ما تشهده منطقة الشرق الأوسط هذه الأيام يكاد يختصر التاريخ البشري بسيرورته وصيرورته. وإذا كان بعض من امتهنوا الردح حينًا وجلد الذات أحيانًا أخرى قد راق لهم تسويق ما يرتكبه دعاة الشر من جرائم يندى لها جبين الإنسانية، فعلى أولئك ألا يسقطوا من حساباتهم أنه على الضفّة المقابلة في معسكر القتلة ومصاصي الدماء من يرى الحقيقة كما هي، ويخشى تبلورها أكثر فأكثر، فالواقع بتداعياته وتجلياته يؤكد أن مسرح عمليات المواجهة المفتوحة على كلّ الاحتمالات مزدحم بمدخلاته وتشابكاته، ولم يستطع محور الظلاميين الجدد فرض أجندته ولن يستطيع، فالاشتباك لما يبلغ الذروة بعد، ومحور المقاومة الممتد والمتواصل بتكامل أدائه الكلي استطاع أن يفرض على الجميع بمن فيهم كبير السحرة التريث والحذر في أية مقامرة أو مغامرة قبل الإقدام عليها. وتكفي هنا الإشارة إلى المواجهة المفتوحة بثلاث جبهات أخذ رجالها على عاتقهم مهمّة مقارعة حلف الشيطان والطواغيت في الميدان القتالي، وهم مطمئنون أن بقية أقطاب محور المقاومة قادرون على إعادة هندسة معالم ما قد تسفر عنه هذه الجولة الجديدة من الصراع بما يساهم في اقتلاع مخالب الوحوش المسعورة وتكسير أكبر قدر ممكن من أنيابها السامة بموجب معطيات اشتباك ثلاثي الجبهات المفتوحة لمساندة المقاومة الفلسطينية في غزّة التي تشكّل جوهر القضية ومركز الاهتمام، وقد أدت ما عليها تأديته على الوجه الأكمل، ووجهت اللكمة الأشد إيلامًا إلى وجه المحتل الصهيوني المتغطرس، وعفرت وجوه جنرالاته ومسؤوليه السياسيين والعسكريين والأمنيين بأوحال الذلة والتخبط وفقدان التوازن، ولعلّ من الثمار الباكورية الإضافية لطوفان الأقصى تكامل أضلاع مثلث مقاوم مشتبك للحفاظ على ألق ما أنجزته ملحمة الطوفان في السابع من تشرين الأول 2023م، ويمكن الإشارة هنا إلى عدد من الأفكار التي تساعد على توضيح الصورة، ومنها:
- مع بزوغ فجر الثامن من تشرين الأول أي في اليوم التالي لملحمة الطوفان اتضحت معالم الضلع الأولى المساندة لغزّة الأبية عبر جنوب لبنان المقاوم الذي اشتعلت جبهته من رأس الناقورة إلى أطراف جبل الشيخ أي على امتداد أكثر من مئة كم، وأرغم العدوّ الإسرائيلي على تخصيص ثلاث فرق عسكرية معززة للتعامل مع الواقع الجديد المفروض، فالرعب الذي سكن جنود الاحتلال ومستوطنيهم من إمكانية تكرار سيناريو السابع من تشرين الأول تضاعف بشكل تلقائي، وكيف لا، و”قوات الرضوان” تنتشر على طول امتداد الحدود، ومجرد ذكر اسم “قوة الرضوان” كفيل بإحباط معنويات الكيان المتعثر أساسًا والمتخبط في الخروج من هول الصدمة التي لا يمكنه التعامل مع تداعياتها، لا بتقبل الواقع الجديد، ولا بتغيير معالمه التي ارتسمت وغدت حقيقة قائمة على أرض الواقع، وحيثما تلوح بيارق قوة الرضوان ينتشر الهلع والرعب وترى الجميع سكارى كحاطب ظلماء لا يدرون ما تخبئه الساعات القادمة لهم، لكنّهم على يقين جميعًا من كارثية ما ينتظرهم، فإذا قررت “قوات الرضوان” التوغل والاقتحام فلا طاقة بمنع وصولها إلى حيفا وما بعد حيفا، كما أن هاجس الخوف والترقب سرعان ما يبلغ مؤشره مستويات غير مسبوقة مع كلّ إطلالة لسماحة السيد حسن نصر الله حفظه المولى وحماه، فيتسمر الكيان المؤقت بكلّ مكوناته أمام الشاشة، يتابع بقلق وارتباك خطاب سماحته، وما أن ينتهي الخطاب حتّى يتبادل المسؤولون الصهاينة الاتهامات وتتناقض التصريحات عبر مروحة واسعة من التهديد إلى التحذير، إلى التخوف والخشية، إلى استجداء رأس الأفعى الأميركية للململة ما يمكن لملمته وهو نذر يسير، بغضّ النظر عن كثرة الموفدين والزائرين وحاملي الرسائل على أمل تخفيض السقف الذي رفعه حزب الله ولكن هيهات هيهات، فلا إغراءات تفيد، ولا تهديدات تفلح في حرف البوصلة المرتبطة مغناطيسيًا بغزّة وشعبها الصابر رغم الجراح التي لا تحتمل، ولا وقف لإطلاق النار على أية جبهة مساندة قبل وقفه في غزّة، ولا تهدئة إلا بعد تثبيت انتصار المقاومة الفلسطينية، وإذا لم يعجب المايسترو الأميركي ذلك فليكن الطوفان.
