في قلب النزاع الدائم الذي يعصف بمنطقة الشرق الأوسط، تتجسد مأساة الشعب الفلسطيني بوضوح في قطاع غزة، الذين يعيشون في واحدة من أصعب الظروف الإنسانية على وجه الأرض، حيث تتجلى مظاهر المعاناة والظلم بوضوح يومياً، يعيش الفلسطينيون في قطاع غزة تحت ظل حصار مستمر، يشمل قيوداً على الحركة ونقصًا حاداً في الموارد الأساسية.
وتعد الحياة اليومية في غزة تحدياً مستمراً، حيث يتعرض السكان للعديد من الصعوبات من جراء نقص الكهرباء والمياه والخدمات الأساسية، حيث تُجبر الظروف القاسية الفلسطينيين على مواجهة تحديات متجددة، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية، داخل إطار حياة محاطة بالاضطهاد والقهر، إضافة إلى ذلك، يتعرض سكان غزة باستمرار لعمليات عسكرية تسببت في دمار هائل للبنية التحتية وأثرت بشكل كبير على حياة المدنيين، مما يجعلهم ضحية لأحداث لا يمكن تبريرها بأي شكل من الأشكال.
هذا الواقع القاسي يلقي الضوء على مظلومية الشعب الفلسطيني في غزة، حيث يواجهون تحديات هائلة يوماً بعد يوم، دون أن يجدوا الدعم الكافي أو الفرصة لتحسين أوضاعهم.
لكن في حدث جديد على رمزيته لكنه قد يبلسم القليل من جراحات الشعب الفلسطيني، فقد صدر قرار من محكمة العدل الدولية اليوم الجمعة يطلب إلى الكيان الصهيوني اتخاذ جميع التدابير اللازمة لمنع حدوث أعمال إبادة جماعية في قطاع غزة، وعلى الرغم من هذا القرار، فإن المحكمة لم تُصدر أمراً بوقف إطلاق النار في القطاع.
وأثناء تلاوة الحكم، أكدت المحكمة على ضرورة عدم ارتكاب الكيان الصهيوني لأعمال إبادة جماعية، مشددة على أهمية اتخاذ إجراءات لتحسين الوضع الإنساني، وطلبت من الاحتلال الصهيوني تقديم تقرير حول الإجراءات التي اتخذتها خلال شهر من صدور القرار، وفي سياق متصل، حثت المحكمة حركة حماس على الإفراج الفوري عن الأسرى دون شروط، وفي تصريحاتها، أكدت محكمة العدل الدولية أن بعض الحقوق التي تطالب بها جنوب أفريقيا في القضية تظل منطقية على الأقل، مشيرةً إلى صلاحيتها في الحكم بإجراءات طارئة في قضية الإبادة الجماعية المرفوعة ضد الكيان الصهيوني جراء حربها على غزة.
كما أعلنت محكمة العدل الدولية قرارها بقبول الدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا بشأن الاتهامات بارتكاب الكيان الصهيوني لأعمال إبادة جماعية في قطاع غزة، وأكدت المحكمة أن لجنوب أفريقيا الحق في رفع هذه الدعوى، مرددةً أنها لن ترفض النظر في قضية الإبادة الجماعية المزعومة ضد الكيان الصهيوني، وفي جلسة إعلان القرار، شددت المحكمة على أن الفلسطينيين يحظون بالحماية بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، ما يعني أنهم يتمتعون بحماية دولية ضد الجرائم التي قد تُرتكب ضدهم.
وبالإعلان عن تلك القرارات، أكدت المحكمة على استمرارها في متابعة القضية، رافضة طلب الكيان الصهيوني برفض الدعوى ومؤكدة على حق جنوب أفريقيا في المتابعة القانونية، بالتالي، إن قرار محكمة العدل الدولية بقبول الدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا بشأن اتهامات الإبادة الجماعية ضد الكيان الصهيوني يحمل تداولاً مهماً لفلسطين وشعبها في ظل الحرب الدائرة ضد قطاع غزة، كما يعني هذا القرار أن المحكمة تقر بوجود حالة قانونية تتعلق بجرائم الإبادة الجماعية المزعومة التي ارتكبها كيان الاحتلال الصهيوني في قطاع غزة.
