في رحلة عبر صفحات التاريخ، نحيا مع شخصيات تركت بصمة في مسارات الزمان، تأسرنا بوقوفها البارز ومواقفها المميزة، تتجلى تلك الشخصيات في أضواء السير الذاتية والأعمال الفلسفية، حيث ينبض كل كلمة بروحها وتركيبتها الفكرية، ومن بين هؤلاء الشخصيات العظيمة التي تلقت تأثيراً عميقاً على مسار الفكر الإسلامي، نجد العلامة ابن حزم، الذي يحتل مكانة مميزة في تاريخ الفكر الإسلامي.
ولكن هذه المحاولة الأدبية لا تهدف إلى تبني شخصية ابن حزم، بل إلى تسليط الضوء على شخصية إسلامية تاريخية، تنطوي على عمق فكري وتراثي يعبر عن تجارب وآفاق إنسانية تتلاقى مع الزمان والمكان، إنها محاولة لإلقاء نظرة جديدة على تلك الشخصية، لاستخراج دروس وتعاليم تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتلهمنا لفهم أعمق لتاريخنا وثقافتنا الإسلامية.
في العصور الوسطى في الغرب الإسلامي، وتحديداً في القرن العاشر الميلادي، تمتاز المجتمعات الأندلسية بقوة دولية واستمرارية طويلة الأمد، وذلك بفضل دعم قوي من قبل شبكة متينة من العلماء والمتخصصين في التعليم الديني، ولا سيما في علوم الفقه، شكّلت الذاكرة الجماعية التي أنشأها هؤلاء المتخصصون استمرارية في المعرفة الدينية، بدءاً من زمن وصول الإسلام إلى شبه الجزيرة الإيبيرية في القرن الثامن الميلادي وصولاً إلى عصرهم، تمثلت هذه الاستمرارية في طريقة إدارة علم الوحي والتراث النبوي كوسيلة لضمان النجاة في الدنيا والآخرة، لكل من الحاكم والمحكوم، من خلال توجيههم نحو الطريق المستقيم في الحياة الدنيوية والسعي إلى النجاة الأبدية.
تجسّد هذا الدور الريادي لعلماء الدين في بناء دولة مستقرة وطويلة الأمد، حيث كان لهم تأثير عميق على الحياة السياسية والاجتماعية في المنطقة، ومن خلال توجيه الأفراد والمجتمعات نحو القيم الدينية وتعزيز العدل والمساواة، ساهم هؤلاء العلماء في تحقيق استقرار المجتمع وتعزيز الهوية الإسلامية.
وعلى الرغم من التشكيلات السياسية المتنوعة والديناميات المعقدة في العالم الإسلامي الغربي، فإن دور العلماء والفقهاء استمر بتحملهم مسؤولياتهم في إرشاد المجتمع وتعزيز القيم الدينية، مما أسهم في بناء حضارة إسلامية فريدة في ذلك الزمان والمكان.
ابن حزم، العالم الأندلسي البارع، يعتبر من بين أبرز الشخصيات الأدبية والفكرية في تاريخ الأندلس الإسلامية، حيث لمعت شمس إبداعه في عدة ميادين علمية وأدبية، ومن بين تلك الأعمال الرائعة التي تألق في كتابتها، “طوق الحمامة”، الرسالة الشهيرة في فن الحب والعشق، التي أبهرت العقول وأذهلت القلوب بمعالمها الفكرية والروحانية العميقة.
ولكن، إبداع ابن حزم لم يقتصر فقط على هذا العمل المميز، بل امتدت أصابع نجاحه إلى عدة ميادين أخرى من العلوم والآداب، فقد ألف كتباً تغطي مجموعة واسعة من المواضيع، بدءاً من الفقه وعلوم القرآن والسنة النبوية، وصولاً إلى التاريخ والأنساب والأخلاق والفلسفة والشعر، وغير ذلك الكثير من الأعمال الرائعة التي تحمل بصمة عبقرية وتأثيراً لا يُنكر.
ولد ابن حزم في الأندلس، بين جنبات أسرة تنسجم جذورها مع السلالة الأموية، وتتشابك معها بروابط من العراقة والولاء، ورغم أن تحول أسلافه إلى الإسلام جاء بعد الفتح الإسلامي لإسبانيا في القرن الثامن، إلا أنهم لم يتخلوا عن هويتهم، بل عمدوا إلى إظهار انتماءهم بالأصول الفارسية، مما جعل علاقتهم بالأمويين تتجاوز حدود الزمان والمكان، ومن خلال هذا الارتباط العميق، سعت عائلة بني حزم إلى تأكيد مكانتها وتفردها في خريطة السلطة والتأثير، فكانت مسألة الأسبقية تحتل مساحة كبيرة في حساباتهم، حيث سعوا إلى تسليط الضوء على أهمية وجودهم ودورهم المحوري في سيرة الممالك والحكماء.
من سطور تاريخه وجذور عائلته، يتألق ابن حزم كشاهد وشهيد على وفاءه لشرعية الأمويين، فهو، بلا شك، يعتبرهم ملوكاً شرعيين، وهو يحمل راية دعمهم ومقاومتهم بكل قوة وإصرار، وفي زمن الاضطرابات والمحن التي شهدت إلغاء الخلافة الأموية في قرطبة، كان ابن حزم يقف شامخاً وثابتاً على مواقفه السياسية، متمسكاً بالعقيدة السنية والإيديولوجية، فقد تمكن الحاكم المنزور، الذي كان عربياً جنوبياً، من تأكيد سلطته وتوسيع نفوذه، باستناده إلى شبكة من العبيد الصقالبة والجيوش البربرية، ومع ذلك، لم يفقد ابن حزم ثقته ودعمه للأمويين، حتى بعد وفاة المظفر، حيث شهدت الأندلس فترةً طويلةً من الحروب الأهلية، وظهور سلاطين جدد وانتقال السلطة من يد إلى يد، مما أضاف بُعداً جديداً لمسار التاريخ.