- الضلع الثانية لمثلث الصمود والإرادة ومقابلة التحدّي بالتحدي ارتسم بوضوح عبر الجغرافيا العراقية وبخاصة على جانبي الحدود السورية ـــ العراقية، والصفعة جاءت مدوية من هذه الجبهة لأنها تجاوزت الوكيل إلى الأصيل، فغدا استهداف القواعد الأميركية المنتشرة في المنطقة عنوان الرد على العدوانية الأميركية المناصرة لإرهاب الكيان المؤقت، وعندما رفعت واشنطن السقوف وانخرطت بشكل مباشر، ومنعت بقوة “الفيتو” مجلس الأمن الدولي وهيئاته المختصة من فرض وقف إطلاق النار ظهر الإبداع بإيجاد البديل الممكن للخروج من حالة الاستعصاء المزمن عبر رفع السقف باستهداف قواعد الاحتلال الأميركي، فرفع الأميركي سقف تهديداته، وأقدم على حماقة جديدة باستهداف المقاومة الشعبية العراقية بشكل مباشر، فجاء الرد المقاوم على عكس ما يشتهي شاغل البيت الأبيض، وغدا العنوان الأبرز للرد المطلوب شعبيًا محصورًا بإخراج القوات الأميركية من المنطقة، ولن يفلح الخبث الأميركي في إطالة أمد التوصل إلى اتفاق أو تفاهم لسحب قواته التي لا مبرر لوجودها أصلًا، فالشعب العراقي منذ سنوات قال كلمته عبر برلمانه الذي أجمع على إخراج تلك القوات.
- الضلع الثالثة المتكاملة مع شقيقتيها يمثلها اليمن العزيز الصامد المقتدر الذي قال وفعل.. اليمن الخارج من حرب ظالمة فرضت عليه على امتداد أكثر من ثمانية أعوام ولم تفلح في مصادرة إرادة أبنائه.. اليمن الذي هاله أن يرى غزّة وشعبها في حصار جائر لم تشهد له البشرية مثيلًا، حيث قطع الماء والغذاء والدواء وكلّ أسباب الحياة بالتزامن مع وحشية مفرطة في القتل وحرب الإبادة وتدمير كلّ المرافق والبنى التحتية، ومحاولة تحويل قطاع غزّة بأكمله إلى بقعة جغرافية غير صالحة للحياة، وعجز المجتمع الدولي بكلّ هيئاته ومنظماته عن الحد من العدوانية الإسرائيلية المدعومة أميركيًا، فكان القرار بفرض الحصار على من يحاصر غزّة، وأعلن اليمنيون إغلاق باب المندب والبحر الأحمر أمام السفن الإسرائيلية وجميع السفن المتجهة إلى الموانئ في كيان الاحتلال، ومع إصرار واشنطن ولندن على مناصرة الوحشية الإسرائيلية تم توسيع دائرة الاستهداف في القرار اليمني لتشمل جميع السفن والقطع البحرية الأميركية والبريطانية، وتم استهداف السفن التي لم تستجب للشروط اليمنية وإعلانهم المسؤولية عن كلّ ما ينفذونه بفخر واعتزاز، وهذا بحد ذاته يشكّل متغيرًا جيوبوليتيكيا أساسيًا في قواعد الصراع، وإعادة إرساء توازنات جديدة لا تستطيع أن تسقط من حساباتها الدور الجوهري لمحور المقاومة على امتداد سنوات هذا الصراع المزمن.
