسطينيَّة الباسلة.
د.رجب بن علي العويسي