في الأثناء، انقسمت شبه الجزيرة الأيبيرية إلى عوالم متنوعة ومستقلة، مخلفة وراءها مساحات من الخلجان والهوامش لممالك الطوائف، بينما تقمص بعضها الولاء الشكلي للأمويين، اختار آخرون الانضمام لصفوف الإمام عبد الله، أمير المؤمنين، وهذا اللقب الغامض الذي يشير إلى الخلافة العباسية دون تحديد، وفي هذه المحنة، ظل ابن حزم كالجبل الصامد، متمسكاً بالأمويين، حتى بعد فقدان الأمل في عودتهم إلى العرش، ارتكزت مبادئه على المذهب الشرعي الظاهر، الذي بات رمزاً للصمود في وجه النضال السياسي، ومن هنا، أسس لنفسه رؤية قانونية شاملة، تعتمد على القواعد الشرعية، محاولاً إقامة مدرسة قانونية جديدة تكون بديلاً للتي كانت مسيطرة في الأندلس من قبل.
كانت المدرسة الأخيرة، المعروفة بالمالكية، كالنجم الساطع ينبعث من غيوم التاريخ، متلألئاً ببريق الشرعية والتأصيل الديني، تلك الفترة الزمنية، التي حملت بين طياتها عبق التاريخ ورحلة الإيمان، كانت تتوسط أروقة المدينة المنورة، قلب الإسلام وموطن النبوة. فالمالكية، برفقتها الخضراء، كانت تنعم بتأييد الأمويين في قرطبة، حيث اعتبرها حكامهم مدرسة رسمية، تمسكت بخيوط السنة النبوية كسند لشرعيتها وتأييد لسلطتها، وبهذا الارتباط الوثيق بين المذهب المالكي ومدينة الرسول، فتحت أبواب الاستقلالية أمام الأمويين في قرطبة، رافعين راية التميز عن خلافة العباسيين في بغداد، التي كانت تتبنى المذهب الحنفي، متأثرة بالبيئة العراقية، وفي قلب هذا الاختيار الحكيم، سمحت المالكية للأمويين بالاحتجاج بأنهم ورثة التوجيه النبوي، في وجه منافسة الفاطميين، الذين كانوا ينادون بشعار الإسلام الشيعي، وهكذا، تماشت المالكية مع سفينة الحكم الأموي في الأندلس، تعززت شرعيتها الدينية بمساهمتها الجليلة.
ولنتذكر أن مسيرة ابن حزم نحو عالم الدين بدأت في مرحلة متأخرة نسبياً من حياته، كان ذلك في أواخر شبابه حين ولد عام 394 هـ الموافق لعام 994 م، يحكي لنا القدر أنه وقتما كان يحضر جنازة صديق والده في قرطبة، وجد نفسه محتاراً بخصوص كيفية أداء صلاة الجنازة بالشكل الصحيح، هذه اللحظة الحاسمة دفعته للانغماس في دراسة الفقه، فبعد ثلاث سنوات فقط من الدراسة مع العالم المالكي ابن دحون، تمكن من التألق في المناظرات الدينية وتبلور مفاهيمه في هذا المجال، ورغم أنه تأخر في الانضمام إلى مذهب المالكية، ربما بسبب تأخره في دراسته له، لكنه لم يتردد في الانتقال إلى مسلك الطاهرية بعد عشر سنوات من ذلك، والتي تمحورت حوله أفكاره أثناء فترة إقامته الدينية التي تبعت.
تُعد مسيرة ابن حزم في عالم العلم والسياسة بديلاً مختلفاً، حيث بدأت بتلقيه لتعليمه في البلاط الأموي العامري، كانت الرؤية الباهرة لمستقبله تلوح في الأفق، مشيرة إلى أنه سيسلك طريقاً مهنياً يشبه تماماً مسار والده، الذي كان وزيراً للمنصور وأبنائه، وكما لو أنه تم تقديمه للعمل في البلاط منذ طفولته، فقد كانت ثقافته مغمورة بالشعر والأدب وعلوم الأنساب والتاريخ، بينما كان التركيز على التعليم الديني محدوداً للغاية. تألق ابن حزم في هذه العلوم الدنيوية والإنسانية التي تم تطويرها في فترة شبابه، ولكن حياته وحياة عائلته تعطلت بشكل كبير بسبب الأحداث السياسية المضطربة، وخاصة بعد وفاة ابن المنزور المظفر، وصعود أخيه سانشويلو، وخلع هشام الثاني، وتولي محمد المهدي الخلافة، تعرض والده للاضطهاد والسجن على يد الجنرال السلافي واضح، وتوفي خلال انتفاضة فاشلة، فقد تركت هذه الأحداث عائلة بنو حزم بدون منزل، وأجبرت الشاب ابن حزم على الفرار من قرطبة، لمدة تقارب العشرين عاماً، تجول ابن حزم في أروقة السلطة العامرية، وكثير منهم كانوا عبيداً سابقين أو صقالبة، وقد سعوا لاستعادة نظام المنزور أو بناء تحالفات جديدة، اضطر إلى الفرار مرة أخرى واضطراراً إلى العيش في الحصن، ثم انضم إلى جهود حفيد عبد الرحمن الثالث لاستعادة عرش أسلافه، ومن هناك، انطلق في رحلة محفوفة بالمخاطر والتحديات، تنقل بين المدن والممالك، وانتهت بمشاركته في العديد من المعارك والمآسي، واستمرت حتى وفاته.
انتهت مسيرة ابن حزم السياسية بانقلاب المعتضد، فغادر مسقط رأسه مرة أخرى، متجولًا في أرجاء الأندلس بحثاً عن لقمة عيشه، أمضى الأيام يتفاعل مع الثقافات والأفكار المتنوعة التي تعج بها البلاد، مع التركيز على الدراسة وكتابة مؤلفاته التي اتسمت بالطابع الديني والشرعي، في هذه الأعمال، أعرب عن رؤيته للمجتمع الإسلامي المتغير، حيث بدأ يشير إلى ضرورة التخلص من القيادة الكارزمية التي لم تعد مجزأة بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واعتبر أن فهم القانون بمفهوم المذهب الظاهري يقيد حدود الوحي ويخفض من قيمته. بينما كان يتأمل في هذه القضايا، كان يبحث عن تسليط الضوء على الممارسات الاجتماعية والثقافية والدينية التي تتناسب مع تطلعات وأذواق النخبة البلاطية التي اعتاد عيشها، وفي هذه السعي، سعى أيضاً إلى تهدئة القلق المتزايد حيال الموت والحياة الآخرة، بوصفها منظوراً دينياً.
