بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم وجعل في نفسه القدرة على التفكير والتمييز بين الصواب والخطأ، والسلام والرحمة على النبي الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، كمتابع دقيق للجلسات القانونية المتعلقة بالقضايا المرفوعة ضد الكيان الصهيوني، أتضامن بشكل كامل وأدعم بشكل كبير الشعب الفلسطيني الشجاع الذي يواجه تحديات كبيرة في سعيه إلى تحقيق حقوقه وكرامته.
يأتي هذا التضامن في إطار التفاعل مع الأحداث القانونية الراهنة والمرفوعة أمام المحكمة، حيث يكمن واجبنا كأفراد متحدين تقديم الدعم والمشاركة الفعّالة في هذه الجلسات لضمان تحقيق العدالة وحقوق الإنسان المشروعة، وفي هذا السياق، ارتأيت مشاركتكم معلومات دقيقة ومحدثة حول التطورات القانونية والمستجدات في هذه القضايا.
كما أعبّر عن امتناني العميق لدور جنوب إفريقيا في دعم القضية الفلسطينية والتضامن معها، إذ تجسد هذه المشاركة المستمرة التلاحم العالمي في مواجهة الظلم والاضطهاد، كما وأثمن جهود حكومة جنوب إفريقيا وشعبها في تعزيز قيم العدالة والإنسانية، وأتمنى أن يكون هذا الجهد المتواصل محط إلهام للمزيد من الوعي والتحرك القانوني الدولي لتحقيق السلام والعدالة في المنطقة، ونسأل الله عز وجل أن يكتب النصر والحرية للشعب الفلسطيني العزيز.
البداية:
تم اتخاذ القرار في الطلب القانوني المقدم من دولة جنوب إفريقيا ضد الكيان الصهيوني، حيث تم تقديم الدعوى بغرض ضمان تنفيذ اتفاقية منع الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وبعد المداولة والنظر في المادتين 41 و 48 من النظام الأساسي للمحكمة، والمواد 73 و74 و75 من لائحة المحكمة، قدمت جنوب أفريقيا الطلب في 29 ديسمبر 2023 لتقديم دعوى قضائية ضد الكيان الصهيوني بناءً على الانتهاكات المزعومة في قطاع غزة للالتزامات بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية.
في نهاية الطلب، طلبت جنوب إفريقيا من المحكمة النطق بالآتي:
- التأكيد على واجب كل من جنوب إفريقيا و “إسرائيل” باتخاذ الإجراءات اللازمة للامتثال لالتزاماتهما بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، وذلك فيما يتعلق بأفراد المجموعة الفلسطينية، واتخاذ جميع التدابير المعقولة ضمن سلطتهما لمنع الإبادة الجماعية؛
- إعلان أن “إسرائيل” قد انتهكت وتستمر في انتهاك التزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، بخاصة المادتين الأولى والثالثة، والتوقف عن أي أعمال أو تدابير تنتهك تلك الالتزامات؛
- ضمان أن الأفراد الذين يرتكبون الإبادة الجماعية أو يتآمرون عليها يعاقبون أمام المحكمة الوطنية أو الدولية المختصة، وفقاً لأحكام المواد الأولى والرابعة والخامسة والسادسة؛
- جمع الأدلة وحفظها لمنع تكرار انتهاكات اتفاقية الإبادة الجماعية، وتوفير تعويضات للضحايا الفلسطينيين وتحقيق العدالة؛
- الالتزام بتوقيف العمليات العسكرية “الإسرائيلية” في قطاع غزة؛
- التزام “إسرائيل” بعدم ارتكاب أي أفعال تندرج تحت نطاق المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية؛
- الالتزام بتقديم تأكيدات وضمانات بعدم تكرار انتهاكات اتفاقية الإبادة الجماعية، خاصة المادتين الأولى والثالثة.
من هنا، يجب على الكيان الصهيوني، فيما يتعلق بالفلسطينيين، الامتناع عن اتخاذ جميع التدابير في حدود سلطتها، بما في ذلك إلغاء الأوامر ذات الصلة والقيود و/أو المحظورات لمنع والطرد والتهجير القسري من منازلهم؛ والحرمان من الحصول على الغذاء والماء الكافي؛ الحصول على المساعدة الإنسانية، بما في ذلك الحصول على الوقود الكافي والمأوى والملابس والنظافة الصحية والصرف الصحي؛ والإمدادات والمساعدة الطبية؛ وعدم تدمير الحياة الفلسطينية في غزة.
كما يجب أن يضمن الكينا الصهيوني فيما يتعلق بالفلسطينيين، أن جيشه، وكذلك أي وحدات مسلحة غير نظامية أو أفراد قد يتم توجيههم أو دعمهم أو التأثير عليهم بأي شكل آخر، وكذلك أي منظمات وأشخاص قد يخضعون لسلطته، السيطرة أو التوجيه أو التأثير، لا ترتكب أي أفعال موصوفة في الفقرتين (4) و (5) أعلاه، أو تشارك في التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية، أو التآمر لارتكاب الإبادة الجماعية، أو محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية، أو التواطؤ في الإبادة الجماعية، وبقدر ما وأثناء قيامهم بذلك، يتم اتخاذ الخطوات اللازمة لمعاقبتهم وفقاً للمواد الأولى والثانية والثالثة والرابعة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
كما يجب أن يتخذ الكيان الصهيوني تدابير فعالة لمنع تدمير الأدلة المتعلقة بالادعاءات بارتكاب أفعال ضمن نطاق المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وضمان الحفاظ عليها؛ وتحقيقاً لهذه الغاية، لن يعمل كيان الاحتلال على منع أو تقييد وصول بعثات تقصي الحقائق والتفويضات الدولية والهيئات الأخرى إلى غزة للمساعدة في ضمان الحفاظ على الأدلة المذكورة والاحتفاظ بها.
