في ظلِّ معطيات طوفان الأقصى وأحداث غزَّة، واستمرار إجرام الاحتلال الإسرائيلي على غزَّة وأهلِها، وما أفصحت عَنْه هذه الحرب من وحشيَّة العدوان ونفوق كُلِّ القِيَم والمبادئ والأخلاقيَّات والأعراف الإنسانيَّة والدوليَّة، وتواطؤ الإدارة الأميركيَّة في تشريع القتل والإجرام والتنكيل والظلم والتدمير والقصف وقتل الأطفال والنِّساء والصغار والكبار، لتقدِّمَ هذه الأحداث دروسًا متباينة الأثر متقاطعة النتائج، بَيْنَ الإيمان والعقيدة والشرك والكفر. ففي الأولى وهنا نتحدَّث عن مُجتمع عزَّة المُسلِم وكيف تجلَّى التَّحصين الإيماني والقِيَمي والأخلاقي للناشئة في المحافظة على الثوابت والمبادئ والقِيَم والأخلاق والانتصار للإرادة الوطنيَّة والأخلاقيَّة والدينيَّة، وفي الثانية ويُمثِّلها سلوك الاحتلال الصهيوني وعدوانه الغاشم على غزَّة، كيف تؤدِّي التنشئة القائمة على الكراهية والفردانيَّة والسلطويَّة والبراجماتيَّة والنفعيَّة والساديَّة إلى تكوين بَشَر أقرب إلى الوحوش لا يعرفون للفضيلة والأخلاق قِيمة ولا يرعون للمشتركات والإنسانيَّة في قاموسهم الشَّخصي أيَّة حضور، لِتنسجَ هذه الأحداث خيوطًا واضحة وحقائق ماثلة ستكُونُ دروسًا وعِبرًا للتأريخ والبَشَريَّة جمعاء، وهي أنَّ التربية السليمة القائمة على الأخلاق والمبادئ والإنسانيَّة هي القادرة على البقاء والاستمراريَّة والانتشار وضمان الاستدامة والثبات وعدم التراجع؛ لأنَّها معنيَّة ببناء الناشئة على الأخلاق والفضيلة والإنسانيَّة والاحترام وتقدير الآخرين والعيش في ظلِّ معطيات الكون، معنيَّة بتكوين الإنسان القادر على أن يعبدَ الله مخلصًا له الدِّين، وأن يعيشَ في عالَم كوني يحتاج فيه إلى الآخر، فإنَّ تأصيل هذه المبادئ القائمة على الأخوَّة والمشتركات والتعايش والتسامح هي القادرة على ضمان امتلاك الناشئة مُقوِّمات الدِّفاع عن الأوطان والمحافظة على حقوق الإنسان واحترام إنسانيَّته وموقعه مهما كانت الظروف وفي كُلِّ الأحوال، في حين أنَّ التنشئة الأخرى القائمة على التنمُّر والكراهية واحتقار النَّوْع الآخر وعدم الاعتراف به وفرض لُغة الواقع بقوَّة السِّلاح والمال حبلها قصير واستمراريَّتها ضئيلة، وقدرتها على البقاء ضئيلة رغم توفر أدوات الفتك والقتل والسِّلاح والقوَّة الماديَّة؛ لِمَا تستبيحه من الإجرام والقتل والتدمير وقتل الأبرياء والضعفاء والاغتيالات، وهو ما تعكسه العقيدة الصهيونيَّة والأميركيَّة القائمة على سفك الدِّماء ولُغة الإبادة الجماعيَّة ونهب الثروات.
لقَدْ أثبت أبناء غزَّة في صبرهم وإيمانهم وتحمُّلهم للأذى، وجرائم القتل والإبادة الَّتي يمارسها العدوان الصهيوني الأميركي على بلادهم، ثباتهم على عقيدتهم الإيمانيَّة ومبادئهم الصلبة وثوابتهم الوطنيَّة وأخلاقهم الرفيعة، بل ضربوا أروع الأمثلة والنماذج الحيَّة في إدارتهم لهذه المعركة، وأعطى طوفان الأقصى صورة نموذجيَّة متكاملة لأخلاق المؤمنين المرابطين في سبيل الله في غزَّة العزَّة من كتائب القسَّام وسرايا القدس وغيرها من جماعات المقاومة الإسلاميَّة في غزَّة وفلسطين في تعاملهم مع الأسرى والرهائن في المعارك الدَّائرة في غزَّة، ولَمْ ينَلْ من أخلاقهم وقِيَمهم ومبادئهم الإيمانيَّة في التَّعاطي مع الأسرى والرهائن، الإجرام الصهيوني القذر فالَّذي يتعامل به مع الأسرى الفلسطينيِّين من المَدَنيِّين في صورة الوحشيَّة والتعذيب والتنكيل والقتل الجماعي الَّذي يمارسه الصهاينة، ولَمْ تؤثِّر في التزامهم مبادئ الدِّين العظيم وثباتهم على مِنْهج الحقِّ قَيْد أنملة، جرائم الكيان الصهيوني وأياديه العفنة الَّتي تسبَّبت في إزهاق الأرواح ودماء الأبرياء من الأطفال والنِّساء؛ بل لقَدْ كانوا أبسل النَّاس وأشجعهم وأعظمهم إيمانًا في تحمُّل هذا الإجرام الوحشي من قِبل الاحتلال الصهيوني والعدوان الأميركي، إنَّهم يسجِّلون بذلك ملحمةً إيمانيَّة وحقيقةً تاريخيَّة يحفظها التَّاريخ ويسجِّلها بأحرُفٍ من نور، حقيقة يجِبُ أن يدركَها العالَم أجمع أنَّ البناء الفكري الرَّصين للناشئة وتحصينهم من الانزلاق والانحراف وغرس مفهوم المواطنة وحُب الوطن والإيمان بمبادئه، وغرس روح القِيَم ومرتكزاتها في حياة الأجيال وتنشئتهم على مبادئ الدِّين وهدي القرآن الكريم وقِيَم التضحية والفداء والوفاء والإخلاص والمسؤوليَّة والإنسانيَّة والحقِّ والعدْل، هو الطريق لتحقيق الانتصار المؤزَّر تحقيقًا لوعدِ الله لعباده المؤمنين بالنَّصر والتأييد والتمكين والغلَبة. ولمَّا كانت التحدِّيات الفكريَّة بما فيها من انحراف فكري وضلال عقدي وغوغائيَّة في التفكير واستسلام وخنوع وخضوع وسلبيَّة، أشدَّ فتكًا بالمُجتمعات واستقرار الأوطان لِمَا تُشكِّله من تهديد لجوهر القِيَم والقناعات والمبادئ والثوابت والمرتكزات، وتُسهم فيه من خلق التناقضات في شعور الفرد بثوابته واستصغار التزامه بقِيَمه ومبادئه، لتؤصِّلَ في فِكر النَّاشئة الأفكار الهشَّة، والممارسات المزدوجة، والقرارات المغتصبة، والمفاهيم المغلوطة، الدَّاعية إلى سلبيَّة الفكر ونمطيَّة التفكير ونُمو سلوك التكفير والتضليل والتعصب للرأي وغسل عقول الشَّباب بأوهام وخيالات وأفكار معقَّدة، وشعارات مظلِّلة، وأهداف شخصيَّة مغرضة، وتصوير الدِّين لَهُمْ في صوَر هشَّة أقرب ما تكُونُ إلى مُتع زائلة، وخيالات وأوهام وأضغاث أحلام، لِترسِّخَ في فِكر الشَّباب، أنَّ السَّاكت عن الحقِّ شيطان أخرس، حتَّى وإن ضاعت بسبب حُمقه واندفاعه وتهوُّره أُمَم، واندثرت قِيَم، وتدهوَرت حياة البَشَر، وتغرَّبت القِيَم، ومُحيت آثار الشعوب وهُوِيَّة الحضارات، وانتقصت من قِيمة الحياة فقتلت الأبرياء والأطفال، كما أصبح الافتراء وحجب الحقائق وتشويه صورة الواقع جائزة والإشاعة متداولة، والسَّب والشَّتم في حقِّ الأوطان عادةً، فيزيّن للفرد أنَّ السَّلام مع العدوِّ المحتلِّ والتَّعايش معه هو طريق الاستقلال والحُرِّيَّة والعدالة ـ رغم ما يثبته التاريخ ويؤكِّده القرآن الكريم عبَث اليهود وجرائمهم وقتلهم رسل الله وأنبياءه وغدرهم وخيانتهم ـ.