بالتالي، إن القرار يعزز موقف الفلسطينيين كشعب محمي بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، مما يعني أنهم يتمتعون بحماية دولية ضد الجرائم التي قد تُرتكب ضدهم، ويشير هذا القرار أيضاً إلى أهمية متابعة القضية ورفع الدعوى، مما يسمح لجنوب أفريقيا بتقديم تقارير حول الإجراءات التي يتخذها الكيان الصهيوني للامتثال لالتزاماته بموجب القانون الدولي.
وبشكل عام، يمكن أن يكون هذا القرار تحفيزاً لجهود المجتمع الدولي لفرض المزيد من التحقيقات والمراقبة فيما يتعلق بالأحداث في قطاع غزة والحفاظ على حقوق الفلسطينيين وتوفير الحماية اللازمة لهم.
وصحيح أن قضاة محكمة العدل الدولية لا يملكون سلطة تنفيذية مباشرة، ولكن قراراتهم تحمل وزناً قانونياً كبيراً، بموجب الفعل، فإن محكمة العدل الدولية هي جزء من الأمم المتحدة، وتقع في إطار الشرعية الدولية، وعندما تصدر المحكمة قراراً، يتوجب على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة الامتثال لتلك القرارات والتعاون في تنفيذها والامتناع عن أي أفعال قد تتعارض معها، هنا، إن الدول الأعضاء ملزمة بالامتثال للالتزامات الدولية التي قدموها، ومحكمة العدل الدولية تلعب دوراً رئيسياً في فرض تلك الالتزامات.
في هذه الحالة، قد يتعين على الكيان الصهيوني تقديم تقارير حول الإجراءات التي اتخذتها بناءً على قرار المحكمة، وقد تكون هناك عواقب دولية إذا لم تلتزم بالقرار أو لم تتعاون في تنفيذه، القرار يمكن أن يؤثر على سمعة الدول المتورطة ويفتح الباب أمام إجراءات إضافية على الصعيدين القانوني والدولي.
رد الكيان الصهيوني المتوقع
من المتوقع أن يرفض الكيان الصهيوني القرار، ويعتبره تدخلاً في شؤونه الداخلية أو انتهاكاً لسيادته المزعومة، بالتالي قد تقدم حكومة الاحتلال استئنافاً أمام المحكمة الدولية للطعن في القرار أو تقديم وجهة نظرها حول المسائل القانونية المعنية، وبالمقابل لتخفف من حدة الهجوم الدولي عليها، خاصة الشعبي، قد تقرر حكومة الاحتلال الامتثال لجزء من القرار ورفض أجزاء أخرى، وقد تعمل على تحقيق التعاون في بعض النواحي وتجاهل البعض الآخر.
بالإضافة إلى ذلك، من الممكن أن يلجأ الكيان الصهيوني، إلى الحوار الدولي والدبلوماسية لشرح وجهة نظره والتأكيد على موقفه، أما بالنسبة للإجراءات الداخلية، فقد يتخذ الكيان الصهيوني إجراءات داخلية، مثل تعديل التشريعات أو اتخاذ قرارات تنفيذية، لتعزيز موقفها والحفاظ على سيادته، فضلاً عن تكثيف الحملة الإعلامية لتوضيح وجهة نظره وكسر النصوص الإعلامية المعادية.
والطبيعي ألا يقف كيان الاحتلال الصهيوني مكتوف اليدين فبعد قرار المحكمة قد يتعاون مع الدول والحلفاء الداعمين لها للتأثير على الرأي الدولي وتحقيق دعم إضافي، أما إجراءات الرد المتوقعة ستعتمد في نهاية المطاف على تقييم الكيان الصهيوني للوضع وكذلك اعتباراته السياسية والاقتصادية والأمنية.
أما بالنسبة للشعب بالفلسطيني، من الممكن أن يتلقى الفلسطينيون قرار محكمة العدل الدولية بإيجابية، حيث يعتبرونه تأكيداً على حقوقهم ومحاولة لتحقيق العدالة، وقد يرى البعض فيه دعماً دولياً لقضيتهم، أما فيما يتعلق بتأثير قرار المحكمة على مجريات الحرب في غزة، يمكن أن يكون للقرار تأثير على الموازنة الدولية والسياسات الخارجية، مما قد يسهم في تغيير ديناميات النقاش الدولي حول النزاع، ومع ذلك، يعتمد تأثيره الفعلي على تفاعل الأطراف المعنية والتطورات السياسية والعسكرية في المنطقة.
