في نهاية شهر يناير 2024، بدأ الحديث مرة أخرى عن الانسحاب المحتمل للقوات الأمريكية من سوريا، وقد تم تداول هذه الشائعات في فضاء المعلومات منذ عدة سنوات دون أدنى اقتراب من هذه المعلومات، وكان سبب المناقشة الجديدة مقالاً بقلم تشارلز ليستر في مجلة فورين بوليسي، بصفته مديراً لبرامج سوريا ومكافحة الإرهاب في معهد الشرق الأوسط، أحد مراكز الأبحاث الرائدة في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن المؤلف شخص مطلع على الشؤون الأمريكية في الشرق الأوسط، وبعد الاطلاع على هذا المقال، هذه المرة ربما وضع الكاتب تحليلاً قد يحول هذه الشائعات إلى حقائق ليست وليدة اللحظة بكل تأكيد، ولذلك ربما تغادر القوات الأمريكية وأخيراً الشرق السوري، فإلى أي مدى يمكن أن يتحقق ذلك؟
ووفقاً لمصادر ليستر في وزارة الخارجية الأمريكية ووزارة الدفاع “البنتاغون”، لم تعد واشنطن مهتمة بالحفاظ على قواتها المسلحة في سوريا، والتفسير وفق اعتقادي واضح، وهو أنه على خلفية جولة جديدة من التصعيد في الصراع الفلسطيني “الإسرائيلي”، بدأت القوات الموالية لإيران (المقاومة الإسلامية في العراق) في ضرب أهداف عسكرية أمريكية في المنطقة بكثافة أكبر، وبشكل خاص، القواعد الأمريكية في سوريا والعراق والتي هي الآن الأكثر عرضة للخطر، وفي عام 2023 وحده، تعرضت منشآت الولايات المتحدة في سوريا لوحدها للهجوم 63 مرة، ويُزعم أن هذا هو السبب وراء قيام إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بإعادة النظر في أولوياتها في المنطقة، والتخلي عن الأصول السامة التي زرعتها أخيراً.
وبالمناسبة، هذه ليست المرة الأولى التي تحاول فيها واشنطن سحب قواتها من سوريا، لكن المرة الوحيدة التي انتقل فيها الأمريكيون من الأقوال إلى الأفعال التي كانت في أكتوبر من العام 2019، عندما بدأ الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب عملية الانسحاب، رغم أنه لم يكملها قط، وبعد انتقادات واسعة النطاق لهذه التصرفات، قرر الاحتفاظ بوحدة صغيرة في منطقة البحث والإنقاذ، في الشرق السوري، وعلى إثر ذلك، أعيد انتشار القوات الأمريكية وعززت وجودها في محافظتي الحسكة ودير الزور، شمال شرق سوريا.
وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت المشاركة في النزاع المسلح السوري في عام 2014 كجزء من قوات التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (تنظيم داعش) ومنذ عام 2015، أنشأت واشنطن وجودها الكامل “على الأرض” من خلال إنشاء عدة قواعد عسكرية خاصة بالقرب من حقول النفط السورية، ومنذ ذلك الحين، وبحجة مكافحة الإرهاب، تعمل 30 منشأة عسكرية أمريكية في سوريا، ويبلغ العدد الإجمالي للقوات الأمريكية 900 فرد على الأقل، وتقع معظم القواعد في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، وتتولى السيطرة على هذه المنطقة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وهي تحالف عسكري كردي عربي تم إنشاؤه على أساس وحدات حماية الشعب الكردية، ومن المناطق الأخرى التي يتواجد فيها جنود أمريكيون ما يسمى بالمنطقة الأمنية حول حاجز التنف وسط البلاد، على الرغم من أن الإدارة الرسمية للمنطقة يتولى تنفيذها الجيش السوري الحر، إلا أن الإدارة الحقيقية والحماية العسكرية للمنطقة تظل في يد الولايات المتحدة الأمريكية، وفي صيف عام 2023، انتشرت شائعات بنشاط في الصحافة حول نوايا الولايات المتحدة لتوحيد المنطقتين في مشروع معارضة مشترك، لكن هذه الأفكار لم تذهب أبعد من مجرد الحديث.
بالتالي، تتلخص السياسة الأمريكية بأكملها في سوريا في صيغة واحدة: خنق الاقتصاد السوري وزيادة التكاليف التي تتحملها روسيا وإيران في دعم الحكومة الرسمية، وبامتلاكها لوحدة محدودة، تنفذ واشنطن هذه المهام باستمرار بقوات صغيرة.
بالإضافة إلى ذلك، يسمح التواجد العسكري في المنطقة للولايات المتحدة بالتأثير على وضع الطاقة في جميع أنحاء البلاد، وتشهد سوريا اليوم أزمة وقود حادة وسط انخفاض كبير في درجات الحرارة وفصل شتاء قارس لم يمر بقسوته على البلاد منذ سنوات، دون أدنى مقومات الحياة، ويتم إنتاج 10% فقط من الحجم المطلوب من النفط في مناطق سيطرة الحكومة، والباقي يتم إنتاجه في مناطق الإدارة الذاتية المدعومة أمريكياً، بالإضافة إلى ذلك، بعد أن فرضت الولايات المتحدة حظراً فعلياً على الحكومة السورية على إمدادات النفط من حقول النفط في الشرق السوري، لا تزال دمشق تعتمد على المساعدة من الدول الصديقة، بالتالي، إن نقص الطاقة له تأثير ضار بشكل كبير على الوضع الاجتماعي والاقتصادي العام داخل سوريا، في هذا الوقت، تقوم الشركات الأمريكية بسرقة النفط السوري بشكل غير قانوني وتصديره إلى إقليم كردستان العراق، وبالتالي استرداد تكاليف الحفاظ على الوحدة أي دفع رواتبها من جيوب السوريين، ما يؤكد أن أميركا تقتات من مآسي الشعوب من خلال سرقة مقدراتهم علناً دون أدنى خجل.