أيضاً يجب على كيان الاحتلال أن يقدم تقريراً إلى المحكمة عن جميع التدابير المتخذة لتنفيذ هذا الأمر خلال أسبوع واحد، اعتباراً من تاريخ هذا الأمر، وبعد ذلك على فترات منتظمة كما تأمر المحكمة، حتى صدور هذا الأمر، وتصدر المحكمة القرار النهائي في القضية.
ويجب أن يمتنع الكيان الصهيوني عن أي إجراء ويضمن عدم اتخاذ أي إجراء قد يؤدي إلى تفاقم النزاع المعروض على المحكمة أو إطالة أمده أو يجعل حله أكثر صعوبة.
بالتالي، تبدأ المحكمة بتذكير نفسها بالسياق الذي تم تقديمه في هذه القضية في جلستها، في 7 أكتوبر 2023، نفذت حركة حماس مدعومة بفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة هجوماً على الكيان الصهيوني، مما نتج عنه مقتل أكثر من 1200 شخص وإصابة آلاف آخرين واختطاف حوالي 240 شخصاً، حيث يظل العديد منهم محتجزين كرهائن، ورداً على هذا الهجوم، شن الجيش الصهيوني عملية عسكرية واسعة النطاق في غزة، عبر البر والجو والبحر، مما تسبب في خسائر فادحة بين المدنيين، ودمر بنية تحتية مدنية واسعة النطاق، وأدى إلى تشريد الغالبية العظمى من سكان غزة، بالتالي، تدرك المحكمة بشكل كامل حجم المأساة الإنسانية في المنطقة وتعبر عن قلق عميق حيال استمرار فقدان الأرواح والمعاناة الإنسانية.
في هذه القضية، تسعى جنوب إفريقيا إلى تحديد اختصاص المحكمة بناءً على المادة 36(1) من النظام الأساسي للمحكمة والمادة التاسعة من اتفاقية الإبادة الجماعية، ولذلك، يتعين على المحكمة أولاً تحديد ما إذا كانت تلك الأحكام تمنحها اختصاصاً للنظر في القضية، وتمكينها – في حال تحقق الشروط الضرورية الأخرى – من اتخاذ تدابير مؤقتة.
وتنص المادة التاسعة من اتفاقية الإبادة الجماعية على أن المنازعات المتعلقة بتفسير الاتفاقية أو تطبيقها أو تنفيذها يمكن أن تُعرض أمام محكمة العدل الدولية، وفي هذا السياق، هما جنوب إفريقيا و”إسرائيل” طرفان في اتفاقية الإبادة الجماعية، دون أي تحفظات من جانبيهما على المادة التاسعة أو أي حكم آخر في الاتفاقية.
وتشير جنوب أفريقيا إلى وجود خلاف مع الكيان الصهيوني بشأن تفسير، تطبيق، وتنفيذ اتفاقية الإبادة الجماعية، قبل تقديم الطلب، أعربت جنوب أفريقيا بشكل متكرر عن مخاوفها في بيانات عامة وفي المحافل الدولية، من أن تصرفات “إسرائيل” في غزة تشكل إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني.
بالتالي، تقدم جنوب إفريقيا بطلب لتحديد الاختصاص بناءً على مادة 36(1) من النظام الأساسي للمحكمة والمادة التاسعة من اتفاقية الإبادة الجماعية، حيث تشير المادة التاسعة إلى أن المنازعات بين الأطراف المتعاقدة تتعلق بتفسير أو تطبيق أو تنفيذ الاتفاقية، بما في ذلك المسؤولية عن جريمة الإبادة الجماعية، يمكن أن تُعرض أمام محكمة العدل الدولية.
وفيما يتعلق بالأحداث التي جرت في قطاع غزة والتي أسفرت عن وفاة فلسطينيين، وتسببت في إلحاق أذى جسدي وعقلي بالغ للمواطنين هناك، بالإضافة إلى فرض ظروف معيشية تهدف إلى تدميرهم جسدياً، وتهجيرهم قسرياً، تعتبر السلطات جنوب أفريقية أن “إسرائيل” قد فشلت في منع أو معاقبة الأفعال التالية:
الإبادة الجماعية، والتآمر للقيام بها، والتحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية، ومحاولة الإبادة الجماعية، والتواطؤ في الإبادة الجماعية، وهو أمر يعتبر مخالفاً لأحكام المادتين الثالثة والرابعة من اتفاقية الإبادة الجماعية.
رد فعل الكيان:
على الجانب الآخر، يزعم كيان الاحتلال أن سلطات جنوب إفريقيا قد فشلت في تقديم دليل يثبت الولاية القضائية الأولية بموجب المادة التاسعة من اتفاقية الإبادة الجماعية، ويجادل كيان الاحتلال أنه لا يوجد نزاع فعلي بين الطرفين، حيث لم تمنح جنوب أفريقيا “إسرائيل” فرصة معقولة للرد على الاتهامات قبل تقديم الطلب، وتقول “إسرائيل” إن التصريحات العامة التي اتُهمت بها في جنوب أفريقيا، والتي تتعلق بجرائم إبادة جماعية وإحالة الوضع في فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية، لا تكفي لإثبات وجود “معارضة إيجابية” للآراء المعبر عنها، وفقاً لتقدير المحكمة.
كما يشير الكيان الصهيوني إلى محاولاته لفتح حوار مع جنوب أفريقيا لمناقشة القضايا المطروحة، ولكنها تُشير أيضاً إلى تجاهل جنوب أفريقيا لهذه المحاولات (لكن هذا محض هراء وغير صحيح دون الرجوع والتأكد منه)، ومن وجهة نظر “إسرائيل” أن تأكيد جنوب أفريقيا الأحادي الجانب ضدها، دون وجود تفاعل ثنائي بين البلدين قبل تقديم الطلب، لا يكفي لإثبات وجود نزاع وفقاً للمادة التاسعة من اتفاقية الإبادة الجماعية.
أما بالنسبة للأفعال التي اشتكت منها جنوب أفريقيا، ترى “إسرائيل” أنها لا يمكن أن تُصنف ضمن أحكام اتفاقية الإبادة الجماعية، نظراً لعدم إثبات النية المحددة اللازمة لتدمير الشعب الفلسطيني كلياً أو جزئياً، حتى على أساس ظاهري، وتُشير “إسرائيل” إلى إجراءاتها للدفاع عن نفسها في مواجهة هجمات حماس، وتُؤكد على جهودها في تقديم المساعدة الإنسانية وتجنب إلحاق الأذى بالمدنيين.
موقف المحكمة:
تُشير المحكمة إلى ضرورة مراعاة البيانات والوثائق المتبادلة بين الطرفين في تقديرها لوجود نزاع في الوقت الحالي، وتُلقي الضوء على بيانات الطرفين في منظومة متعددة الأطراف وتبادلاتهم لتحديد وجود النزاع، وتجد أن هذا يتطلب اهتماماً خاصاً بتحليل محتوى البيانات والوثائق، وعناوينها المقصودة أو الفعلية.
كما تلاحظ المحكمة أن جنوب أفريقيا قد أدلت ببيانات عامة تعبر عن وجهة نظرها في العديد من المنتديات الدولية، مشيرةً إلى انتهاكات “إسرائيل” لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.
وتتابع المحكمة موقف “إسرائيل” من الاتهامات المتعلقة بالإبادة الجماعية في سياق النزاع في قطاع غزة. وفي هذا السياق، أشارت “إسرائيل” في وثيقة نُشرتها وزارتها الخارجية في 6 ديسمبر 2023 وتم تحديثها لاحقاً ونشرها على موقع الجيش الإسرائيلي في 15 ديسمبر 2023 تحت عنوان “الحرب ضد حماس: الإجابة على أسئلتك الأكثر إلحاحاً” إلى رفضها القاطع لاتهامات الإبادة الجماعية، حيث تعتبر “إسرائيل” هذه الاتهامات خالية من الأساس الواقعي والقانوني، مع وصفها بأنها غير متماسكة وفاحشة من الناحية الأخلاقية.
وبناءً على ذلك، ترى المحكمة أن هناك تضارباً واضحاً بين وجهات نظر الطرفين حول مدى تأثير بعض الأفعال أو حالات التقصير المُزعمة من قبل “إسرائيل” في غزة على انتهاكات التزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، وفي ضوء هذه الجهات المتضاربة، تعتبر المحكمة العناصر المقدمة كافية في هذه المرحلة لإثبات وجود نزاع ظاهري بين الأطراف بخصوص تفسير أو تطبيق أو تنفيذ اتفاقية الإبادة الجماعية.
أما فيما يتعلق بتقدير إمكانية حدوث الأفعال والتقصير المُشتكى منها من قبل مقدم الطلب، وإذا كانت هذه الأفعال قد تندرج ضمن أحكام اتفاقية الإبادة الجماعية، تشير المحكمة إلى أن جنوب أفريقيا تعتبر “إسرائيل” مسؤولة عن ارتكاب أعمال إبادة جماعية في غزة وفشلها في منعها ومعاقبتها، وتزعم جنوب أفريقيا أن “إسرائيل” انتهكت التزاماتها الأخرى بموجب الاتفاقية، بما في ذلك “التآمر لارتكاب الإبادة الجماعية، والتحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية، ومحاولة الإبادة الجماعية، والتواطؤ في الإبادة الجماعية.”
وفي هذه المرحلة من الإجراءات، لا تتوجب على المحكمة التأكيد على حدوث انتهاكات لالتزامات “إسرائيل” بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، ويتعين على المحكمة النظر في الأسس الموضوعية للقضية في مرحلة الدراسة الأولية، وفي إطار إصدار الأمر بشأن طلب الإشارة بتدابير تحفظية، يتعين على المحكمة تقييم ما إذا كانت الأفعال والتقصيرات المُشتكى منها يمكن أن تتداخل مع نطاق الإجراءات التحفظية بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.
بالتالي، استنتجت المحكمة، بناءً على المراجعة الأولية للأمور المطروحة، أنها تمتلك اختصاصاً قضائياً وفقاً للمادة التاسعة من اتفاقية الإبادة الجماعية لدراسة القضية، وبناءً على هذا الاستنتاج، تقر المحكمة بأنها غير قادرة على التجاوب مع طلب “إسرائيل” بشأن حذف القضية من القائمة العامة.
كما لاحظت المحكمة أن المدعى عليه لم يقدم أي اعتراض على موقف المدعي في الدعوى الحالية. يُذكر أنه في القضية المتعلقة بتطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (غامبيا الخامسة، ميانمار)، حيث تم الاستناد أيضاً إلى المادة التاسعة من اتفاقية الإبادة الجماعية، لاحظت المحكمة أن جميع الدول الأطراف في الاتفاقية لديها مصلحة مشتركة في ضمان منع وقمع ومعاقبة الإبادة الجماعية، من خلال الالتزام بالوفاء بالالتزامات الواردة في الاتفاقية.
وتشير هذه المصلحة المشتركة إلى أن الالتزامات المعنية تقع على عاتق أي دولة طرف تجاه جميع الدول الأطراف الأخرى في الاتفاقية ذات الصلة، وتعني المصلحة المشتركة في الامتثال للالتزامات ذات الصلة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية أنه يحق لأي دولة طرف أن تحتج بمسؤولية دولة طرف أخرى عن انتهاك مزعوم لالتزاماتها لكافة الأجزاء، وبناءً على ذلك، وجدت المحكمة أنه يجوز لأي دولة طرف في اتفاقية الإبادة الجماعية أن تحتج بمسؤولية دولة طرف أخرى، بما في ذلك من خلال رفع دعوى أمام المحكمة، بهدف تحديد الفشل المزعوم في الامتثال لالتزاماتها لكافة الأجزاء بموجب الاتفاقية ووضع حد لهذا الفشل (تطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (غامبيا الخامسة، ميانمار)، الاعتراضات الأولية، الحكم، تقارير محكمة العدل الدولية لعام 2022، ص. 516-517، الفقرات 107-108 و 112).
وخلصت المحكمة، بناءً على المراجعة الأولية، إلى أن جنوب أفريقيا تتمتع بالأهلية لإحالة النزاع مع “إسرائيل” المتعلق بالانتهاكات المزعومة لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.
وفي سياق تقديم الحقوق التي تتطلب الحماية والربط الواضح بين هذه الحقوق والتدابير المتخذة، تشير سلطة المحكمة إلى التدابير المؤقتة بموجب المادة 41 من النظام الأساسي، حيث يكمن هدف هذه التدابير في الحفاظ على الحقوق ذات الصلة التي تطالب بها الأطراف في القضية، في انتظار صدور قرار نهائي بشأن الموضوع. وعليه، يجب على المحكمة أن تتخذ هذه التدابير بهدف الحفاظ على الحقوق التي قد تخضع لسيطرة إحدى الأطراف في المستقبل، ونظراً لذلك، لا يُسمح للمحكمة بممارسة هذه السلطة إلا إذا كانت مقتنعة بأن الحقوق التي يؤكدها الطرف الطالب لمثل هذه التدابير هي على الأقل معقولة.
ومع ذلك، في هذه المرحلة من الإجراءات، لا تُطلب من المحكمة اتخاذ قرار نهائي حول ما إذا كانت الحقوق التي يسعى جنوب أفريقيا لحمايتها موجودة أم لا، بل يتوجب عليها فقط أن تقرر ما إذا كانت الحقوق التي تطالب بها جنوب أفريقيا، والتي تسعى لحمايتها، معقولة أم لا، بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تكون هناك صلة وثيقة بين الحقوق التي يتم التمسك بها والتدابير المؤقتة المطلوبة، بما في ذلك ادعاءات الإبادة الجماعية بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
بالتالي، تشير جنوب أفريقيا إلى أنها تسعى أيضاً لحماية حقوق الفلسطينيين في قطاع غزة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية كحقوقها الخاصة، وتشمل حقوق الفلسطينيين في قطاع غزة الحماية من الإبادة الجماعية، ومحاولات الإبادة الجماعية، والتحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية، والتواطؤ في الإبادة الجماعية، والتآمر لارتكاب الإبادة الجماعية، وتحجج جنوب أفريقيا بأن الاتفاقية تحظر تدمير مجموعة أو جزء منها، وترى أن الفلسطينيين في قطاع غزة يتمتعون بالحماية بموجب الاتفاقية كمجموعة وفقاً لتفسير محتمل للاتفاقية، كما وتؤكد جنوب أفريقيا أيضاً أنها تسعى لحماية حقها في ضمان الامتثال لاتفاقية الإبادة الجماعية، وتزعم أن الحقوق المعنية “معقولة على الأقل”، حيث يكون تفسيرها مرتبطاً بتفسير محتمل لاتفاقية الإبادة الجماعية.
كما تعتبر جنوب أفريقيا أن الأدلة المُقدمة أمام المحكمة تظهر بوضوح وبطريقة لا يمكن إنكارها وجود نمط في السلوك والنية ذات الصلة التي تبرر ادعاءً معقولاً بارتكاب أعمال إبادة جماعية، وتُشدد، بشكل خاص، على ارتكاب “إسرائيل” للأفعال التالية بقصد الإبادة الجماعية: القتل، والتسبب في أذى جسدي وعقلي خطير، وإخضاع الجماعة لظروف معيشية تهدف إلى تدميرها الجسدي كلياً أو جزئياً، وفرض تدابير تهدف إلى تدميرها ومنع الولادات داخل المجموعة، كما تعتبر جنوب أفريقيا أن نية الإبادة الجماعية واضحة من خلال الهجوم العسكري “الإسرائيلي” ونمط سلوك “إسرائيل” في غزة، بالإضافة إلى التصريحات الرسمية التي قدمها المسؤولون “الإسرائيليون” بخصوص العملية العسكرية في قطاع غزة، ويُؤكد المدعى العام أيضاً أن “الفشل المتعمد لحكومة “إسرائيل” في إدانة ومنع ومعاقبة هذا التحريض على الإبادة الجماعية يشكل انتهاكاً خطيراً لاتفاقية الإبادة الجماعية.
بالتالي، إن جنوب أفريقيا تؤكد أن أي إعلان من المدعى عليه بتدمير حماس لا يُعفي “إسرائيل” من نية الإبادة الجماعية تجاه كل أو جزء من الشعب الفلسطيني في غزة، حيث تذكر “إسرائيل” بأنه في مرحلة التدابير المؤقتة، يجب على المحكمة أن تثبت معقولية حقوق الأطراف في القضية، ولكن “الإعلان الضمني بأن الحقوق المُطالب بها معقولة ليس كافياً”، ووفقاً للمدعى العام، يجب أيضاً على المحكمة أن تنظر في ادعاءات الوقائع في السياق ذي الصلة، بما في ذلك مسألة الانتهاك المحتمل للحقوق المُطالب بها.
بالنسبة بـ “إسرائيل” تُعلن أن الإطار القانوني المناسب للنزاع في غزة هو القانون الدولي الإنساني وليس اتفاقية الإبادة الجماعية، وترى أنه في حالات حرب المدن، قد تكون الخسائر في صفوف المدنيين نتيجة غير مقصودة للاستخدام المشروع للقوة ضد الأهداف العسكرية، ولا تُشكل أعمال إبادة جماعية (كذبة جديدة)، كما تُؤكد “إسرائيل” أن جنوب أفريقيا قد أساءت عرض الحقائق على الأرض، وتلاحظ أن الجهود التي تُبذل لتخفيف الضرر خلال العمليات وتخفيف المعاناة من خلال الأنشطة الإنسانية في غزة تعمل على تبديد، أو على الأقل، التصدي لأي ادعاء بوجود نية للإبادة الجماعية، ووفقاً للمدعى العليا، فإن تصريحات المسؤولين “الإسرائيليين” التي قدمتها جنوب أفريقيا “مضللة في أحسن الأحوال” و “لا تتفق مع سياسة الحكومة”، كما أشارت “إسرائيل” إلى إعلان المدعى العام الأخير بأن “أي بيان يدعو، في جملة أمور، إلى إلحاق الأذى المتعمد بالمدنيين، قد يرقى إلى مستوى جريمة جنائية، بما في ذلك جريمة التحريض”، وأنه (في الوقت الحالي، يتم فحص العديد من هذه الحالات من قبل سلطات إنفاذ القانون “الإسرائيلية”). ومن وجهة نظر “إسرائيل”، لا تلك التصريحات ولا نمط سلوكها في قطاع غزة يؤدي إلى “استنتاج معقول” عن نية الإبادة الجماعية، على أية حال، تزعم “إسرائيل” أنه بما أن الغرض من التدابير المؤقتة هو الحفاظ على حقوق كلا الطرفين، يجب على المحكمة في هذه القضية النظر في حقوق كل من جنوب أفريقيا و”إسرائيل” وموازنتها، كما تؤكد المدعى عليها أنها تتحمل مسؤولية حماية مواطنيها، بما في ذلك أولئك الذين تم أسرهم واحتجازهم كرهائن نتيجة للهجوم الذي وقع في 7 أكتوبر 2023. ونتيجة لذلك، تدعي أن حقها في الدفاع عن النفس أمر بالغ الأهمية لأي دولة تقييم الوضع الحالي.
وتشير المحكمة إلى أنه وفقاً للمادة الأولى من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، يتعين على جميع الدول الأطراف الذين قطعوا بنودها “منع جريمة الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها”، وفقاً للمادة الثانية تحدد أفعال الإبادة الجماعية وتنص على أنها تشمل:
أ) التسبب في ضرر جسدي أو عقلي خطير لأفراد المجموعة؛
ب) التعمد في فرض ظروف معيشية على المجموعة بهدف تدميرها جسدياً كلياً أو جزئياً؛
ج) فرض تدابير تهدف إلى منع الولادات داخل المجموعة؛
د) نقل أطفال المجموعة قسراً إلى مجموعة أخرى.
بالتالي، يظهر من التحليل القانوني أن الفلسطينيين يشكلون “مجموعة” متميزة من حيث القومية أو العرق أو العنصر أو الدين، وبالتالي يعتبرون مجموعة محمية وفقاً للمادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، ويُلاحظ أن عدد الفلسطينيين في قطاع غزة يتجاوز مليوني نسمة، مما يجعلهم جزءاً كبيراً من المجموعة المحمية.
وتشير المحكمة إلى العملية العسكرية التي نفذتها “إسرائيل” بعد الهجوم في 7 أكتوبر 2023، حيث أسفرت عن سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى، وتدمير منازل بشكل هائل، وتهجير قسري لغالبية السكان، وتسببت في أضرار جسيمة للبنية التحتية المدنية، بالإضافة إلى ذلك، تشير المعلومات إلى أنه تم تسجيل مقتل 25,700 فلسطيني وإصابة أكثر من 63,000، وتدمير أكثر من 360,000 وحدة سكنية أو تضررها جزئياً، وتشريد حوالي 1.7 مليون شخص داخلياً.
بالتالي، تُحيط المحكمة علماً بالبيان الذي أدلى به وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ في 5 يناير 2024، الذي يصف الوضع الإنساني المأساوي في قطاع غزة، حيث تعيش العائلات في العراء، وتتعرض المرافق الطبية لهجمات متكررة، وتنتشر الأمراض المعدية في الملاجئ المكتظة.
وفي ظل هذه الظروف الصعبة، يتعرض الأطفال لانعدام الأمان والحياة اليومية الصعبة، مما يشير إلى وجود تهديدات لوجودهم، كما يشدد البيان على أن غزة أصبحت ببساطة غير صالحة للسكن، والشعب يواجه التهديدات اليومية لوجودهم.
ووفقاً للمادة الثالثة من الاتفاقية، يُحظر أيضاً التآمر لارتكاب الإبادة الجماعية (الفقرة 1)، والتحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية (الفقرة 1)، ومحاولة ارتكاب الإبادة الجماعية (الفقرة)، والتواطؤ في الإبادة الجماعية (الفقرة هـ).
كما تهدف أحكام الاتفاقية إلى حماية أفراد المجموعات المحمية بموجبها، سواء كانوا من الناحية الجنسية أو العرقية أو الدينية، من الإبادة الجماعية أو أي أعمال أخرى معاقب عليها وفقاً للمادة الثالثة. ترى المحكمة أن هناك علاقة بين حقوق أفراد الجماعات المحمية بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والالتزامات الملزمة للدول الأطراف فيها، وحق أي دولة طرفة في المطالبة بالامتثال لها من قبل دولة طرفة أخرى.
المحكمة تُشدد على أن الأفعال التي تقع ضمن نطاق المادة الثانية من الاتفاقية يجب أن يكون القصد منها هو تدمير جزء كبير على الأقل من مجموعة معينة، وهو ما يتطلبه طابع جريمة الإبادة الجماعية.
وفي أعقاب البعثة إلى شمال غزة، قدمت منظمة الصحة العالمية تقريرًا في 21 ديسمبر 2023، أكدت فيه أن 93% من سكان غزة يواجهون أزمة جوع غير مسبوقة، مع ارتفاع مستويات سوء التغذية ونقص الغذاء، حيث يعيش ما لا يقل عن واحدة من كل 4 أسر ظروفاً كارثية، مما يضطرها لبيع ممتلكاتها لتأمين وجبة بسيطة، وأشارت المنظمة إلى “مزيج قاتل من الجوع والمرض” في غزة، وذلك استناداً إلى بيان صادر في 21 ديسمبر 2023.
