يأتي وضع حجر الأساس لمجمَّع عُمان الثقافي بالرعاية السَّامية لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ـ في الحادي والعشرين من يناير لعام 2024 انطلاقة مُتجدِّدة في مَسيرة بناء عُمان المستقبل وتحقيق رؤيتها الطموحة «عُمان 2040» والَّتي وضعت البُعد الثقافي ركيزة أساسيَّة من ركائز البناء، ومنطلقًا رئيسًا من منطلقات التطوير، في سبيل الوصول إلى «مُجتمع إنسانه مبدع معتز بهُوِيَّته، مبتكر ومنافس عالَميًا، ينعم بحياة كريمة ورفاه مستدام» يظهر ذلك في أولويَّة: «المواطنة والهُوِيَّة والتراث والثقافة الوطنيَّة».
على أنَّ أهداف مجمَّع عُمان الثقافي الطموحة ومُكوِّنات البيئة التنظيميَّة والهيكليَّة والمجاليَّة والبرامجيَّة له، في ظلِّ ما يحتويه من بيئات ثقافيَّة تشمل: مبنى هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنيَّة، ومبنى المكتبة الوطنيَّة، ومبنى المسرح الوطني، ومبنى دار الفنون، ومبنى المنتدى الأدبي ومبنى مكتبة الطفل ومبنى السينما وغيرها في مكان واحد، يعكس مفهومًا أعمق للتكامليَّة الثقافيَّة والفكريَّة والأدبيَّة في صياغة لحْن التطوير والبناء والإنتاجيَّة وصناعة التحوُّلات القادمة، وليؤكِّد مسار التناغم المنتج بَيْنَ كُلِّ هذه المُكوِّنات الثقافيَّة وتعظيم دَوْرها وحضورها في تحقيق التحوُّل الشَّامل، وتوجيهها نَحْوَ تعزيز اقتصاد الثَّقافة لِيُشكِّلَ رقمًا صعبًا وحضورًا نَوْعيًّا في النَّاتج المحلِّي والموازنة العامَّة للدَّولة، محطَّات نستلهم مِنْها إنتاجيَّة الثقافة، ودَوْرها الاقتصادي، وأهمِّية أن يُشكِّلَ هذا المجمَّع فرصة لتكامل الجهود وتفاعل الأُطر وتقاسم المسؤوليَّات، وتعميق مسار المهنيَّة والاحترافيَّة والكفاءة في المنتج الثقافي، في ظلِّ سعيِ سلطنة عُمان إلى تنفيذ مبادرات تنمويَّة جادَّة تُعزِّز من الاقتصاد المعرفي والاقتصاد الرَّقمي واعتماد السِّياسة الوطنيَّة للمحتوى المحلِّي الَّذي يهدف إلى إيجاد منظومة وطنيَّة متكاملة تتولى تنظيم ومتابعة المحتوى المحلِّي في مختلف القِطاعات ومِنْها قِطاع الثقافة، وبما يؤسِّس لمرحلة متقدِّمة في بناء أدوات وآليَّات واستراتيجيَّات أداء تُعِيد قراءة الإنتاج الثقافي في سلطنة عُمان باعتباره رديفًا للتنمية ومشاركًا فيها ومُسهِمًا في توفير نجاحاتها، كما يُعِيد قراءة الثقافة في العقل الاجتماعي وعَبْرَ تعظيم إنتاجيَّة الثقافة الأصيلة والانتقال بها من الاستهلاكيَّة إلى الإنتاجيَّة، وصناعة التغيير واستلهام روح المنافسة بَيْنَ مُكوِّنات الثقافة، ويعكس في الوقت نَفْسه جهود الحكومة في تعزيز فرص التنويع الاقتصادي؛ ورسم الخريطة الاقتصاديَّة الوطنيَّة المنطلقة من توظيف المُكوِّنات الثقافيَّة العُمانيَّة والثروات الفكريَّة والمعنويَّة في إعادة هندسة الممارسة الاقتصاديَّة، وإنتاج المسار الثقافي الَّذي يعَبِّر عن هُوِيَّة المُجتمع العُماني، ونقله من كونه حالة ثقافيَّة مجرَّدة تختصُّ بمُكوِّنات الثقافة، إلى كونها بيئة إنتاجيَّة حاضنة للإبداع والابتكار وتجديد الوعي وإنتاج الفرص وأفضل الممارسات المجيدة والنماذج الثقافيَّة، في رسم ملامح استدامة الاقتصاد الوطني والتنويع.