يُشار إلى أنه في مناطق التواجد الأمريكي توجد سجون يُحتجز فيها أنصار داعش، بالإضافة إلى معسكرات لأفراد عائلاتهم، منذ عام 2022، ارتفع عدد السجناء الهاربين من أماكن الاحتجاز هذه بشكل ملحوظ، حيث يشير التدفق المستمر للمسلحين من شمال شرق سوريا ومنطقة التنف إلى سياسة واشنطن المتمثلة في التصعيد الخاضع للسيطرة، والتي تهدف إلى خلق ضغوط إضافية على دمشق وموسكو وطهران، فقد بدأ الإرهابيون في الظهور في العمق – حيث لم يكونوا موجودين منذ عدة سنوات، ومنذ منتصف عام 2022، حدثت زيادة في النشاط الإرهابي مرة أخرى.
وفي الأيام العشرة الأولى من شهر يناير/كانون الثاني 2024 وحدها، وقع ثلث هجمات تنظيم الدولة الإسلامية حول العالم في سوريا، وليس من قبيل الصدفة أن تزامنت الزيادة في الهجمات الإرهابية مع بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا عام 2022، وكما قال الممثل الخاص للرئيس الروسي للتسوية السورية، ألكسندر لافرينتييف: “إن الأميركيين حددوا مهام لأجنحتهم من بين المعارضة السورية المسلحة لإلحاق أكبر قدر من الضرر بالقوات العسكرية الروسية في سوريا”.
والهدف الرئيسي الآخر هو احتواء إيران، وهذا يزيد من صعوبة استخدام الجمهورية الإسلامية لرأس الجسر السوري لبسط نفوذها في المنطقة، ولذلك فإن إحدى المهام الأساسية للولايات المتحدة «على الأرض» هي تقليل فعالية الممر البري بين طهران وبيروت، الذي يمر عبر أراضي العراق وسوريا ويضم اللاعبين الأساسيين في إطار «المشروع الإيراني»، أو ما يُعرف بمشروع محور المقاومة، وفي هذا التكوين، فإن الرادع الرئيسي هو حامية التنف، وهي منطقة يبلغ طولها 55 كيلومتراً تغلق المعبر الحدودي المهم على الطريق بين بغداد ودمشق، ولذلك، تضطر إيران إلى بناء ممر أبعد بكثير إلى الشمال، عبر نقطة تفتيش أبو كمال/ القائم شرق البلاد، ويمثل هذا المعبر الحدودي عنق الزجاجة اللوجستي الشديد لأن القوات الأمريكية تتمركز أيضاً على الجانب الآخر من نهر الفرات.
وهكذا فإن واشنطن، بوجود قوة محدودة، تحل عدة مشاكل في وقت واحد، بالتالي، إن التخلي عن هذه الأصول سيكون خطوة سيئة بالنسبة للإدارة الأمريكية، بالإضافة إلى ذلك، فإن الوضع الحقيقي، على العكس من ذلك، يختلف عن العناوين الرئيسية في الصحف الأمريكية، منذ نهاية عام 2023، بدأت الولايات المتحدة في بناء قوتها العسكرية، وفي الوضع الحالي، فإن مغادرة سوريا وسط الهجمات المتزايدة من وكلاء إيران سيكون بمثابة ضربة خطيرة لسمعتها، لذلك لا تزال الولايات المتحدة أكبر مزود للأمن في الشرق الأوسط على الأقل من وجهة نظرها، والجميع يتذكر إلى ماذا أدى الانسحاب السريع للقوات الأمريكية من أفغانستان في عام 2021، لقد أدى إلى تقويض المواقف الأمريكية في المنطقة.
ولذلك فإن التصعيد الحالي للصراع الفلسطيني “الإسرائيلي” يشكل تحدياً آخر لنفوذ الولايات المتحدة، ويراقب جميع الحلفاء في الشرق الأوسط كيف سيتصرف الضامن الأمني في الخارج، وإذا تخلت واشنطن عن التزاماتها ومنحت إيران المزيد من الفرص لمهاجمة الكيان الصهيوني من سوريا، فسيكون ذلك بمثابة إشارة أخرى لدول المنطقة بأن سياساتها الدفاعية يجب أن تنوع علاقاتها.
لكن ضربة القاعدة الأمريكية في الأردن ليست كما قبلها، اليوم المنطقة تقبع على صفيح ساخن، فإما توسع رقعة الحرب، أو أن الانسحاب المذلول سيكون هو الفيصل، الجميع ينتظر ويترقب، لكن المؤكد حتى الآن أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن فشلت فشلاً ذريعاً أنهى الحلم الأمريكي الذي صدّع العالم لعقود.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت