رغم أنّ المقابلة التي أجراها “تاكر كارلسون” مع الرئيس الروسي قد أثارت الكثير من الضجة الإعلامية حول ما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلا أنه لم يقل شيئاً جديداً فيها، إنما الموضوع الرئيسي في هذه المقابلة هو أنّ روسيا لن تتحذ الخطوة الأولى بعد أن استنفذت أوكرانيا ومن ورائها الغرب كل الفرص، بمعنى أنّه مستعد للتفاوض مع الغرب ولكن عليهم هم إتخاذ تلك الخطوة، باعتبار أنّ الخطوة الأولى تعني تلقائياً تقديم التنازلات، وروسيا غير مستعدة لتقديم تلك التنازلات عقب الانتصارات التي حققتها في أوكرانيا. وأميركا لا تمتلك القدرة على اتخاذ تلك الخطوة، نتيجة التنافر القائم بين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة ما يوحي بأنهم غير قادرين على الاتفاق فيما بينهم على مساعدة أوكرانيا كما أنهم غير متفقين على مساعدة “إسرائيل” بالرغم من أنّ ظاهر الأمور توحي بأنّ كلا الطرفين يريدان تحقيق استراتيجية واحدة تقول بدعم أوكرانيا وتقويتها لهزيمة روسيا وإضعافها ودعم “إسرائيل” وتقويتها لهزيمة القوى المشرقية ككل وإضعافها ويسعى كلاهكا لفعل ذلك.
أضف إلى ذلك أنّ الرئيس الأميركي جو بايدن لا يمتلك ترف الوقت للقيام بالخطوة الأولى وتقديم التنازلات وهو على أبواب الانتخابات، ما يعني بأنّ التسوية غير ممكنة في الوقت الحالي أقله قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية ولا إمكانية لحصول مثل تلك التسوية حتى يفوز إحدى الطرفان “ترامب” أو “بايدن” في الانتخابات المقبلة أو بعبارة أخرى في الحرب الأهلية الأميركية نظراً إلى سرعة تدهور الأوضاع في الداخل الأميركي وترجيحات بحدوث أزمة مصرفية جديدة وانهيار سوق الأوراق المالية في أي وقت.. كما أنّ الخسائر فادحة في الداخل الأوكراني، وكذلك في الداخل “الإسرائيلي” ما يعني أنّ الناخب الأميركي وهو دافع للضرائب التي تذهب لدعم أوكرانيا وإسرائيل لن يقبل بالمزيد من الحروب المدفوعة من جيبه وبالتالي ربما ستصبح الانتخابات الأميركية شرارة حرب أهلية أميركية لن تخمد إلا بسقوط الإمبراطورية الأميركية عن رأس الهرم العالمي.
وحتى ظهور شخص ما في أميركا يمكن لروسيا التفاوض معه (أي بعد الانتخابات الأميركية، إن لم تنقلب إلى حرب أهلية) فمن المرجّح جداً “اندثار” وجود أوكرانيا على الخارطة بوضعها الحالي وهو ما تحدّث عنه بوتين مطولاً بما يتعلق بتاريخ أوكرانيا وأن السوفييت هم من أوجدوها على الخارطة وبالتالي وفق قراءة ما بين السطور فإنهم (أي الروس) هم من سيلغوا وجودها عن تلك الخارطة وبالتالي لن يكون هناك أي داعي للتفاوض على شيء لانتفاء السبب الذي يؤدي إلى هذا التفاوض.
ويمكننا اختصار المقابلة التي تجاوزت الساعتين في عبارة واحدة تقول: “روسيا ستحقق أهدافها ولن تقدم أي تنازلات لتحقيق تلك الأهداف” وما يؤكد هذه العبارة لمن حضر المقابلة أنّ أكثر من نصفها كانت للحديث حول حقوق روسيا في أراضي أوكرانيا السابقة وتبرير الحق الروسي في تلك الأراضي وبالتالي كيف لروسيا أن تقدم تنازلات في الاستحصال على حقها المتأصل في التاريخ.