وبالتَّالي فإنَّ وضع حجر الأساس لمجمَّع عُمان الثقافي يعَبِّر عن رؤية استشرافيَّة سامية لجلالة السُّلطان المُعظَّم بِدَوْر الثقافة والفنون والآداب والفكر النَّاضج في صناعة التغيير واستمطار الأفكار واستنطاق القِيَم واستنهاض الدوافع، وإعادة إنتاج وتوجيه الموارد بطريقة ذكيَّة تصبح فيها الثقافة وسيلة إنتاج وطريق قوَّة ومدخلًا للبناء الاقتصادي والاستدامة، واستشعارًا حصيفًا من جلالة السُّلطان المُعظَّم ـ وهو الَّذي قاد منظومة الثقافة والتراث والفنون والأدب في وزارة التراث والثقافة لِمَا يقرب من عقدَيْنِ من الزمان ـ في ظلِّ اقتصاد المعرفة من أهمِّية الأصول الفكريَّة والثقافيَّة والفنيَّة غير المادِّيَّة، وما توفِّره عمليَّات التسويق لها ونقلها وإعادة إنتاجها من فرص لنُموِّ وتنشيط حركة برامج التعليم والتثقيف والإعلام والبحث العلمي والابتكار والريادة، لِتُشكِّلَ اليوم أهمِّية كبرى في دعم الاقتصاد، وإضافة استثمارات عالية النتائج في المنظومة الاقتصاديَّة، لذلك أصبح التَّعاطي مع المسار الثقافي اليوم أكثر تناغمًا مع متطلبات اقتصاد المعرفة، وتعزيز دَوْر الثقافة كمنتج استثماري واقتصادي واعد، تتعدد نواتجه وتتنوَّع استخداماته؛ فإنَّ التراث الثقافي العُماني بما يُمثِّله في إطاره المادِّي من قلاع وحصون وبيوت ومواقع أثريَّة وتاريخيَّة ومساجد ومتاحف ومجالس وأفلاج ومُدُن حضاريَّة، أو في إطاره غير المادِّي بما تضمَّنه من جملة الثوابت والمبادئ والقِيَم والعادات والتقاليد والآداب والفنون والأخلاق والمفردات والمفاهيم وإعلام عُمان والعلماء والمصلحين وغيرها من أساليب العيش وألوان المأكل والمشرب، وطُرق تقديمها، وطرائق التعبير في المناسبات الدينيَّة والوطنيَّة والاجتماعيَّة، والموسيقى والأفراح وأشكالها، والآداب الاجتماعيَّة ومدلولاتها الشَّعبيَّة العميقة، وأنماط الحياة والعلاقات العالية والأُسريَّة، وعوامل الإنتاج وطُرق الكسب في الزراعة والصناعة والحِرف التقليديَّة، والأدوات الخام الَّتي استخدمها العُمانيون في السعفيَّات والخزفيَّات والفخاريَّات، ونظام الأفلاج في أبعادها الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة والتنظيميَّة والتخطيطيَّة، وعمليَّات تنظيمها وطُرق شقِّ سواقيها أو انتقاء أماكنها وفق تخطيط هندسي بديع، يُضاف إليها القلاع والحصون في تحصيناتها وأشكالها الهندسيَّة والمعماريَّة وزخارفها، وما اتَّسم به التراث البحري من معالِم ومفردات بحريَّة وأشكال التعبير الثقافي البحري وأنواع السُّفن، وغيرها كثير، محطَّات نَوْعيَّة وشواهد إثبات على نهضة العُمانيِّين وتفوُّقهم وحضارتهم الشَّامخة، وتنوُّع هذا التراث الثقافي وعُمق ما يحمله من فرص استثماريَّة وقِيمة اقتصاديَّة مضافة في مستقبل الأُمَّة العُمانيَّة.
