وجَّه حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم وفي ترؤُّس جلالته لمجلس الوزراء الموقَّر في الحادي عشر من أكتوبر من عام 2023، إلى «أهمِّية الارتقاء بقِطاع الإعلام ووضع الخطط الفاعلة لتعزيز الاستفادة من التطوُّرات المتسارعة المتعلِّقة بمنصَّات الإعلام الحديث وأدواته المختلفة بما يُسهم في تحقيق الأهداف الوطنيَّة للإعلام العُماني».
وبالتَّالي ما تحمله التوجيهات السَّامية لجلالة السُّلطان المُعظَّم من دلالات وأُطر واستراتيجيَّات للنهوض بقِطاع الإعلام وعَبْرَ أربع موجِّهات رئيسة، أوَّلها: عَبْرَ إعادة هيكلة البنية الفنيَّة والهيكليَّة والبرامجيَّة والفنيَّة للإعلام العُماني ـ المقروءة والمسموعة والمرئيَّة ـ بالشَّكل الَّذي يتناغم مع معطيات المرحلة، ومستجدَّات الواقع الكوني وتجلِّياته، والغايات والأهداف الوطنيَّة، وتحقيق المستهدفات الوطنيَّة من الإعلام العُماني الَّتي جسَّدتها رؤية «عُمان 2040»، وقَدْ تتَّجه إلى التوسُّع في المنصَّات الإعلاميَّة والفضائيَّة في المجالات الاقتصاديَّة والأمنيَّة والشَّبابيَّة والتعليميَّة ومجال الطفولة والترفيه وغيرها. وثانيها: من خلال تعزيز البنية التشريعيَّة والرقابيَّة ممثَّلةً في حوكمة الإعلام وتعظيم القِيمة التنافسيَّة المضافة في الإعلام الرَّسمي والخاصِّ والشَّخصي بالشَّكل الَّذي يضْمن خلق حراك إعلامي ونشاط فكري وثقافي يؤصِّل للإعلام قوَّته ومهنيَّته واحترافيَّته، يستوعب أحداث الواقع ويتفاعل مع مستجدَّاته ويجد فيه المفكِّرون والباحثون والإعلاميون والمؤلِّفون والمثقفون وصنَّاع المحتوى الرَّقمي والمنتجون الإعلاميون فرصتهم في مزيدٍ من الثِّقة والتحفيز والتمكين، بالشَّكل الَّذي يضْمن إشراكهم في مَسيرة الإعلام وتعظيم القدرات والكفاءات الوطنيَّة الملهِمة في هذا الشَّأن، هذا الأمْرُ يأخذ في الاعتبار إعادة مراجعة المشروعات والقوانين المرتبطة بالملكيَّة الفكريَّة وحقوق النشر وحقوق المؤلِّف والميثاق الأخلاقي للرسالة الإعلاميَّة، وتشريعات وضوابط حَوْلَ السلوك الإعلامي والإعلامات والمنصَّات الاجتماعيَّة والمشاهير. وثالثهما: تأكيد الاعتراف بِدَوْر الإعلام الرَّقمي البديل، الخاصِّ والشَّخصي كمسارات إعلاميَّة أصيلة ومنافِسة، لها حضورها وموقعها في المنظومة الإعلاميَّة الوطنيَّة، بالشَّكل الَّذي يؤكِّد الحاجة إلى أهمِّية أن يراجعَ الإعلام الرَّسمي أدواته ويطوِّرَ ممارساته ويستقطبَ الكفاءات الوطنيَّة، ويُعزِّزَ من موقعه الريادي، وحضوره النَّوعي في الفضاءات الاجتماعيَّة المفتوحة ودُونَ إقصاء للقوى الإعلاميَّة الجديدة (الفضاء الإعلامي الخاصِّ والفردي، مشاهير المنصَّات الاجتماعيَّة والإعلانات والدعاية الرقميَّة، شبكات التواصل الاجتماعي) على المشهد الإعلامي، وأن يستفيدَ الإعلام الرَّسمي من المميزات التنافسيَّة في الإعلام الشَّخصي والإعلام الخاصِّ لضمان توجيه الأنظار للرسالة الإعلاميَّة الرسميَّة وحشد تأييد مُجتمعي لها وإدماجه أو استيعابه في أطروحاته البرامجيَّة، بما يحقِّق معادلة الثبات والقوَّة في استيعاب حجم الفرص والتفاعلات والمميَّزات الإيجابية في الإعلام الخاصِّ والإعلام الفردي، وتعظيم درجة الـتأثير وقوَّة الأثَر الَّذي يُحدِثه الإعلام الرَّسمي ـ المدعوم من الحكومة ماليًّا ـ بما لا يفقده توازنه أمام القوى الإعلاميَّة الجديدة. ورابعها: الانتقال بالإعلام من الاستهلاكيَّة إلى الإنتاجيَّة والقِيمة المضافة، وتعزيز دَوْر الإعلام كأحَد المسارات الاستثماريَّة، وعَبْرَ اقتصاد الإعلام والاستثمار في الموارد الإعلاميَّة من خلال تشجيع الإنتاج البرامجي والأفلام الوثائقيَّة والإعلاميَّة القصيرة، وتشجيع الشَّباب العُماني على تفعيل الوسائل الإعلاميَّة والمنصَّات الاجتماعيَّة والابتكاريَّة فيها.