كان ابن حزم عاملاً فعّالاً في المشهد السياسي الملتهب، فعلى الرغم من شبابه الطاغي بأحلام إعادة الأمويين، إلا أنه كان محاطاً بتاريخ يسطع بنجوم السياسيين والأشخاص المؤثرين، مثل والده الذي نال الاحترام في مجتمعه بجهوده مع المنصور، وكانت رؤيته للأندلس تتجاوز الأفراد لتشمل خليفة أموي مُعتمد ومدعوم من جماعة قوية، يتحدون فيها القيم الثقافية والسياسية، مع الاعتراف بتنوع الآراء والتفاوتات الطفيفة، وهو رفض الكاريزما، الذي شكّل جزءاً أساسياً من الفلسفة القانونية والسياسية لابن حزم.
تمثل الشخصية ذلك السرّ الذي يشد الأنظار إلى بعض الأفراد، ممن يتميزون عن غيرهم بطريقة لا يمكن وصفها بالدقة، في بعض الأحيان يصلون إلى مستوى يمنحهم قوى خارقة للطبيعة، حتى يُعتبروا نماذج أخلاقية أو قادة ذوي روحانية أو دينية أو سياسية، وكان ابن حزم يعتبر أن هذا النوع من السلطة الكاريزمية مقصور على الأنبياء فقط، حيث يشمل ذلك القدرة على فعل المعجزات أو التفوق في السحر، وهو أمر نادر حتى بينهم، مع اعتقاده الطبيعي أن تلك القدرات تنتهي بوفاتهم، وهنا يأتي دور سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء، هذه النقطة الأساسية شكلت جزءاً من الصراع العقائدي والسياسي بين الأمويين والفاطميين، حيث ادعى الفاطميون أن إمامهم، الذي كان يُعتبر خليفتهم، يمتلك شخصية النبي. استفادت هذه الشخصية الفاطمية من دعم قبيلة أمازيغية تدعى كتامة، ساعدتهم في تأسيس خلافتهم في شمال إفريقيا، وهي التي لازالت موجودة في عصر ابن حزم، على الرغم من نقل عاصمتها إلى مصر، وعلى الرغم من أن التهديد السياسي والعسكري الذي شكلته هذه الخلافة لم يكن حاداً كما كان في القرن العاشر، إلا أن الفاطميين استمروا في تشكيل تهديداً عقائدياً بادعائهم بالحقيقة واليقين بحكم اتباعهم للإمام، كونه تفويضاً مباشراً من الله، أما في الأندلس، فقد حاول الخلفاء الحموديون أيضاً إبراز طابع كاريزمي في نسبهم.
في ذلك الزمان، كانت هذه الجرأة تعني أن الإسماعيليين يتسامحون بسهولة مع الاقتراب الشديد بين إمامهم وشخصية النبي، إذ لم يكن هناك في نظرهم نبي آخر، بل كل الذين ظهروا بعد وفاة النبي محمد كانوا أنبياء زائفون، مثل تلك الشخصيات التي نشأت في الغرب الإسلامي منذ العصور الأولى بعد الفتح الإسلامي، حيث جمعوا أنصاراً حولهم بدعواتهم الزائفة، وتعتبر هذه الأمثلة توضيحاً بارزاً لعملية اندماج تلك القبائل مع الدين الإسلامي الجديد، حيث تمثل نبوءة برغاوة واحدة من تلك الأمثلة، حيث كان يمتلك قرآناً باللغة البربرية، وقاد أتباعه عبر السواحل الأطلسية للمغرب الحالي، حيث استمرت “دولته” لمدة تزيد عن 400 عام (حتى في كتاب ابن ماجه “يوم الحزم”). ومن ذات الفترة، نجد أنبياء غمارة ولشبونة اللذين نشطوا في عهد عبد الرحمن الثالث، حاملين لرسالة وحي جمعت بين عادات الأجداد وصيغت بلسان قريب إلى الإسلام.
رفض ابن حزم بشدة جاذبية هذا الطرح، ولم يكن لديه أدنى انجذاب نحو الصوفية أو الشخصيات المقدسة، بل أدين المتصوفة في جميع الأديان، مؤكداً أن الدين لا يحتوي على أسرار خفية، وأنه يعارض بشدة فكرة وجود رجال غير الأنبياء قادرين على صنع المعجزات، وفي عهد المنزور، كان هناك من يزعم أن بعض البشر قادرون على أعمال غير عادية يمكن أن تغير مسار الأحداث، وهو ما أثار جدلاً حول ما إذا كان النساء يمكن أن يكونوا أنبياء، وانحاز ابن حزم إلى الفكرة التي تقول بأنه يمكن للقديسين القيام بالمعجزات، واستشهد بمثال السيدة مريم عليها السلام لتعزيز وجهة نظره، في حين رفض علماء الدين هذا الفكر بالإشارة إلى أن مريم كانت نبياً بالفعل، في هذا السياق الغريب، برزت الكاريزما كأساس لأنواع جديدة من السلطة، سواء كانت دينية أو سياسية.
رغم أن الزهد والتقوى كانا معروفين في أرجاء الأندلس منذ عصور سالفة، إلا أن انتشار التوجهات الصوفية والفهم الصحيح للصوفية لم يبدأ إلا في القرن الرابع، ومن خلال بعض النصوص المتاحة من تلك الفترة، مثل نصوص ابن مسرة، يمكن رسم بعض صور هذه التوجهات: إيمان بمعجزات الأولياء وقدرتهم على تجاوز الأنبياء، وإعفائهم من الواجبات الدينية وحتى الحلال والحرام، ورؤيتهم لله والتواصل المباشر معه، وإمكانية تحقيق النبوة من خلال التحضر الروحي، كان ابن حزم يتفاعل مع هذه الشخصيات بشكل مباشر، حيث التقى بصوفي يُدعى محمد بن عيسى الفيرا، الذي أكد أن النبي لم يلزم بدفع الزكاة لأن عباد الله معفون من ذلك، وهو ما وصفه ابن حزم بأنه “زاهد يعيش في عزلة عن العالم، وواعظ يلقي مواعظ بلا فائدة، قليل الخبرة وكثير الأخطاء”، كان اهتمام ابن حزم الأساسي هو بتأثير هذه الشخصيات على الناس، حيث امتنع عن تكذيب محمد بن عيسى خلال إلقائه للموعظة خشية سخط الحاضرين وسقوطه.