- كل ما ذكر سابقًا لا يعني أن أطراف محور المقاومة مرتاحة، أو أنها بمنأى عن التحديات التي قد تتحول إلى أخطار وتهديدات وجودية تتطلب التعامل معها بمنتهى الجدية والمسؤولية وتحسس مكامن الخطر ونقاط الوهن الموضوعية التي قد يعمد العدوّ إلى الاتكاء عليها واستغلالها لتحقيق أهدافه الشريرة وأطماعه التي لا حدود لها، وجميعها تنطلق من قاسم مشترك وهو ضمان ما يسمّى “أمن الكيان الصهيوني” وهذا يعني التنكر لأمن جميع الدول والشعوب في المنطقة، فتحصين كيان الاحتلال وأمنه يعني التنكر للحقوق الفلسطينية، أي استمرار الصراع على هذا المستوى العالي من الحدية والخطورة التي تفرض على محور المقاومة إعداد ما يلزم للحفاظ على الهوية ومقومات الوجود في زمن تشويه الهويات واجتياح كلّ معالم السيادة من قبل النيوليبرالية وما تشكله من أخطار وجودية لا تستثني منها أي طرف قط، بما في ذلك تلك الأطراف الدائرة في الفلك الصهيو ــ أميركي، فكيف بمن يعلن الاصطفاف على الضفّة المقابلة في مواجهة الغطرسة الأميركية، والعربدة الإسرائيلية المنفلتة من كلّ عقال؟
- الأثافي لغة جمع “إثْفِيّة” و”الأثفية” بمدلولها المعجمي هي (الحجر يوضع عليه القدر للطبخ، وثالثة الأثافي القطعة من الجبل إلى جانبها إثفيتان وتكون هي الثالثة)، وقد تم استخدام مصطلح “ثالثة الأثافي عند العرب كناية عن الشرّ كله. قالوا: رماه بثالثة الأثافي أي بالشر كله أو بما يهلكه، وثالثة الأثافي التي يمثلها الكيان الصهيوني تتلخص في الجوهر العنصري المتطرّف لغالبية المستوطنين الذين تم تجميعهم من كلّ أصقاع الكون، ويخطئ من يظن أو يتوهم أن في الداخل الإسرائيلي من يحتكم إلى المنطق والعقلانية عندما يتعلق الأمر بالوجود الفلسطيني لأبناء الأرض وأصحابها، فاليمين الإسرائيلي ينطلق في عنصريته ووحشية سلوكه من خلفية عقائدية موغلة في التطرّف ونبذ الآخر والعمل على إفنائه أو تسخيره لخدمة “شعب الله المختار” أصحاب “الدماء النقية”، ومن العبث التفكير بتعديل المواقف المتطرّفة لليمين المتصهين الذي يشكّل العمود الفقري لحكومة نتنياهو، لأن الخلفية العقائدية المتراكمة منذ ولادة كلّ من أولئك تقوم على الإيمان بنصوص تبيح القتل والإفناء، واطلاع سريع على الأسفار المتعددة في التوراة المعتمدة التي تدعو إلى قتل الأطفال والنساء وإفساد الزرع والحرث والنسل بلا رحمة أو شفقة كفيلة بتوضيح الصورة، فابن غفير وسموتريتش ونتنياهو وغيرهم من العنصريين الصهاينة مسكونون حتّى النخاع بتلك النصوص، كما أن تهجير كلّ الفلسطينيين من كامل فلسطين كان ويبقى هدفًا صهيونيًا يحتل الأولوية في الاستراتيجية الإسرائيلية، وهو مرتبط بالكذبة الكبرى التي أقيم الكيان المؤقت بموجبها والمتضمنة: (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)، وبالتالي الجهود الإسرائيلية لدى الغالبية الساحقة للمستوطنين مركزة على تهجير الفلسطينيين، وهذا ما أشار إليه سماحة السيد حسن نصر الله في كلمته في مهرجان القادة الشهداء الذي أقامه حزب الله بتاريخ 16/2/2024م. حيث قال: (الهدف الإسرائيلي وهذا ليس هدف نتنياهو بالمناسبة وليس هدف اليمين المتطرّف فقط، وإنما هو هدف أغلب القوى السياسية الإسرائيلية…. الهدف الذي كان يعمل له منذ سنوات ولكن ببطء وبتدريج هو تهجير الفلسطينيين من فلسطين المحتلة، تهجير أهل غزّة من غزّة، تهجير أهل الضفّة من الضفّة وصولًا إلى تهجير حتّى أهل ال48 وإقامة دولة يهودية، هم وضعوا قانون يهودية الدولة، “إسرائيل” دولة خالصة دولة قومية لليهود، وهذا الفلسطيني دعه يرحل، أهل الضفّة إلى الأردن هي الوطن البديل، وأهل غزّة إلى مصر وأهل ال48 إلى لبنان…).