كما أشار المفوض العام للمحكمة الجنائية الدولية ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، فيليب لازاريني، في بيان صادر في 13 يناير 2024، إلى أن غزة شهدت حروباً مدمرة وهجمات مروعة خلال 100 يوماً، تسببت في مقتل وتشريد الناس. يشير البيان إلى تدهور الوضع الإنساني بشكل كبير، مع نزوح جماعي وتأثيرات سلبية على حياة السكان وظروف اللجوء غير الآدمية.
بالتالي، تُحيط المحكمة علماً بتصريحات مسؤولين “إسرائيليي”، حيث أعلن وزير الدفاع “الإسرائيلي” في 9 أكتوبر 2023 عن فرض “حصار كامل” على مدينة غزة، مع تهديد بحرمانها من الكهرباء والطعام والوقود، مع وعد بتحقيق القضاء على كل شيء، كما صرح رئيس “إسرائيل” في 12 أكتوبر 2023 بأنهم يعملون وفقاً للقانون الدولي، وأن غزة في حالة حرب، مع تأكيد على دفاعهم عن أنفسهم. (تجدد النفاق).
وتتسارع الأحداث وتتفاقم الأزمة الإنسانية في غزة، حيث ينبغي على المحكمة النظر في الوضع بجدية وفقاً للأصول القانونية المعترف بها دولياً، وتُعتبر حماية المنازل جزءاً من الواجبات الوطنية، ويتطلب الدفاع عن الوطن أحياناً المواجهة بحسم، وفي تصريحه في 13 أكتوبر 2023، أعلن يسرائيل كاتس، وزير الطاقة والبنية التحتية “الإسرائيلي” آنذاك، عبر حسابه السابق على منصة التواصل الاجتماعي “تويتر”، عن قرار بمواجهة منظمة حماس وتدميرها، مؤكداً ضرورة مغادرة جميع السكان المدنيين في غزة لتحقيق الانتصار، تشدد التصريحات على حظر توفير أي مورد من مياه أو طاقة للمنطقة حتى يتم انسحاب السكان منها.
وتُلفت المحكمة إلى البيان الصحفي المؤرخ في 16 نوفمبر 2023 الصادر عن 37 مقرراً خاصاً وخبراء مستقلين وأعضاء فرق العمل التابعة للإجراءات الخاصة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الذين عبروا عن قلقهم بشأن “خطابات الإبادة الجماعية واللاإنسانية الواضحة الصادرة عن كبار المسؤولين الحكوميين الإسرائيليين”. كما لوحظ في 27 أكتوبر 2023، بأن لجنة الأمم المتحدة للقضاء على التمييز العنصري أعربت عن “قلق بالغ إزاء الزيادة الحادة في خطاب الكراهية العنصرية وتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم” منذ 7 أكتوبر.
بالتالي، يعتبر التحليل أعلاه مؤشراً على أن بعض الحقوق المطالب بها من قبل جنوب أفريقيا، على الأقل، تمس الحقوق العقلانية، وهذا يتضح بشكل خاص فيما يتعلق بحق الفلسطينيين في غزة في الحماية من أعمال الإبادة الجماعية والأفعال ذات الصلة المحظورة المحددة في المادة الثالثة، وحق جنوب أفريقيا في المطالبة بالامتثال من قبل “إسرائيل” لالتزاماتها بموجب الاتفاقية.
وتتناول المحكمة الآن الارتباط بين الحقوق المعقولة التي يطالب بها جنوب أفريقيا والتدابير المؤقتة المطلوبة.
تعتبر جنوب أفريقيا أن هناك صلة بين الحقوق التي يتعين حمايتها والتدابير المؤقتة المطلوبة، خاصةً مع التأكيد على أن التدابير الستة الأولى تهدف إلى ضمان امتثال “إسرائيل” لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، والتدابير الثلاث الأخيرة تهدف إلى حماية سلامة الإجراءات أمام المحكمة وحق جنوب أفريقيا في الحصول على حقوقها بشكل عادل، من جانبه، يرى الدفاع عن “إسرائيل” أن التدابير المطلوبة تتجاوز الضرورة لحماية الحقوق بناءً على أساس مؤقت، وبالتالي لا تتعلق بالحقوق التي يجب حمايتها، ويشدد الدفاع، بين أمور أخرى، على أن تلك التدابير قد تنتهك السوابق القضائية للمحكمة، وتؤكد المحكمة أن بعض الحقوق، على الأقل، وفقاً لاتفاقية الإبادة الجماعية كما أكدتها جنوب أفريقيا، لها أساس معقول.
كما ترى المحكمة أن بعض التدابير المؤقتة، بحسب طبيعتها، تنطبق على الأقل على أهداف تحافظ على الحقوق المعقولة المؤكدة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، وبالتالي توجد صلة بين الحقوق التي يطالب بها جنوب أفريقيا وبين بعض التدابير المؤقتة المطلوبة، وتحتفظ المحكمة بصلاحيتها، وفقاً للمادة 41 من نظامها الأساسي، بالإشارة إلى التدابير المؤقتة عندما يكون هناك ضرر حقيقي ووشيك للحقوق المعنية لا يمكن إصلاحه قبل صدور القرار النهائي، ولا تهدف المحكمة، فيما يخص قرارها حول طلب الإشارة إلى التدابير المؤقتة، إلى إثبات وجود انتهاكات لالتزامات اتفاقية الإبادة الجماعية، بل تسعى إلى تحديد ما إذا كانت الظروف تتطلب الإشارة إلى تدابير مؤقتة لحماية الحقوق بموجب الصك، وكما هو مشير إليه سابقًا، فإن المحكمة في هذه المرحلة لا تستطيع الوصول إلى استنتاجات نهائية بشأن الوقائع، ويظل لدى كل طرف الحق في تقديم الحجج بشأن الأسس الموضوعية دون تأثير قرار المحكمة حول طلب الإشارة إلى الأسس الموضوعية.