وصف ابن حزم للمجتمع الباطني الذي نشأ في بيتشينا، والمستوحى من أفكار ابن مسرة، يلقي الضوء بشكل واضح على الإمكانيات السياسية العسكرية التي يمكن أن تتمتع بها تلك الشخصيات. زعيم هذا المجتمع، إسماعيل بن عبد الله الرويني، كان يحمل مذاهب تتأثر بتصورات كونية شاملة، حيث أعلن أن الله هو الذي يحكم الكون، وأن العالم سيظل موجوداً إلى أجل غير معلوم، وقد ادعى تلاميذه أنه يفهم لغة الطيور ويستطيع التنبؤ بالمستقبل، وكانوا يعتبرونه إمامهم الذي يجب على المسلمين الطاعة له ودفع الزكاة له. كانت الآثار السياسية والعسكرية لهذه المذاهب واضحة، حيث كانت الضرائب تُستحق لإمام جماعة المصاري، وأي ملكية خارجة عن المجتمع كانت غير مشروعة، وكان الهجوم على الخارجين عن المجتمع جائزاً، ورغم عدم معرفتنا بتطبيق هذه المبادئ في الواقع، إلا أن تصرفات الجماعة ومصيرها يظلان غامضين، ولكن يبدو أن الجماعة قد اندثرت بعد سخط أعضائها نحو إسماعيل بن عبد الله الرويني وتطرف مذاهبه.
بالتالي، على الرغم من ذلك، لم تكن الطائفة الوحيدة التي تنتمي إلى تلك المذاهب أو المعتقدات المتشددة، أحد هؤلاء كان أبو عمر الطلمانكي، الذي نشأ في تالمنكا بالقرب من مدريد، وكان عضواً في نفس القبيلة اليمنية كمنزور، وكان له علاقات وطيدة مع عائلة العميريين تماماً مثل ابن حزم، الذي كان معلمه. وعلى عكس ابن حزم، كان الطلمانكي يخصص حياته للتعلم الديني منذ صغره، وغادر الأندلس للدراسة وتلقى تعليماً في الفقه واهتم بعلوم أخرى قلما توليها علماء الأندلس في عصره، مثل أصول الديانات، كما كان من ممثلي التصوف غير المتطرف، لكنه تجاوز الزهد المقبول لدى الفقهاء، وقد دحض ابن مسرة والباطنيين، واتهم الأول بالتنصل من النبوة، ودافع عن إمكانية وجود معجزات القديسين، ويعتقد أن الطلمانكي أصبح يعتقد أن الإمام يجب أن يكون أفضل مسلم في المجتمع، مما أدى إلى اتهامه بالتعاطف مع الخوارج، وفي الوقت الذي كانت فيه الطوائف المرتبطة بالطجيبيين لا تزال تعترف بآخر الخلفاء الأمويين، كان الطلمانكي يواجه اتهامات بالزندقة والاعتداء على الأبرار، وبعد مرور الوقت، تشير بعض النصوص إلى أن جماعة من التلاميذ تجمعت حول الطلمانكي، الذي تم الاعتراف به كزعيم لهم ومنح لقب “الطلمانكي”، مما يشير إلى أن السلطة الدينية لهذا النوع من الشخصيات المتشددة يمكن أن تؤدي إلى ظهور قيادة سياسية.
شخصية أخرى نشير إليها، ولد أحمد بن قسي في بلدة سيلفيس، ولم يكن غريباً على العمل الشاق كمحصل للضرائب لحكام المرابطين، لكنه شعر بأزمة داخلية تدفعه نحو التحول، فباع ممتلكاته وتبرع بما حصله في صدقات، مكرساً حياته للتقشف والتفكير الروحي، سافر في الأندلس لفترة، ولكن لم يتجاوز شبه الجزيرة الأيبيرية، حيث أسس رابطة قرب بلدته، جمعت أتباعه الصوفيين المبتدئين.
في صفر عام 539 هـ/ أغسطس 1144م، قاد ابن قسي تمرداً في منطقة الغارف، يهدف إلى مواجهة المرابطين والبربر الذين انتشروا شمالاً في المغرب، بعدما دعاهم ملوك الطوائف لمحاربة المسيحيين، تولى المرابطون السلطة وبدأوا بفرض ضرائب مفرطة وفشلوا في وقف تقدم المسيحيين، مما أدى إلى رفض الأندلسيين لشرعية الحكم الجديد، تجسدت هذه المعارضة في حركة ابن قسي، لكنها انتهت بإطاحته من قبل زعيم سياسي، وأُجبر على الهرب إلى شمال إفريقيا، حيث اعترف بأحد قادة الموحدين باعتباره المهدي وساعد في احتلال شبه الجزيرة، عين كحاكم على سيلفيس، لكنه حاول بعد ذلك الانفصال عنهم بالتحالف مع المسيحيين، فقتله أتباعه عام 546/1151.
ورغم قلة معلوماتنا عن معلميه، كان ابن قسي متصلاً بأبرز المفكرين الصوفيين في عصره، وكان له اتصال بالغزالي وكتابه “خل النعلين” يكشف عن فكره الباطني المقترب من الإسماعيلية. كما روى عن نفسه قصصاً خارقة للطبيعة، وعلم أتباعه بأن الإمام المعصوم لا يكون بسبب نسبه، وإنما بسبب صفات شخصيته، كما أشار إلى نفسه وأتباعه بلقب “الغرباء”، ورغم وصفه لتمارين روحية، فإنه لم يتبع المراحل الصوفية المحددة، ورأى أن الصلاة تصبح أقل أهمية لمن يصل إلى الحقيقة.