كما أنّ العالم برمته يجلس على برميل من بارود من المتوقع انفجاره في أي لحظة أو بالأحرى على براميل من البارود والسؤال هنا ليس ما إذا كان أي منها سينفجر أولاً فربما تنفجر جميعها دفعة واحدة والتنبؤات مستحيلة حالياً وسط هذا الجنون العالمي ولكن السؤال يكون من سينجح في إخماد تلك البراميل التي يمكننا اختزالها بما يلي:
في أوكرانيا، هناك احتمالية حدوث أي نوع من التطور كالقيام بهجوم إرهابي أوكراني يستهدف محطات الطاقة النووية الروسية وبالتالي الرد النووي الروسي سيقصم “ظهر البعير” الأميركي، أو ربما منع الصادرات الروسية من الموانئ على البحر الأسود ما يعني ارتفاع بوتيرة أزمة الحبوب والطاقة العالميتين وهو ما قد يقلب الوضع العالمي برمته ويحرك التصعيد لمستويات جديدة أعلى مما هي عليه الآن منها الحرب النووية والطاقوية.
في “إسرائيل”، قد يؤدي الجنون “الإسرائيلي” إلى شن هجوم مباشر ضدّ إيران بعد فشلها في غزة وجبهات الإسناد من لبنان إلى اليمن مروراً بالعراق وسورية وهو ما يرفع التصعيد في منطقة الشرق الأوسط إلى مستويات جديدة أيضاً إذا قلنا بأهمية مضيق باب المندب وهرمز وقناة السويس التي سيكون لها ارتدادات استراتيجية عالمية ليست على “إسرائيل” فحسب بل ستنال من عنق زجاجة الاقتصاد الأميركي لتشدد عليه الخناق..
في تايوان، قد تستغل الصين الظروف الدولية الحالية ونقوم بإعلان ضم تايوان وإن احتاج الأمر فلن تتواني الصين الشعبية عن شن عملية عسكرية تعلن فيها الهدف بتصحيح خطأ التاريخ باعتبار أنّ تايوان جزء من أراضي الإمبراطورية الصينية وهذا التصعيد سيرفع الأزمة التجارية العالمية لمستويات جديدة إذا قلنا بأهمية بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان وملقا وقد لا تكون ارتداداتها وتداعياتها الاستراتيجية أقل خطورة على العلاقات الدولية والاستقرار العالمي من تلك الجارية في منطقتنا..
في الولايات المتحدة، كانت “تكساس” بداية حبات السبحة التي فرطت وسيفرط معها العقد الاجتماعي الذي على أساسه عرفنا ما تسمى اليوم بـ”الولايات المتحدة الأميركية”، ناهيك عن أزمة الجمهوري والديمقراطي وما ينتج عنها ربما إزاحة ترامب من الانتخابات بقرار من المحكمة العليا وهو ما سيؤدي إلى التصعيد فقد رأينا سابقاً مناصري ترامب داخل الكونغرس والفوضى العارمة التي زرعها ذاك الهجوم ما سيؤدي إلى رفع مستوى التهديدات الداخلية الأميركية التي سينتج عنها حتماً سقوط الإمبراطورية الأميركية فهم من قالوا بأنّ القضاء على الحكومات يأتي بتفتيت المجتمع من الداخل وها هم يتفتتون بداخل مجتمعاتهم وبالأحرى الجميع بات يعرف اتجاه سقوط الإمبراطورية الأميركية وما ينتج عنها من تدمير للدولار والسياسات النقدية الأميركية ولكن لا أحد يستطيع معرفة مدى سرعة حدوث ذلك الانهيار وبأي تسلسل.
باختصار، إنّ ما يحدث من تصعيد على الساحة الدولية المراد منه جلوس الجميع على طاولة العالم الجديد فقد “رفع الغطاء” عن القوى السابقة “السطحية” من قبل مشغليها ومنظريها “العميقين” نحو رؤية واحدة تشاركية ربحية، ستنجح في إخماد تلك البراميل أو معظمها فالعالم اليوم كما قال بوتين في مقابلته مع كارلسون “منقسم إلى نصفين، شأنه في ذلك شأن فصي الدماغ، أحدهما مسؤول عن بعض الأنشطة، وربما يكون الآخر أكثر نشاطا في المجال الإبداعي”. وتابع بوتين: “لهذا يجب أن يكون العالم متحداً”، حيث يجب أن يكون “الأمن مشتركاً، وليس مصمماً لخدمة المليار الذهبي فقط.. وفي هذه الحالة فقط سيكون العالم مستقراً ومستداماً ويمكن التنبؤ بأحداثه”.. وهنا يمكننا القول بأن روسيا ستقود العالم الجديد والبداية بإعلان دولة فلسطين.
د. سماهر الخطيب / كاتبة صحافية سورية وباحثة في العلاقات الدولية والدبلوماسية