دائمًا ما تُحيرنا النفس البشرية بتوجهاتها وأفكارها، فمنذ أن خلق الله الإنسان، وهذه النفس تنطلق يمينًا ويسارًا، بحثًا عن الذات، وسعيًا وراء اكتشاف المجهول الكامن في بواطن هذه النفس، لكن يبدو أن عملية البحث- وإن طالت- لن تُجدي نفعًا، ولن تصل بنا إلى الطريق المنشود، أو تُخبرنا بما نود معرفته، فما تزال أسرار هذه النفس عصية على فك شفراتها، وصعبة المنال!
أقول ذلك وأنا أُمعن التفكير في أحوال النَّاس، عندما أستمع إلى قصصٍ وحكايات الكثيرين، سواء الذين تربطني بهم معرفة مباشرة أو أولئك الذين نقرأ عنهم في الروايات والقصص، غير أن المُلاحظ أن كلاهما لا يختلفان، فالقصص الإنسانية تتشابه، وإن اختلفت الظروف والمُعطيات والمقدمات، لكن غالبًا ما تكون النتائج مُتشابهة. والتفسير الذي أراه منطقيًا في هذه الحالة، أن النفس البشرية جُبلت على سلوك بشري لم يتغير منذ آدم وحواء، وقابيل وهابيل، وحتى عصرنا هذا، والتي ربما كُتِب عليها الحيرة والشقاء في مختلف دروب الحياة. لكن هذا الشقاء الذي قد يراه البعض ألمًا ومشقة ووجعًا، يجب أن ننظر إليه على أنه منحة إلهية من الله عز وجل، كي يختبرنا ويختبر مشاعرنا، ونكون قادرين على تجاوز التحديات، والوصول إلى الأهداف وتحقيق النجاح الذي نريده ونسعى له.
وهناك الكثير من الأسئلة التي تراود العقل البشري بين الحين والآخر، وهذه الأسئلة منها ما هو منطقي ومنها ما هو بعيد عن المنطق، لكنها تأخذ الحيز الكبير من تفكيرنا، وتُشعل مشاعرنا، خاصة إذا ما كُنا نمر بمرحلة من الارتباك والتناقض في أحيانٍ كثيرة. والسؤال الذي يشغل بال الكثير منَّا هو “لماذا أنا بالذات دون غيري؟”، وهو ليس سؤالًا اعتراضيًا على مشيئة الله أو القدر المحتوم، لكنه استفسار عن أسباب حدوث مواقف بعنيها في توقيتات محددة، مع أشخاص بعينهم!
عادة ما نطرح الأسئلة كي نحصل على إجابات، وربما يكون الحصول على هذه الإجابات بطريقة مباشرة أو أننا قد نحصل عليها مصادفةً من تجارب الآخرين التي نتعلم منها بالمجان! لكن ما الذي يجعل شخصاً يفضل شخصًا دون غيره؟ ما الذي قد يجذب إنسانًا لإنسان آخر؟ ما الذي قد يُشعل جذوة الحب والاشتياق في قلب أحدهم تجاه شخص آخر؟ هل فقط التوافق والتشابه في التفكير والميول؟ أم نرمي كل شيء على الأقدار التي لا مهرب منها؟
لذلك قد يحب أحدنا شخصًا لأنه مميز، بينما يراه الآخرون إنسانًا عاديًا لا ميزة فيه! والأمر نفسه على البلاد المنتشرة في أرض الله، لماذا ننجذب لبلد دون آخر؟ الأمر لا يعود فقط إلى كثرة المواقع السياحية أو تنوع المأكولات أو المشاريع الترفيهية، فهذه كلها موجودة في أنحاء العالم، لكن المؤكد أن هناك أسباباً خفية، أعزوها دائمًا إلى “كيمياء الروح”، هذه الكيمياء بمثابة طاقة خفية تسري في أجسادنا، تتنافر أو تتجاذب مع الشخوص والأماكن، تشعر بالقرب أو البعد من الآخرين ليس بناءً على التصرفات أو الموقع الجغرافي، ولكن اعتمادًا على المسافة الروحية والوجدانية التي تفصل بينها وبين الآخرين.
في كثير من المواقف أنصح صديقاتي وأخواتي والمقربين لي، بأن لا يُطيل التفكير في الأمور التي لا يعلم كيف تحدث في حياته، بل يترك نفسه يتفاعل ويتعايش مع ما يحدث من حوله، دون أن يترك الحبل على الغارب، ويتحول إلى إمّعة أو يمتطي جواد هواه، أو يهيم بين دروب الحياة في غفلة وتغافل وجهل، وإنما يُعمل عقله وفكره، ويختبر قلبه ومشاعره، فإذا ما استقر الرأي والمقام عند فكرة بعينها، أو بالقرب من شخص مُحدد، فليتمسّك به، ولينفذ كل ما في صالحه وصالح الآخر الذي يُشاركه الحياة بكل طيب خاطر.
إلى الذين يُعانون من اضطراب المشاعر، وإلى أولئك الذين يبحثون عن السعادة في كل أركان الحياة، وإلى كل الراغبين في الاستقرار النفسي والعاطفي، صدِّقوا قلوبكم وعقولكم، لا تتركوا المجال للعقل كي يُلجم تحركاتكم أو يكبح مشاعركم، وأيضًا لا تسمحوا للقلب أن يُسقطكم في أعماق الوهم أو يدفعكم إلى بئر سحيق من التيه والغفلة.. وازِنوا بين سُلطة العقل وقوة القلب، لتنجحوا في حياتكم.
مدرين المكتومية