بالإضافة إلى ابن قسي، استدعا أمير المرابطين ابن براجان وابن العريف إلى قصر مراكش في عام 536/1141، ولكن قبل أن تتضح مصيرهما، رحلوا عن هذا العالم في ظروف غامضة. يروي أحد المصادر من القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي أن ابن براجان كان محترماً كإمام في 130 مدينة، مما يشير إلى قيادته الروحية، وربما لم يكن له دور سياسي معروف، ومع ذلك، فإن نفوذه الواسع – كما يدل عليه الرسائل التي وجهها إليه ابن العارف – قد جعله تهديداً محتملاً للنظام السياسي في زمن تمردهم على المرابطين في المغرب العربي.
وكان لدى السيد الصوفي صفات أخلاقية يعتبرها البعض نقطة قوة مقارنة بعلماء الدين والفقهاء، الذين كانوا يتورطون في السياسة، مما أثر على شرعيتهم كمفسرين للشريعة، وفي الوقت نفسه، كان يشير المعلم الصوفي إلى إمكانية وجود صلة مباشرة بين الله وخلقه، مما يمثل تحدياً للسلطة التقليدية للعلماء والزهاد.
رفض ابن قسي، بتصميم لا هوادة فيه، كلاً من العقل والقانون، مؤكداً بأن النبوة لا تزال تحتاج إلى إحياء دوري عبر القداسة، وهذا الموقف الجريء لم يلقَ ترحيباً من قِبَل الفقهاء، كانت ردة الفعل التي طرأت في جزء من المجتمع الأندلسي نتيجة لتمرده، وتراجع الثقة في المرابطين، هي تسليم السلطة السياسية والعسكرية إلى أيادي القضاة، وحدَّد ابن العبَّار هذه الفترة المشحونة بالتحولات بأنها فترة حكم القضاة في الأندلس، من الشرق إلى الغرب، تمثلت في تعميرات القضاة في كلِّ ربوع البلاد.
كان حكم القضاة، الذين انتزعوا السلطة في قرطبة وخاين ومالقة ومورسيا وفالنسيا، هشّاً وقصير الأمد، لكنهم استطاعوا، على الأقل لفترة، مواجهة المرابطين وجذب الجيوش إلى جانبهم، كان من بينهم ابن حمدين في قرطبة، الذي جسَّد السلطة بألقابه “المنصور بالله” و “أمير المسلمين”، وتمكَّن من استصدار العملة الخاصة به، وجنَّد جيشاً لحماية نفوذه، كانت حكومته تتمتع بالسلطة لمدة أحد عشر شهراً، تحديداً.
القضاة الذين أخذوا الزمام خلال الفترة الانتقالية بين المرابطين والموحدين لم يكونوا أجانباً للمشهد، فقد كانوا قضاةً خلال التحولات الهائلة التي شهدتها الأندلس في القرن الخامس الهجري، ليس فقط خلال فتنة تفكك الخلافة الأموية، بل حتى في إقامة سلالات محلية طويلة الأمد نسبياً، كما حدث في سيلفيس وطليطلة، وخصوصاً في إشبيلية، حيث ربما انخرطوا في لقاءٍ مباشر مع ابن حزم، بطل العصر في تلك البقعة.
وفي أزقة طليطلة، يتسلل صدى أسماء عريقة وقصص أفراد عائلات كبيرة تترنَّح في أروقة التاريخ، حيث اختلطت السياسة بالدين، وارتبطت السلطة بالقضاء، وازدادت الحكمة معاً في شخصية محمد الأسدي، الذي حاول جاهداً تحقيق التوازن بين شخصيته كزعيم وكقاضٍ، محاولاً في الوقت ذاته أن يكون رمزاً للقوة والعدالة في عيون أهل بلده.
في أروقة إشبيلية القديمة، تعاقبت القصص والأساطير، ولكن في عهد الحمودين، ارتسمت صورة جديدة للقاضي الشجاع، أبو القاسم محمد بن عباد، كانت مجده تاريخياً يتلألأ في أسطورة عائلته، حيث يُقال إنهم كانوا يمتلكون ثلث أراضي المدينة، عندما حاول الخليفة الحمودي التسلل إلى إشبيلية بعد فشله في قرطبة، استولى أبو القاسم على زمام الأمور وأصبح حاكماً للمدينة، وبسرعة اندمجت السلطة في يديه، حتى أنه تمكن من طرد الأقوياء واستيلائه على ممتلكاتهم، لكن القوة لم تكن كافية ليبقى على عرشه، فعندما حاول يحيى بن علي بن حاول السيطرة على المدينة، تبنى السكان سياسة التسويات المالية بدلاً من المواجهة، وتمكن أبو القاسم من الحفاظ على سيطرته بالقبول بشروط الغزو ودفع الرشاوى، كانت هذه القرارات الحكيمة سبباً في شهرته المتزايدة، وبالفعل، عينه الخليفة والياً على إشبيلية، واتفق سكان المدينة على الانصياع لحكمه.
وبهذا، أصبح أبو القاسم سيداً حقيقياً للمدينة، وتحوَّلت السلطة من تقاسم بين الأقوياء إلى امتلاكه الكامل لها، حتى طرد من كان يشكل تهديداً له وصادر ممتلكاتهم، استخدم الأموال الواردة من هذه التسويات في تشكيل جيش من المرتزقة، وبالفعل، حينما حاول يحيى بن علي استعادة المدينة، هُزم وقتل، وانتصرت إرادة أبو القاسم.
ولكن لم يكن السياسيون فقط من تكون لهم أهمية في هذا الصراع، بل كانت الثروة تلعب دوراً أساسياً في مقابل ما فعله يعيش بطل طليطلة في تعزيز القضاء والدين، كان أبو القاسم يركز على جعل إشبيلية ملكاً للمال، ولذلك لم يحاول فرض الأخلاق أو القيم، ولهذا السبب فقد نجح في تأسيس سلالة جديدة، تاركاً خلفه أبناءً يحملون لقب “المعتمد”، ويحملون في طياتهم مستقبلاً لإشبيلية ينطلق من الثروة، ليحكموا باسم القضاء، ولكن ليس من أجله.