إنَّ التَّحصين الفِكري والبِناء الواعي المتوازن والرَّصين للنَّاشئة، في ظلِّ الحرب على غزَّة يتجسَّد اليوم في إنسانيَّته وأخلاقه وارتفاعه وارتقائه وصحوته ونموذجيَّته في رسم صورة مضيئة لأحرار العالَم في الخروج من أغلال الاستعمال والاستعباد والهيمنة والغطرسة الصهيونيَّة والامبرياليَّة الأميركيَّة بما تجرُّه من ويلات ودمار على الشعوب المستهينة بالحقوق ودعوتها للانسلاخ من قضيَّتها العقديَّة والفِكريَّة والدينيَّة والإنسانيَّة والمصيريَّة ألا وهو المسجد الأقصى والقدس الشريف وأرض فلسطين العروبة والإباء؛ وتبقى أحداث طوفان الأقصى دروسًا للتأريخ أفصَحت عن حقائق وثوابت حاولت لقاءات التطبيع مع العدوِّ الصهيوني أن تنسيَها لأجيال العالَم وشعوبه الحُرَّة، ونماذج لصناعة الإنسان الحُرِّ الشريف في زمن التَّصهين والتطبيع، في تأكيد الإيمان بالمبادئ والثوابت، فما أُخذ بالقوَّة لا يستردُّ إلَّا بالقوَّة، لِتتجلَّى في ظلِّ هذه التربية الإيمانيَّة لأبناء غزَّة روح التحوُّل وشموخ التحرير الَّتي صنعتها تضحياتهم وبطولاتهم ودمائهم الزاكية وأنوارهم السَّاطعة؛ إنَّها موجِّهات تقوم على عقيدة النِّضال والمقاومة للعدوِّ المحتلِّ، مرتكزات أساسيَّة في الحصول على الحقوق والدِّفاع عن الأرض والشَّرف والعزَّة والكرامة، والإيمان بأنَّ استحقاق السِّلم والاستقلال ودحر الاحتلال واستنهاض الروح النضاليَّة العالية في النَّفْس والمنال والولد، والجهاد والدِّفاع عن النَّفْس والوطن؛ الطريق الصحيح للانتصار والغلَبة والقوَّة والاستقلاليَّة وهو المؤصِّل للحقوق، ولثقافة الأمن والاطمئنان، فإنَّ ما يحصل من تشويهٍ لصورةِ الإسلام وأهلِه، ومحاولة إلصاقِ التُّهم لَهُمْ في الكثير من الأحداث، واقع يُثبت لأكثر من مرَّة أنَّ البِناء الفكري الَّذي يعيشه الإنسان في بعض دوَل العالَم وحالة الشَّحن المستمرَّة لَهُمْ في مناهج التعليم وأساليبه وعَبْرَ الإعلام ومراكز البحث وغيرها، أسَّست لمزيدٍ من الصراعات، وأتاحت لحالة الشَّحن الفكري والعقدي والأيديولوجي المستمرَّة والموجَّهة لإيذاء الإنسان الفلسطيني وأهلِ غزَّة تحديدًا، وانتهاك حقوقه والسيطرة على موارده واستنزاف ثرواته وسلْبِ حقِّه في الاستمتاع بها، وجرائم القتل والتجويع والتشريد والحصار والدَّمار والقصف للملاجئ والمُخيَّمات الَّتي يأوي إليها النازحون من أوطانهم بسبب الحروب والفِتن والقصف مع افتقارها لأبسط مُقوِّمات العيش والحياة والأمن، بما يبرزه ذلك من أثر التنشئة السلبيَّة والأيديولوجيَّة الَّتي يمارسها الأميركان والغرب ضدَّ شعوب العالَم الثالث والشَّعب العربي الفلسطيني الَّذي يناضل من أجْل الحصول على أبسط الحقوق له منذ أكثر من سبعة عقود، وما زال كُلُّ يوم يتعرَّض للقتل والقصف والإبادة والتنكيل دُونَ أن تشفعَ له قرارات مجلس الأمن والمنظَّمات الدوليَّة التَّابعة للأُمم المُتَّحدة في الحصول على هذه الحقوق.