عربياً وإسلامياً، من الصعب تحديد موقف العالم العربي والإسلامي ككل من قرار محكمة العدل الدولية، حيث يمكن أن يكون هناك تباين في الآراء والمواقف بين الدول العربية والإسلامية، خاصة وأن بعض الدول والفرقاء قد تعبر عن دعمها لهذا القرار باعتباره يعزز حقوق الشعب الفلسطيني ويطالب بالعدالة، بينما قد تكون هناك دول أخرى أو جماعات تعتبر القرار تدخلاً في الشؤون الداخلية وتدافع عن مواقفها التقليدية، خاصة نلك التي طبّعت مع الكيان الصهيوني.
قانونياً: في استعراض سريع عن قانونية محكمة العدل الدولية منذ تأسيسها وحتى تاريخ اليوم:
من المعروف أن محكمة العدل الدولية هي هيئة قضائية تابعة للأمم المتحدة، وهي مسؤولة عن فض المنازعات القانونية بين الدول، تأسست المحكمة في عام 1945 وتعتبر واحدة من ركائز النظام الدولي، ومن بعض الأحداث التاريخية التي تتعلق بقانونية محكمة العدل الدولية:
■ تأسيس المحكمة (1945): أنشئت محكمة العدل الدولية كجزء من ميثاق الأمم المتحدة في عام 1945، بهدف فض المنازعات القانونية بين الدول.
■ أول قضية (1947): كانت أول قضية تعاملت معها المحكمة هي “قضية الجنوب الغربي الإفريقي” بين بريطانيا وجنوب أفريقيا في عام 1947.
■ الرأي الاستشاري حول الأسلحة النووية (1996): أصدرت المحكمة رأيًا استشاريًا يفيد بأن تهديد أو استخدام الأسلحة النووية يكون غير متسق مع قوانين الحرب الدولية.
■ قضية الجدار العازل (2004): أصدرت المحكمة قرارًا بأن بناء جدار الفصل في الضفة الغربية من قبل إسرائيل يتعارض مع القانون الدولي.
■ القضية الخاصة بكوسوفو (2010): أصدرت المحكمة رأيًا استشاريًا حول قانونية إعلان استقلال كوسوفو.
■ قضية الحدود بين كولومبيا ونيكاراغوا (2012): قامت المحكمة بتحديد حدود بحرية بين كولومبيا ونيكاراغوا.
هذه الأحداث تظهر الدور المهم الذي تلعبه محكمة العدل الدولية في تطوير القانون الدولي وفض النزاعات بين الدول.
ختاماً، وبالنظر إلى مظلومية الشعب الفلسطيني في غزة، يشكل قرار محكمة العدل الدولية خطوة مهمة نحو إنصاف الشعب الفلسطيني الذين عانى لفترة طويلة من آثار الحروب والحصار ولا يزال، على الرغم من أن هذا الإجراء قد يكون نظرياً في هذه المرحلة من الصراع الأخير، إلا أنه يمثل خطوة أولى نحو تحقيق العدالة وتحديد مسؤوليات الأطراف المعنية في النزاع.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.
تعزز هذه الخطوة فكرة تقرير المصير وحق الشعوب في تقرير مستقبلها، وهي قيم أساسية تشكل أساس النظام الدولي. إن إشارة محكمة العدل الدولية إلى حقوق الفلسطينيين تعكس الضغط المتزايد لتحقيق التسوية العادلة وإنهاء الظروف الصعبة التي يواجهها السكان في غزة.
على المستوى الرمزي، يعزز هذا القرار الآمال في تحسين وضع الشعب الفلسطيني وإعطائهم الفرصة لحياة أفضل. وفي الوقت الذي قد يكون فيه تأثير هذا القرار محدودًا عمليًا في المرحلة الحالية، إلا أنه يضع قضية الشعب الفلسطيني على الساحة الدولية ويساهم في زيادة الوعي بمعاناتهم.
هكذا، يظل إصدار محكمة العدل الدولية قرارها محط أمل للفلسطينيين في غزة وللعالم بأسره في تحقيق العدالة وتحقيق تقدم نحو حل سلمي ومستدام للنزاع الدائر في المنطقة.