كما تداولت الأساطير والحكايات في أروقة المدن القديمة، تجسدت صورة القضاة كأشخاصٍ ذوي نفوذٍ وثقة، يمثلون أحياناً أعرافاً عائلية قديمة، حيث تتشابك السلطة بالثروة والعلم، وغالباً ما تتجسد في خدمة القضاء، لقد كانوا في بعض الأحيان يشغلون المناصب بموافقة الحاكم، ولكن في الواقع، كان اختيارهم يعتمد على مكانتهم وسط السكان المحليين، وكثيراً ما كان السكان هم من يحددون من سيكون قاضيهم.
وعلى الرغم من أن الفترات الانتقالية تجذب غالباً اهتمام القضاة بالسلطة، إلا أنه لم يكن دائماً يحدث هذا، فقد بقي بعض القضاة مخلصين للسلطات السابقة، أو تعاونوا مع السلطات الجديدة، في الواقع، كانت فترة الفتنة تمثل فترة من الاضطراب حيث كانت السلطة قابلة للتغيير بين الحكام والزعماء العسكريين والوزراء، ولكن لا يزال منصب القاضي يحمل بعض القيم الأساسية، حيث يُعتبر وفقاً للنظرية الإسلامية والسياسية مندوباً عن الخليفة أو السلطان، وأيضاً كعالم ديني، وكان من واجبهم تعزيز سلطة القاضي وتمكينه من تأدية دوره بكفاءة.
وعلى الرغم من أن الفساد كان ينتشر في تلك الفترة، إلا أن القاضي كان المحافظ الوحيد على النظام والقانون، وحتى وصفه أحد الكتَّاب بأنه “الحارس”، وفي النهاية، كانت مهمة إعادة النظام تتوقف على كاهل القضاة، حيث أنهم كانوا الأكثر مؤهلين لتحقيق العدالة في تلك الظروف الاستثنائية.
وفي زمن يمتزج فيه السراب بالحقيقة، ويتلاشى الحدود بين الظاهر والباطن، هكذا كانت عوالم ابن حزم، تقتحم عروش الحكم والوجدان، وتلبس معطف الريادة السياسية والروحانية بانتقائية شديدة، فتكون حكايةً تختزل ما بين أسطورة وواقع، بين ما يظهر وما يختبئ.
وفي هذا السياق، كان للقضاة دورهم البارز، فهم لم يكونوا مجرد ممثلين للسلطة الحاكمة بل كانوا أصحاب مصلحة في تثبيت النظام وصيانته، بناءً على الشريعة التي كانوا حافظين عليها كأساس للعدالة والمساواة، كانت القدرة على التأثير والإمتاع بالشعب كأولوية، وكانت الشخصيات القضائية تتمتع بسمعة عالية في المدن الحضرية، حيث كانت تنبض الحياة بالحكمة والمعرفة والإلمام بالشؤون الدينية، وهكذا، في أوقات الفوضى والتمزق السياسي، تطل بريق القضاة كنجومٍ لامعة في سماء الحضر، تبعث الأمل وتمثل الثبات، حيث كانوا يملكون القدرة على ملء الفراغات السلطوية وإنشاء أنظمة سياسية مستقلة، فهم لم يكنوا مجرد أفراد بارزين في المجتمع، بل كانوا حماة للقوانين الإلهية، ومناصرون للعدالة والإنصاف، حتى إنهم أخذوا على عاتقهم تحقيق أمال الشعب ورغباتهم في العدالة والسلام.
وفي غمرة تجاذبات السلطة والصراعات السياسية، شهد ابن حزم ترقية بعض القضاة إلى مناصب السلطة، لاسيما في مدن سيلفيس وطليطلة، وبالأخص إشبيلية، حيث تلاشت آثار الخلافة الأموية، الرافعة الأصيلة لشرعية الحكم في الأندلس، لكن لا يوجد دليل واضح على موقفه من هذا التطور، إلا أن الفوضى التي أعقبت اندحار الخلافة قد تركته بمنتصف العاصفة، مجبراً على تكييف نفسه مع أوضاع جديدة.
فبعد طرده من بعض المدن الأخرى بسبب الانتقادات التي وجهها إلى بعض العلماء المالكيين، انتقل ابن حزم إلى إشبيلية بحثاً عن بعض الاستقرار، لكنه وجد نفسه عالقاً في عالم مضطرب لا يعرف للرحمة معنى، حاول التكيف والتواصل مع الوضع الجديد، لكن باءت جهوده بالفشل، وانتهى به المطاف بطرده من تلك المدينة أيضاً، وفي طليطلة، يبدو أن ابن حزم لم يكن موافقاً على سياسات القاضي هناك، خاصة فيما يتعلق بحقوق المرأة، حيث كانت نقطة الخلاف تتمحور حول مشاركتهن في المناسبات الدينية والاجتماعية، على الرغم من التنازلات التي قدمها، إلا أنه لم يستطع التوفيق بين مبادئه والقوانين المحلية، مما أدى إلى شعوره بالغربة والتبعثر.
لكن من المهم أن نفهم أن ابن حزم كان يميل إلى البقاء في المناطق التي كانت تحكمها الأسر السابقة المرتبطة بالخلافة الأموية، ولذلك لم يكن يفكر في الانتقال إلى طليطلة أو سرقسطة أبداً، حيث كانت الأوضاع تبدو غير شرعية بالنسبة له.
لماذا كان يعارض ابن حزم المذهب المالكي؟ ولماذا انتهى به المطاف بالحيرة كبديل؟ بحسب سيرته، رفض ابن حزم المالكية لأنه رأى فيها تهديداً لمجال العلم الديني، حيث كانت تمكن الفقهاء المالكيين من تحكم الفقه بمجرد الولادة، هذا الاحتكار الفقهي للعلم الديني كان يتيح لهم فرصة لتوجيه معارضة موحدة ضد السلطة الأموية، وكان ذلك أمراً يشكل خطراً ثقافياً وسياسياً على إدارة البلاط الأموي، ولم يكن ابن حزم الوحيد الذي رأى هذا الخطر، إذ سعى عبد الرحمن الثالث إلى تشجيع التعددية في المدارس الفقهية في إقليمه، بينما كان المنزور يدعم الفقهاء المالكيين المنحازين للمذهب الشافعي، بهدف كبح قوة الفقهاء المالكيين.