من جانبها، ترى جنوب أفريقيا أن هناك خطراً واضحاً من حدوث ضرر لا يمكن إصلاحه لحقوق الإنسان للفلسطينيين وسكان غزة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، تؤكد على أن المعايير التي لا يمكن إصلاحها تتحقق عندما تتسبب المخاطر في تهديد حياة الإنسان أو الحقوق الأساسية الأخرى، وتبرز الإحصائيات اليومية كدليل واضح على الضرورة الملحة والخطر الوشيك من حدوث ضرر لا يمكن إصلاحه، مشيرة إلى الخسائر اليومية للأرواح والإصابات وتدمير المنازل.
وتضيف جنوب أفريقيا أن عدم التحقق من انتهاكات “إسرائيل” لاتفاقية الإبادة الجماعية سيؤدي إلى خطر خسارة فرصة جمع الأدلة والحفاظ عليها لمرحلة المحكمة، كما تشير إلى أن أي زيادة في وصول المساعدات الإنسانية لن تكون استجابة كافية وتؤكد على أن فرص جمع الأدلة ستتقوض بشكل خطير.
بدورها، تنفي “إسرائيل” وجود خطر حقيقي ووشيك لحدوث ضرر لا يمكن إصلاحه في الوقت الحالي، وتدعي أنها اتخذت وتتخذ تدابير ملموسة لضمان حق المدنيين الفلسطينيين في غزة وتسهيل تقديم المساعدة الإنسانية، وتقدم إحصائيات حديثة حول تحسن الوضع في قطاع غزة بما في ذلك إعادة افتتاح المخابز وتوفير المياه وتوسيع الهيكل التحتي للمياه، وتؤكد أن هناك انخراطاً مستمراً في توفير المساعدة وتحسين الظروف في المنطقة.
تشير المحكمة إلى قرار الجمعية العامة رقم 96 )د1-( في 11 ديسمبر 1946، الذي يُؤكد أن الإبادة الجماعية تمثل إنكاراً لحق الوجود لجماعات بشرية بأكملها، وأن القتل يعد إنكاراً لحق الأفراد في الحياة، كما تؤكد المحكمة أن هذا الحرمان من حق الوجود يتعارض مع القانون الأخلاقي وروح الأمم المتحدة وأهدافها، ويسفر عن خسائر فادحة للبشرية من حيث المساهمات الثقافية والأخرى التي تمثلها هذه المجموعات البشرية.
وتلاحظ المحكمة أن اتفاقية الإبادة الجماعية تم اعتمادها بغرض إنساني وحضاري، حيث يكمن هدفها في الحفاظ على وجود مجموعات بشرية معينة وتأكيد أبسط مبادئ الأخلاق، وتستند المحكمة إلى التقارير الصادرة عن محكمة العدل الدولية والتي أكدت الغرض الإنساني والحضاري لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
من جهة أخرى، ترى المحكمة أن الحقوق المعقولة المعنية في هذه القضية تتمثل في حق الفلسطينيين في قطاع غزة في الحماية من أعمال الإبادة الجماعية والأفعال المحظورة ذات الصلة المحددة في اتفاقية الإبادة الجماعية، وحق جنوب أفريقيا في السعي إلى امتثال “إسرائيل” لالتزامات هذه الأخيرة، تعتبر المحكمة أن أي تدابير قد تؤدي إلى المساس بهذه الحقوق قد تسبب ضرراً لا يمكن إصلاحه.
وتشير المحكمة إلى النداءات المتكررة من كبار المسؤولين في الأمم المتحدة بشأن خطر المزيد من تدهور الأوضاع في قطاع غزة خلال النزاع الحالي، كما تعتبر المحكمة البيانات الواردة في رسائل الأمين العام للأمم المتحدة وتقارير منظمة الصحة العالمية عن الوضع الإنساني في قطاع غزة.
واستناداً إلى الاعتبارات المشار إليها أعلاه، تخلص المحكمة إلى أنه يجب استيفاء الشروط وفقًا لنظامها الأساسي، خاصة فيما يتعلق بتدابير الطوارئ، وعليه، فإنه من الضروري، في انتظار صدور قرارها النهائي، أن تحدد المحكمة تدابير معينة لحماية الحقوق التي تطلبها جنوب أفريقيا والتي رأت المحكمة أنها معقولة، وتشير المحكمة إلى سلطتها، وفقاً لنظامها الأساسي، عند تقديم طلب مؤقت، لاتخاذ تدابير للإشارة إلى التدابير التي قد تختلف، كلياً أو جزئياً، عن تلك المطلوبة. وتنص الفقرة 2 من المادة 75 في لائحة المحكمة على سلطتها في هذا الصدد، وقد استخدمت المحكمة هذه السلطة في الماضي في عدة حالات.
وفيما يتعلق بالوضع الموصوف أعلاه، يتعين على الكيان الصهيوني، بموجب التزاماته بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، واتخاذ جميع التدابير في إطار سلطتها لمنع ارتكاب أفعال تدخل في نطاق المادة الثانية من الاتفاقية، وخاصة:
أ) قتل أفراد المجموعة؛ ب) التسبب في ضرر جسدي أو عقلي خطير لأفراد المجموعة؛ ج) فرض ظروف معيشية تهدف إلى تدمير المجموعة الجسدية كلياً أو جزئياً؛ د) فرض تدابير تهدف إلى منع الولادات داخل المجموعة، وتشير المحكمة إلى أن هذه الأفعال تقع ضمن نطاق المادة الثانية عندما ترتكب بقصد التدمير الكلي أو الجزئي للمجموعة.