وعَلَيْه، يستهدف مجمَّع عُمان الثقافي إعادة الإنتاج الثقافي وتطويره بما يتناغم مع منظومة الاستثمار للمستقبل، فرصًا وطنيَّة لتعظيم برامج الترويج والتسويق والتوظيف للموارد الثقافيَّة عَبْرَ إشاعة فرص الاستثمار الأمثل للثقافة، وإضافة اللمسات الجَماليَّة والذَّائقة الأخلاقيَّة والقِيَميَّة، وإحاطتها بمنظومة متكاملة من الموجِّهات والمبادئ والمُثل والنَّماذج والمعايير الَّتي تحافظ على انسجامها مع أولويَّات الإنسان وصون حقوقه، وتتعايش مع مستجدَّات الواقع الَّذي يعيشه وتضبط توجُّهاته، وتكييف الثقافة مع معطيات الواقع الاقتصادي والاجتماعي بالشَّكل الَّذي ينظر للتراث الثقافي كجزء من أصالة الإنسان العُماني، ومنطلق له للدخول في معركة التحوُّلات الحاصلة في عالَمه، مع مزيدٍ من التمحيص والتقنين والتحليل لمحطَّاته المختلفة، بما يضْمَن ربطه بمفاصل السِّياسات والاستراتيجيَّات والخطط الوطنيَّة، سواء في مجال السِّياحة أو في صون التراث الثقافي وحفظه، وتعميق حضوره في فلسفة بناء الإنسان العُماني، وتعزيز حضور السِّياحة الثقافيَّة والتراثيَّة والاهتمام الوطني بها، عَبْرَ تجسيد رؤية الاستثمار الاقتصادي في الثقافة وتوجيهها لخدمة أغراض التنمية، وتعزيز صناعة الثقافة وتوفير أدوات الإنتاج الإعلامي لها وترقية فرص المنافسة فيها، وتوجيهها لغرض زيادة مستوى الاستثمار الاقتصادي فيها، سواء في القِطاع السِّياحي أو البحوث العلميَّة الاستراتيجيَّة وبحوث الطَّاقة المتجدِّدة، بشكلٍ يُعزِّز من حضورها في استراتيجيَّات التنويع الاقتصادي، وتشجيع الشَّباب العُماني الباحث عن عمل وروَّاد الأعمال على تأسيس الشركات المساهمة في الإنتاج الثقافي والإعلامي والأدبي.