لقَدْ أعاد طوفان الأقصى إنتاج القضيَّة الفلسطينيَّة من جديد وفق ثوابت جديدة ومعطيات نوعيَّة أثبتَتْ للعالَم أجمع بأنَّ فلسطين ما زالت قضيَّة الإنسانيَّة والأخلاق والوطن والشرفاء والعالَم الحُر، وهي قضيَّة أصيلة لا تؤثِّر فيها الرِّياح العاتية ولا تزعزعها موجات التغريب والتطبيع، وعزَّزت الأحداث الَّتي تبعت هذا الطوفان العظيم من الوعي العربي والإقليمي والعالَمي بالقضيَّة الفلسطينيَّة، وتعاملت معها بجديَّة على أنَّها قضيَّة الأُمَّة المصيريَّة الَّتي لا يجِبُ المساومة فيها أو محاولة إقصائها بمفاهيم وأفكار السِّياسة الضَّحلة في طاولات العلاقات والسِّياسات الخارجيَّة واتفاقيَّات السَّلام الَّتي لَمْ تُناسب عقليَّة العنصريَّة الصهيونيَّة والامبرياليَّة الأميركيَّة في سفك الدِّماء والقتل والتخريب والتدمير وفرض سُلطة الأمْرِ الواقع ونهب الثروات، وكشفت في المقابل حجم من انجرُّوا وراء صيحات التَّصهين من كتَّاب ومفكِّرين وسياسيِّين وأساتذة جامعات وغيرهم، لِتثبتَ أنَّ الصورة المشوَّهة الَّتي قدَّمها هؤلاء جميعًا وغيرهم وفق سياسات الإعلام المسيَّس وقنواته الموَجَّهة من قِبل الموساد الإسرائيلي والاستخبارات الأميركيَّة وغيرها حَوْلَ الإسلام السِّياسي وجماعات المقاومة في فلسطين وخارجها، وفرض لُغة التطبيع والتعايش بأنَّها الحلُّ الأمثل لعودة فلسطين إلى أصحابها، ما هي إلَّا سموم خبيثة وجراثيم خطرة لتمريرِ المشروع الصهيوني الأميركي، فلقَدْ غرَّر هؤلاء الكثير من أبناء هذه الأُمَّة ممَّن لَمْ ينالوا حظًّا من التَّحصين الإيماني والبِناء الفِكري النَّابع من روح العقيدة والشريعة وهدي القرآن الكريم وسِيرة النَّبي العظيم عَلَيْه أفضل الصَّلاة وأزكى التَّسليم.
أخيرًا، أعطت غزَّة العزَّة دروسًا مُبْهرة للعالَم أجمع في صمود هذا الشَّعب الأبي وما يقدِّمه كُلَّ يوم من تضحيات في مواجهة الغطرسة اليهوديَّة الصهيونيَّة والأميركيَّة والسقوط الأخلاقي الدولي في تشريع جرائم الاحتلال، وما يثبته إيمان هذا الشَّعب المناضل رغم الحصار والتجويع والتشريد وآلة الإبادة والإجرام في حقِّه، من انتصارات لإنسانيَّة الإنسان وحُب الأرض والوطن وفلسطين العربيَّة الأبيَّة.
د.رجب بن علي العويسي