أيضاً، المحكمة ترى أنه يتعين على “إسرائيل” ضمان عدم ارتكاب قواتها العسكرية لأي من الأفعال المذكورة أعلاه، كما تقتضي المحكمة من “إسرائيل” اتخاذ جميع التدابير اللازمة لمنع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية ضد أفراد المجموعة الفلسطينية في قطاع غزة.
وتشدد المحكمة على ضرورة أن تتخذ “إسرائيل” تدابير فورية وفعالة لتوفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية اللازمة لمعالجة الظروف المعيشية الصعبة التي يواجهها الفلسطينيون في قطاع غزة.
وفيما يتعلق بالإجراء المؤقت الذي طلبته جنوب أفريقيا، تشير المحكمة إلى أن لديها السلطة لطلب من الأطراف تقديم تقرير بشأن جميع التدابير المتخذة لتنفيذ الأمر، وتحدد المحكمة مهلة زمنية لتقديم التقرير، تليها فترة لتقديم تعليقات من الطرف الآخر، والمحكمة تؤكد أن القرار الصادر في هذه الدعوى لا يشكل حكماً مسبقاً بشأن اختصاصها في النظر في موضوع الدعوى أو أي أسئلة تتعلق بمقبولية الطلب أو في موضوع الدعوى نفسها، وهو لا يؤثر على حق الحكومتين المعنيتين بتقديم حججهما بشأن هذه المسائل.
كما أن المحكمة تشدد على ضرورة التأكيد على التزام جميع أطراف النزاع في قطاع غزة بالقانون الإنساني الدولي، وتعبر عن قلقها بشأن مصير الرهائن الذين اختطفوا خلال الهجوم في “إسرائيل” في أكتوبر 2023، وتطالب بإطلاق سراحهم دون قيد أو شرط.
ونظراً للأسباب المذكورة، تحدد المحكمة الإجراءات المؤقتة التالية:
بأكثرية الأصوات، خمسة عشر صوتاً مقابل اثنين، يتعين على “إسرائيل”، وفقاً لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية، اتخاذ جميع التدابير التي تستطيع لمنع ارتكاب الأفعال المشمولة من هذه الاتفاقية، وتحديداً:
أ. قتل أفراد المجموعة.
ب. التسبب في الضرر الجسدي أو العقلي لأفراد المجموعة.
ج. فرض ظروف حياة على المجموعة بقصد تدميرها جسديًا كليًا أو جزئيًا.
د. فرض تدابير لمنع الولادات داخل المجموعة.
وقد وافق على هذا القرار خمسة عشر عضواً من أعضاء المحكمة، واعترضت عليه القاضية سيبوتنيد والقاضي “الإسرائيلي” المؤقت باراك.
وبأكثرية الأصوات، خمسة عشر صوتاً مقابل صوتين، يتعين على إسرائيل فورًا عدم ارتكاب قواتها المسلحة لأي من الأفعال المشمولة في البند 1 أعلاه. وقد اعترضت على هذا القرار القاضية سيبوتنيد والقاضي المؤقت باراك.
وبأكثرية الأصوات، ستة عشر صوتاً واعتراض واحد، يتعين على “إسرائيل” اتخاذ جميع التدابير ضمن سلطتها لمنع ومعاقبة الحث العلني على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد أفراد المجموعة الفلسطينية في قطاع غزة، وقد وافق على هذا القرار القاضي المؤقت باراك واعترضت عليه القاضية سيبوتنيد.
وبأكثرية الأصوات، ستة عشر صوتاً واعتراض واحد، يتعين على “إسرائيل” اتخاذ تدابير فورية وفعالة لتوفير الخدمات الأساسية والمعونة الإنسانية التي تعتبر ضرورية للتعامل مع الظروف الحياتية الصعبة التي يواجهها الفلسطينيون في قطاع غزة، وقد اعترضت على هذا القرار القاضية سيبوتنيد.
وبأكثرية الأصوات، خمسة عشر صوتاً مقابل اثنين، يتعين على “إسرائيل” اتخاذ تدابير فعالة لمنع تدمير الدليل المتعلق بادعاءات الأفعال المشمولة في اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية ضد أفراد المجموعة الفلسطينية في قطاع غزة وضمان الحفاظ على هذا الدليل، ولم يوافق على هذا القرار القاضية سبوتنيد والقاضي المؤقت باراك.
كما ستقدم “إسرائيل” تقريراً للمحكمة حول جميع التدابير التي اتخذتها لتنفيذ هذا الأمر خلال شهر من تاريخ الأمر.
وفي ختام هذه التوجيهات القانونية والتفاعل مع قضايا الشعب الفلسطيني، نستشير مدى أهمية المحاكمة الجارية في إلقاء الضوء على معاناة هذا الشعب الصابر، الذي يعاني من انتهاكات حقوقه وظلم مستمر، هنا يتجلى دورنا كقانونيين في تقديم الدعم القانوني والمشاركة الفعّالة في هذه القضايا، لضمان تحقيق العدالة والإنصاف، وفي ظل استمرار التحديات التي يواجهها الشعب الفلسطيني، يأتي تفعيل القانون كوسيلة فعّالة للدفاع عن حقوق الإنسان وتحقيق العدالة، حيث يتعين علينا جميعاً أن نستلهم من تجربة جنوب إفريقيا، حيث نجح التضامن العالمي والجهود القانونية في التغلب على الظلم وإقامة نظام عادل.
لذا، يتوجب علينا أن نحذو حذو جنوب إفريقيا ونعزز التوعية القانونية والمشاركة الفعّالة في سبيل تعزيز حقوق الإنسان وتحقيق العدالة للشعوب المظلومة، ويكمن في تكاتفنا كمحامين وقانونيين دور فعّال في تعزيز العدالة والسلام، ونطمح بأن تكون هذه المحاكمة نقطة تحول نحو إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني وتحقيق حقوقه المشروعة.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ مستشار قانوني – الكويت