من هنا نقرأ اليوم في هذه الرؤية السَّامية المستنيرة لجلالة السُّلطان المُعظَّم نَحْوَ تجميع هذه المُكوِّنات الثقافيَّة في مجمَّع واحد، وتركيز المجمَّع من خلال أهدافه على التطبيقات العمليَّة والبرامج النَّوْعيَّة في خلق صورة متكاملة للمنتج الثقافي القادم وارتباطه بالاقتصاد المعرفي، مدخلًا لتعظيم أثره وتأكيد دَوْره، وتحجيم كُلِّ العراقيل والتحدِّيات الَّتي قَدْ تقِف في مسارات التطوير في هذا القِطاع، الأمْرُ الَّذي يضْمَن لهذه المُكوِّنات الفاعليَّة والكفاءة والإنتاجيَّة وتنشيط حركتها لِتُشكِّلَ عاملًا مُهِمًّا نَحْوَ تعزيز اقتصاد الثقافة الَّذي سيكُونُ مدخلًا لتوطين صناعة اقتصاد الثقافة وما يرتبط بها من اقتصاد السِّياحة واقتصاد القِيَم واقتصاد العادات والتقاليد واقتصاد الإعلام واقتصاد الكتاب واقتصاد الموسيقى واقتصاد المحتوى الإعلامي، لِتصبحَ بيت خبرة وطنيَّة وإقليميَّة وعالَميَّة في بناء سياسات وطنيَّة ناضجة وخطط وبرامج تعمل على التثمير في هذه المُكوِّنات لضمانِ بناء الخبرات وإنتاج القدرات وصناعة القدوات وتجسيد اقتصاد الثقافة في واقع الممارسة الثقافيَّة؛ فإنَّ بناء إطار منهجي واضح لتعظيم الثقافة والأنشطة الثقافيَّة في الناشئة العُمانيَّة من شأنه أن يُعزِّزَ من مهنيَّة التعاطي مع الأنشطة ذاتها والتنوُّع فيها وإيجاد المحترفين الَّذين يقدِّمون الثقافة في روح متجدِّدة وأُطر أخلاقيَّة، تتجاوز حدود التطبيل والتَّصفيق والغِناء والرَّقص إلى تبنِّي روح التراث وجوهر الثقافة في النَّفْس، والقناعة به كمدخل للتغيير في العادات اليوميَّة، وإنتاجه في إطار سلوك وطني يقوم على إتقانه المخلصون والمبدعون والمتميِّزون والمتفوِّقون من أبناء الوطن، وهو ما يضعها أمام تقييم مستمرٍّ لأُطرها وصناعة الجودة في محتواها وبحث مستمرٍّ عن الاستدامة والتنويع فيما تقدِّمه من أنشطة وبرامج ومساحات للترويح وميزات للإبهار، مستفيدة من المواسم الثقافيَّة والوطنيَّة والبيئيَّة فرصتها في تعزيز القِيمة المضافة للتراث الثقافي لرسم ملامح اقتصاد المعرفة، وتعزيز حضور المنتج الثقافي بمختلف أشكاله وتعابيره ومفرداته في المنظومة الاقتصاديَّة الوطنيَّة وتشجيع الفرص الاستثماريَّة فيها.
أخيرًا، يبقى الرهان على الصورة القادمة الَّتي سيصنعها مجمَّع عُمان الثقافي في قيادة المسار الثقافي في سلطنة عُمان وإدارته وضبطه وإيجاد التشريعات الَّتي تحافظ على إنتاجيَّته، من خلال تبنِّي سياسات تعزيز الممارسة الثقافيَّة في بيئات التعليم والتعلُّم في المدارس والجامعات، وإبرازها للأنشطة الثقافيَّة كالمسرح والقصَّة والرواية والأمسيات الشِّعريَّة واللقاءات الثقافيَّة والمعارض والمبادرات وغيرها بما يؤسِّس لمرحلة متقدِّمة من الشراكة العمليَّة والنَّماذج المشتركة الَّتي تستلهم معاني الابتكاريَّة والتجديد والاحترافيَّة والمهنيَّة في المُكوِّن الثقافي، الأمْرُ الَّذي سينعكس على حجم التغيير الَّذي تشهده الممارسة الثقافيَّة في المُجتمع عامَّة من خلال تنشيط دَوْر مؤسَّسات المُجتمع المَدَني والنَّوادي الثقافيَّة والأدبيَّة والفِرق الفنيَّة والجمعيَّات الأدبيَّة والمهنيَّة والصَّالونات الثقافيَّة والإعلاميَّة وغيرها في احترافيَّة الممارسة الثقافيَّة، والبدائل الَّتي تطرحها، والنماذج الثقافيَّة الَّتي تبتكرها، والصورة الذهنيَّة الَّتي تقدِّمها حَوْلَ اقتصاد الثقافة وإضافته إلى قوائم التنويع الاقتصادي الأخرى في سلطنة عُمان.
د.رجب بن علي العويسي