بالتالي، إن تأثير الفقه المالكي التقليدي كان واضحاً في عالم يشهد تحديات سياسية وثقافية مستمرة، وكانت مواقف ابن حزم تعكس رفضه الشديد لهذا السيطرة المطلقة على المعرفة والسلطة.
وغالباً ما يعزى تصدي ابن حزم للمذهب المالكي إلى حاجته المتزايدة إلى العقلانية والتماسك في الفكر. كانت المالكية في الأندلس – كما كانت المالكية في زمن مالك بن أنس وتلاميذه – تمثل مرحلة معينة في تطور الفقه، حيث كان الرأي الشخصي يلعب دوراً بارزاً، فقد كانت بعض القرارات القانونية تبرر ببساطة من خلال اللجوء إلى السلطة، مما أدى في كثير من الأحيان إلى تعارضها مع القرارات الأخرى، وكشف أن مصادرها لم تكن ثابتة بشكل متماسك وفق منهجية صارمة، وأدت هذه الممارسة إلى انتشار الآراء المتباينة التي يمكن رفضها بسبب ضعف أساسها.
ظهرت المالكية بشخصية مالك بن أنس وتلاميذه بشكل جذاب، وهو ما انتقده ابن حزم، فقد أشار إلى أن مالك كان إنساناً عادياً، وحاول الفقهاء الذين جاءوا بعده تنظيم المنهجية القانونية، بما في ذلك الشافعي الذي وضع الأسس القانونية مثل القرآن والسنة والإجماع، وأدخل مفهوم القياس، وكان مالكيو الأندلس عموماً يعارضون هذه المحاولات للتنظيم، وبدا أن ابن حزم كان يسعى إلى بناء منهجية شرعية متماسكة تماماً، ولهذا الغرض وضع منهجاً ومبادئاً وطبقها بدقة، مما أدى إلى ظهور مذهب يجمع بين المنطق والنحو والقانون والدين.
بالتالي، إن حاجة ابن حزم إلى التماسك والمنهجية كانت تستوقفه، وكما حدث مع بعض معاصريه، كان من الممكن أن يوجه خطواته نحو ما يمكن تسميته بالمالكية المصلحة، مثل أبي عمر بن عمر وعبد البر وأبو الوليد الباجي وابن رشد الجيّد، ولكن ابن حزم اتخذ قراراً قاطعاً برفض المالكية بوضوح، فالحرية بالتمسك بعقيدة الظاهر، تجسّدت في تصميم ابن حزم على اعتماد تفسير حرفي للنصوص الدينية، دون اللجوء إلى التأويلات الاستنباطية كالقياس، الذي يُمكن أن يضيف عنصراً من عناصر التعسف البشري في تطبيق الشريعة من وجهة نظره، خاصة وأنها تعكس التزاماً قاسياً بـ “نص” الشريعة، من دون النظر إلى الأسباب وراء الحظر أو الإباحة، أو الشرعية وغير الشرعية، وفي تفسير القرآن والحديث بالمعنى الحرفي، فإن الظاهرية يجب أن يستنتجوا أن الفعل المذكور يجب أو محرم بشكل مطلق، دون مراعاة التفاصيل الدقيقة، ومع انعدام النصوص التي تتناول المسائل بشكل واضح في القرآن، وفي حالة الحديث النبوي، يجب التحقق أولاً من صحة الحديث، هذا يعني أن القضايا الموضوعة بصورة صريحة قليلة نسبياً، خاصة إذا تم رفض الاستدلال بالقياس، واعتراض ابن حزم على القياس يأتي من أن استخدامه لم يُذكر في النص القرآني، وأنه يؤدي إلى التناقض والتباين في الآراء، مع التأكيد على حدود قدرة العقل البشري، في جوهره، ينبغي للعقل أن يخضع للوحي، فهو قادر على قبول وجود الله، ولكنه محدود بحيث لا يستطيع فهم جوهره، وبالتالي، لا داعي للتساؤل عن أسباب الشريعة، لأن السبب الوحيد هو إرادة الله، ويمكن تلخيص موقف ابن حزم بأن الحق في المسائل الوحي يُبرم على ما أوحى الله به بوضوح أو ما صحّ عن النبي صلى الله عليه وآله سلم، أو ما اتفق عليه الأئمة المعتبرة.
كما أن الذهاب إلى النص النبوي هو السبيل الوحيد لضمان اتباع إرادة الله وتجنب التدخل البشري في التشريع الإلهي، بالتالي، إن حرفية ابن حزم تدفعه إلى رفض التفسيرات المجازية التي ابتدعها الصوفية والشيعة بشكل خاص، ومع رفضه للعواطف الروحية، يجتمع قبوله لاستخدام الحجج المنطقية، حيث يوصي بتطبيق مبادئ أرسطو في إقامة البراهين والوصول إلى الاستنتاجات الصحيحة، وتقديم التعريفات الدقيقة، وتنفيذ عمليات المنطق بدقة، ونظام ابن حزم لا يلغي دور العقل، بل يعطيه دوراً محدداً ومحدوداً، متماشياً مع تعاليم الرسالة الإلهية. يجب أن يُفهم العقل كوسيلة ضرورية لفهم وتطبيق وصايا الله بشكل صحيح، حيث يُعتبر المنطق بالنسبة لابن حزم الأسلوب الذي يسمح له بتحليل النصوص الوحيية بدقتها، من دون المساس بما أراد الله التعبير عنه بوضوح.
والنتيجة من كل هذا هي تقليص كبير ليس فقط لما يعتبر محرماً ولكن أيضاً للممارسات الاجتماعية والدينية التي تنظمها الشريعة، في مجالات النشاط الخالية من التنظيم القانوني والديني أكثر عدداً من وفي المدارس الشرعية الأخرى، وهذا الواقع، بالإضافة إلى تطبيق منهجه، كثيراً ما يقود ابن حزم إلى بعض الاستنتاجات التي تتعارض مع مذاهب فقهية أخرى وأخرى غريبة.