وعَلَيْه، فإنَّ الارتقاء بقِطاع الإعلام يستدعي اليوم جهدًا وطنيًّا في بناء سياسات إعلاميَّة ناضجة يصوغها كُلُّ الشركاء في الإعلام العُماني بفكر جديد ورؤية متجدِّدة، وأداء احترافي، وتفكير عالمي، وتنفيذ وطني مخلِص، وتمكين للكفاءة وتعظيم لمصداقية الكلمة وشفافيَّتها، تتناغم مع معطيات المرحلة الَّتي تعيشها سلطنة عُمان، سياسات تحافظ على مسار التكامل في العمل الإعلامي بكُلِّ مستوياته ووسائله وأدواته، لصالح بناء نموذج إعلامي يمتلك روح التغيير ويحافظ على درجة التوازن في الرسالة الإعلاميَّة العُمانيَّة وثوابتها وقِيَمها ومبادئها دُونَ تأثرها بتنازلات الإعلام الآخر عن أخلاقيَّاته ومبادئه، ومع ذلك فإنَّها تمتلك حدس التوقُّعات، ونهج الفراسة، واستشراف المستقبل، وتحليل الواقع، والتعمق في المؤشِّرات، وصناعة السيناريوهات البديلة، وإعادة إنتاج الوعي المُجتمعي والثقافة المُجتمعيَّة، في قراءة الأحداث الوطنيَّة والإقليميَّة والعالَميَّة ورسم صورة مضيئة للتعامل معها إعلاميًّا؛ وبالتَّالي ما يعنيه ذلك من أنَّ على الإعلام اليوم أن يتحولَ من دَوْر الاستهلاك الفكري، والتكرار المعلوماتي، والسطحيَّة والنمطيَّة في قراءة الأحداث، أو في تسليط الضوء على الأبعاد التنمويَّة والمُجتمعيَّة والاقتصاديَّة والرقابيَّة، بل أن يجدِّدَ في أدواته، ويتعمقَ في قراءاته، ويستحضرَ التغيير في أطروحاته، ويستقطبَ الكفاءات الوطنيَّة المتخصِّصة في معالجة أو الحوار أو الحديث عن التحدِّيات والفرص والتهديدات والمتغيِّرات، ويمتلك مبادرات جادَّة في استقطاب الكفاءات الوطنيَّة في مختلف الفنون والأنماط الإعلاميَّة وعَبْرَ قواعد بيانات متخصِّصة ومحدَّثة، بالإضافة إلى صناعة المؤثِّرين الإعلاميِّين الوطنيِّين في مختلف المجالات الوطنيَّة، ولصالح صناعة خيار المنافسة والشفافيَّة والمهنيَّة في الإعلام الرَّسمي مع الاحتفاظ بقواعد السلوك الإعلامي والتثمير فيها وتوجيه الأنظار إليها؛ باعتبارها ميزة تنافسيَّة تؤهل الإعلام لصناعة الفرص وإنتاج الحلول لمشكلات الواقع أو أولويَّات تطويره وتمكينه.