- الأثفية الثانية في موقد الشر والأخطار الصهيونية تمثلها الإدارة الأميركية التي لا تقل إجرامًا عن حكومة نتنياهو. المتطرّفة، لا بل تفوقها في الحرص على تصفية القضية الفلسطينية، وقد أشار سماحة السيد حسن نصر الله إلى هذا الأمر عندما قال: (الإدارة الأميركية هي المسؤولة، نتنياهو وغالانت ومالانت ولا اعرف من؟ هؤلاء أدوات تنفيذ، ربما يكون هناك خلاف له علاقة بإدارة الموقف، له علاقة بالمراحل، له علاقة بالشطارة، له علاقة بالخداع بالمكر بالاحتيال أما الهدف فهو هدف واضح، و”إسرائيل” هي صنيعة أميركا، هي قاعدة أميركا في المنطقة.)، ولو أن إدارة بايدن تعلن اليوم مجرد إعلان أنها غير معنية بما تؤول إليه تداعيات المواجهة في غزّة، لكان الخطاب الإسرائيلي بكليته يتبدل، وما كان بإمكان “تل أبيب” أن تستمر في وحشيتها وجرائمها لشهر واحد لولا الدعم الأميركي اللامحدود، بل والانخراط الأميركي المباشر في قيادة الأعمال القتالية وضمان استمراريتها، مع ضمان شل إرادة المجتمع الدولي وتعطيل أية مساعٍ لبلورة أي موقف يقلل من وتيرة القتل والتدمير وحرب الإبادة التي تنفذها حكومة نتنياهو، وكلّ ما يتعلق ببعض التصريحات الكلامية التي يطلقها المسؤولون الأميركيون عن عدم رضاهم بالإبادة الجماعية التي تنفذها حكومة نتنياهو ليست أكثر من دموع تماسيح لا تغير من حقيقة التوحش المتأصل لدى اليانكي الأميركي.
- أما الأثفية الثالثة فهي الوضع العربي المترهل والمتردي، والتبعية العلنية والسرية عند غالبية نظم الحكم العربية لما تريده واشنطن، وهذا لا يقتصر على الدول التي أعلنت عن تطبيع علاقاتها مع كيان الاحتلال، بل يشمل غالبية الدول العربية، وليس هذا فحسب، بل إن الموقف الفلسطيني نفسه منقسم على ذاته، وبعض الفلسطينيين ينفذ بحماس ما تريده “تل أبيب”. وعلينا ألا ننسى أن التنسيق الأمني بين بعض أجهزة السلطة الفلسطينية وأخرى إسرائيلية يجعل المتابع العادي لا يملك إلا أن يطلق الزفرات، ومن استمع إلى وزير الخارجية المصري مؤخرًا، وهو يتحدث عن أن حماس خارج الصف الفلسطيني، وضرورة معاقبة من أمدها بأسباب القوّة التي تدافع بها عن وجودها يدرك حقيقة التحديات المصيرية والتهديدات الوجودية التي تواجه المقاومة الفلسطينية بخاصة، وجميع أقطاب محور المقاومة بعامة، فالعنوان العريض الواضح يشير إلى أن جهودًا حثيثة تبذل لإعادة ترتيب منطقة الشرق الأوسط بشكل جديد، وما تزال واشنطن وكلّ من يدور في فلكها عاجزة عن فرضه، وسيتفاقم هذا العجز طردا مع قدرة محور المقاومة على التخفيف من التأثيرات السلبية للأثافي الثلاث، وهذا لا يكون بين يوم وليلة، بل وفق رؤية استراتيجية وعمل ممنهج وهادف، وضمن رؤية علمية وشاملة تأخذ بالحسبان عوامل القوّة والضعف، وتجيد ترتيب الأولويات انطلاقًا من أن أخطار العنصرية الصهيونية لن تستثني من يحرصون على كسب رضا “تل أبيب”، لأن رضاها مشروط بفرض هيمنتها المطلقة على كامل المنطقة. أي في حال تمكّنت الوحشية الإسرائيلية ــــ وهي لن تتمكّن ــــ من تنفيذ أجندتها ضدّ غزّة فلن تتردّد الكوبرا الصهيونية من لدغ الجميع وحقن سمومها القاتلة في أوردة أقرب من تماهوا مع سياستها العدوانية الإقصائية، وعلى أولئك أن يبقوا هذا السيناريو فوق الطاولة. أما محور المقاومة فيكفيه فخرًا أنه منع تفرد واشنطن في المنطقة وهيأ البيئة الاستراتيجية المطلوبة للانتقال من نظام أحادية القطب إلى نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب ما تزال معالمه قيد التبلور، ومن الطبيعي أن يكون لمن كان الرحم الحاضنة للتشكّل المأمول مكانه ومكانته في النظام الوليد المنتظر.
د. حسن أحمد حسن