فقد رأينا كيف يتجاوز ابن حزم حدود النظرية للدفاع عن فريدية الأنبياء، معتبراً إياهم وحدهم من يمتلكون القدرة على إبداع المعجزات، وبالتالي يستثني إمكانية حدوث معجزات من جانب أئمة الشيعة أو أولياء الله عنهم (عليهم السلام). يرى في شخصية النبي هي الوحيدة التي يجب الاعتراف بها، كما يعطي المرأة سلطة أكبر في الحياة العامة ويعتبرها مؤهلة لتولي منصب القضاء، يرى أن الخدمة بهذه القدرة ليست محصورة فقط للنساء، بل تمتد أيضاً للعبيد، الذين يتمتعون بدرجة من الوكالة تتناسب مع الدور المهم الذي لعبوه في نظامهم – وهم الأمويون.
وفي رسالته، يروج ابن حزم لجواز الغناء، ويعتبر تركه أفضل، ويبرر ذلك بأنه يساعد الإنسان على استراحة نفسه وتوجيهها نحو تعزيز طاعته لله، مؤكداً بأنه لا يضل الإنسان في طريقه إذا خرج لتسلية أهله، كما يطرح تساؤلاً عن إمكانية وجود محكمة خالية من الشعر والأغاني، كما يؤكد على أنه لا يجب الخوف من العقاب الإلهي، مؤكداً أن ابن حزم يقدم للمؤمنين، بما في ذلك الخطاة، فرصة للتوبة والغفران والخلاص.
وبناءً على الأمثلة التي استعرضناها، يظهر لنا ابن حزم كرائد لفكر جديد، يتخذ من عالم بلا أولياء ورقباء منظومة لتصوّره الاجتماعي، في هذا العالم، تمتلك النساء والعبيد فرصة ليس فقط للمشاركة في الحياة العامة بل لتولي المناصب القضائية أيضاً، ما يرمز إلى الاعتراف بقدراتهم ومعرفتهم الدينية، دون أن يفرض عليهم سلطة قانونية خارجة عن نطاق تفكيرهم، وفي هذا السياق، يُعَبِّر ابن حزم عن رفضه للعقوبات القاسية في حالات الشك، مما يظهر توجهه نحو حماية الحريات الفردية واحترامها.
أما في جوهره، يقدم ابن حزم رؤية للمجتمع حيث يُشجَّع على تطوير القدرات الفردية والفكرية، وحيث يُرَى الفهم والعقل كأدوات لتحديد القانون وتفسيره، دون تقليد أو تسليم للسلطة لأي جهة خارجية، هذا المفهوم يعبر عن رغبته في تحقيق العدالة وحماية الحقوق، وفي نفس الوقت يُظهر اهتمامه بمسائل الحياة الإنسانية والمعاناة البشرية، كما يتجلى ذلك في أعماله المتنوعة كـ”طوق الحمامة” و”كتاب أبي الأخلاق والسير”، وفي هذا السياق، يركز على أهمية تجنب القلق كهدف رئيسي للإنسان، مما يعكس تفكيره العميق في السعي نحو السلام الداخلي والرفاهية الروحية.
بالتالي إن جميع مواقف ابن حزم العقائدية تتراوح في دائرة هذا الهدف النبيل المتمثل في تجنب القلق، فعلى رغم أهمية السعي وراء الخلاص في الحياة الآخرة، إلا أن القلق يتلاشى تدريجياً كلما تضاءلت حدود التحريم وتوسعت فئات المسموح به أو المسموح به بدون إثم، وبالتالي زادت فرصة الغفران الإلهي للتجاوزات الصغيرة، ومن هذا المنظور الفلسفي، تبرز الحيرة كبديل فعّال عن الاتجاه الصارم الذي تتبناه المذاهب الفقهية، بما في ذلك المالكية، في توسيع نطاق التحريم وتقييد حرية العمل بما يجعل المؤمنين العاديين يشعرون بقلق شديد بشأن مصيرهم الروحي.
باختصار، يبدو أن دافع ابن حزم كان ينبع من رغبته الشديدة في إنقاذ مقدرات العالم الذي نشأ فيه والتي كانت تحمل له قيمة كبيرة. كان هذا العالم مهدداً بشدة بفعل سيطرة علماء المالكية، الذين نالوا سلطتهم بشكل متزايد وأدخلوه في مأزق صعب المراس. فكان ابن حزم يواجه ضغوطاً شديدة من جانب بعض فقهاء المالكية، الذين سعوا إلى تطهير مكتبة الخليفة الثاني، بينما تعرض الشعراء والأدباء للاضطهاد واتهموا بالكفر. وفي هذا السياق، تحولت المتعة الفنية مثل استماع الموسيقى إلى موضوع جدلي ومعرض للانتقاد الأخلاقي.
وفي ختام هذه الرحلة الأدبية، وبعد أن تجولنا بين صفحات تاريخية مشرقة وشخصيات إسلامية بارزة، نجد أنفسنا مغمورين في عمق الفكر والتفكير، مستلهمين من تجارب السابقين ومواقفهم النبيلة. إن ما يتجلى لنا من خلال تلك الشخصيات العظيمة هو روح التفاني والعطاء، والسعي الحثيث نحو الحقيقة والعدالة، في هذا السياق، يكمن جمال تقدير الشخصيات التاريخية كإسهامات حية في تشكيل مسارات الحضارة وتطور الفكر الإنساني. فعندما نتعمق في دراسة حياة هؤلاء العلماء والفلاسفة، ندرك أنهم كانوا ليس فقط رواد فكريين، بل أيضًا موجهين للقيم الإنسانية السامية.
ومع نهاية هذه الرحلة، يبقى لنا الاستفادة من دروسها وتعاليمها، وتطبيقها في حياتنا اليومية، لنكون أفضل داخل أنفسنا ونساهم في بناء عالم أكثر تسامحاً وفهماً، يستنير بضياء العلم والإيمان، فلنكن، إذا، مستعدين لاستمرار السير في طريق العلم والتعلم، ولنبذل جهودنا لنرفع شأن تراثنا الإسلامي ونساهم في تحقيق الخير للبشرية جمعاء.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.