وبالتَّالي أن يمتلكَ الإعلام العُماني القادم البدائل والموجِّهات التسويقيَّة الَّتي تحافظ على تنوُّع الوسيلة الإعلاميَّة، وتقديم محتوى إعلامي يتَّسم بالرصانة والتنوُّع والاستدامة والتأثير والاحتواء وإنتاج الفرص، ويوفر قِيَمة مضافة اقتصاديَّة وفكريَّة وثقافيَّة وتنمويَّة تحفظ ديمومة التوازن في الرسالة الإعلاميَّة، وتقلِّل من التداعيات النَّاتجة عن غياب المهنيَّة أو فراغ الضوابط في الإعلام الرَّقمي البديل أو الإعلام الآخر، بما يفقد الرسالة الإعلاميَّة الوطنيَّة جوهرها وبريقها وحضورها في اهتمامات المواطن المشاهد والمستمع والقارئ، وفي الوقت نَفْسه استمرار المحافظة على الثوابت الإعلاميَّة العُمانيَّة القائمة على الموضوعيَّة والحياديَّة في تناول الأحداث وقراءة المعطيات العالَميَّة، إذ كُلَّما امتلك الإعلام الوطني زمام المبادرة للتغيير وجديَّة التوجُّه نَحْوَ التطوير، بإعادة تصحيح ذاته وتقييم ومراجعة سياساته، وقراءة وإنتاج الواقع المُجتمعي بكُلِّ تجلِّياته، والتزم مبدأ الشفافيَّة والمهنيَّة في المحتوى والرسالة الإعلاميَّة، والتنوُّع والتوسُّع في الوسيلة الإعلاميَّة، واستطاع أن يتكيَّفَ مع مستجدَّات الواقع الإعلامي الدولي بكُلِّ تبايناته وتناقضاته، وتوظيف منصَّات التواصل الاجتماعي وإدخالها ضِمن دَوْراته البرامجيَّة، كُلَّما كان لذلك أثره في بناء قوَّة وعي مُجتمع التنمية والاقتصاد والاستثمار والقِيَم، وتعظيم القِيمة التنافسيَّة للمنتج الفكري الإعلامي، واستطاع أن ينقلَ الجمهور بمختلف وسائله الإعلاميَّة المقروءة والمسموعة والمرئيَّة والإعلام البديل من حالة الاستنزاف والاستهلاك الفكري إلى التغيير الذَّاتي والإصلاح المُجتمعي الموجّه الَّذي ينعكس إيجابًا على قناعات المواطن واتِّجاهاته وأفكاره وأطروحاته في مختلف المواقف.
على أنَّ رؤية «عُمان 2040» والهدف «إعلام مهني مُعزِّز للوعي المُجتمعي ومسهِم في التنمية الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة»، وضعت الإعلام العُماني اليوم أمام مسؤوليَّة بناء الوعي الشامل وتعزيز الاتِّجاهات الإيجابيَّة، وتنشيط الحراك التنموي الاقتصادي والثقافي والفكري وتعظيمه واضعةً النقاط على الحروف، مؤذِنَةً بتحوُّلات قادمة يجِبُ أن يشهدَها الإعلام العُماني على مستوى الكمِّ والكيْفِ أو من حيث التنوُّع في الوسيلة الإعلاميَّة، أو من حيث البرامج والدَّورات البرامجيَّة والمحتوى، أو من خلال التوسُّع في إعلام المحافظات وإعلام المؤسَّسات، وبناء منظومة تشريعيَّة مَرِنة تحافظ على سرعة تكيُّف المنتج الإعلامي وسرعة استنطاقه واستنهاضه في ظلِّ تسارع الأحداث وتراكميَّة المواقف، ناهيك عن التركيز على الإعلام الوقائي في ظلِّ بناء استراتيجيَّة إعلاميَّة للإعلام الوقائي في التعامل مع الإشاعات أو الظواهر السلبيَّة أو التعاطي مع الحالات الطارئة أو الأزمات، وعَبْرَ إدارة إعلاميَّة تضمن كفاءة الأدوات وسرعة التعامل مع المواقف وتقديم الحلول وتوفير مؤشِّرات للرصد والتحليل الإحصائي، في ظلِّ وجود مختبر إعلامي تحليلي متعدِّد الخبرات والأدوات والوسائل، يعمل على قياس الرأي العامِّ ويرفد الإعلام بقواعد بيانات محدَّثة بالكفاءات الوطنيَّة في مختلف المجالات، كما يعمل على قياس مستوى الجودة في المحتوى الإعلامي، ويجد في الإعلام الآخر محطَّة للتكامل والشراكة وتقديم محتوى إعلامي رصين لصناعة الفارق وليس في كونه حالة إعلاميَّة ضديَّة. إنَّ تأصيل هذا المسار وترقية المفاهيم الإعلاميَّة في بنية الإعلام الوطني وقَبوله بالمفاهيم المعاصرة الَّتي جسَّدتها الرؤية كمفاهيم مكافحة الفساد والمحاسبة والرقابة والنزاهة أو غيرها من المفاهيم المتعلقة بالظواهر السلبيَّة أو الاجتماعيَّة، مثل الشذوذ الجنسي والنسويَّة والمِثليَّة والإلحاد وغيرها، أو الاجتماعيَّة كارتفاع مؤشِّرات الطلاق، والجرائم الأُسريَّة، وتشويه القِيَم والتنمُّر، بحيث تتناولها الوسيلة الإعلاميَّة بالدراسة والتشخيص والتحليل عَبْرَ أعمدة ومساحات وبرامج الإعلام.
أخيرًا، يبقى تنفيذ التوجيهات السَّامية لجلالة السُّلطان وفي ظلِّ ما أشرنا إليه، مرهونًا بأمرَيْنِ، يتعلق الأوَّل بمستوى التمكين والصلاحيَّات الممنوحة للإعلام العُماني في مختلف أدواره ومسؤوليَّاته، في أداء دَوْره التنموي والتوعوي والتثقيفي وصناعة القدوات وبناء القدرات والتسويق الشامل لسلطنة عُمان اقتصاديًّا وسياحيًّا وحضاريًّا وتنمويًّا، وإبراز النماذج الوطنيَّة المضيئة في مختلف المجالات، وتعظيم الثِّقة في الكفاءة الإعلاميَّة الوطنيَّة، والتناغم بَيْنَ فنون الإعلام وأنماطه «الإذاعة والتلفزيون والصحف والإعلام الرَّقمي» بحيث تسير جميعها جنبًا إلى جنب، دُونَ فصل بَيْنَها أو إقصاء لأحَدها في التعامل والاهتمام، والحوافز والممكنات، والدَّعم المادي واللوجستي والخبراتي والتدريبي، والاهتمام بتوفير البيئة الإعلاميَّة الدَّاعمة للتغيير، والمحفِّزة للأداء، والموظّفة للتقنيَّات الحديثة والأجهزة الإعلاميَّة المتطوِّرة لبناء إعلام مرئي يقف على اللحظات المباشرة ويرصد الأحداث حال وقوعها، ويتفاعل معها بكُلِّ مهنيَّة واحترافيَّة وجديَّة دُونَ التأثير على الإعلاميِّين أو فرض سُلطة الأمْرِ الواقع على الوسيلة الإعلاميَّة، أو تحجيمها في مسار تقييدي مكرَّر غير قادرة على تجاوزه، الأمْرُ الَّذي سينعكس سلبًا على قدرة الوسيلة الإعلاميَّة على الإبداع والإنتاجيَّة، والتأثير والاحتواء. وثانيهما أن يتنازلَ الإعلام الرَّسمي الحكومي عن بعض التزاماته أو قناعاته، لِيتقاسمَ مع الإعلام الخاصِّ والإعلام الفردي والإعلام البديل، ومع إعلام المحافظات وإعلام المؤسَّسات ـ في ظلِّ ميثاق أخلاقي، وقواسم مشتركة، وشراكات استراتيجيَّة قائمة على الثِّقة والمسؤوليَّة والاحترافيَّة ـ تشكيل هُوِيَّة الإعلام العُماني القادم الَّذي يريده مواطن اليوم وأجيال عُمان المستقبل.
د.رجب بن علي العويسي