لا تزالُ أحداثُ أيامِنا تنطقُ يآياتِ الكتابِ الحكيم، وكأنما تجردتْ شيخًا وقورا متكئا على أريكة، يرسم بأطراف بَنَانِه الآيَ على الأفق، ثم يقذفها على فئاتٍ بعينها، طوفانا مع طوفان الأقصى، معرِّيا لها، كما عرّى أسلافَها الأقدمين، يفضحها كما فضحهم..
تَتَبَدَّى اليومَ هذهِ الآياتُ في سورة الماعون، التي تستهل بسؤالٍ تحفيزيٍّ عميقٍ للقارئ: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1))، ولم يقُلْ بالإسلام مثلا، أو بالإيمان، بل قال بالدين، بالمقام العالي والعام، الذي يقف فيه المرءُ، فيُدينه يومَها عملُه أو يُعتِقُه، فالتكذيبُ بذلك اليومِ هو تكذيبٌ بحسابٍ قادم، والتكذيبُ به يعني إطلاقَ اليد للمكذبين -لا سيما إن امتلكوا المالَ والسلطةَ والنفوذ- لفعل ما يشاؤون، ولكون تكذيبِ الدين شيئا عقديا داخليا غير مرئي – إلا أَنْ يُقِرَّه صاحبُه- فله أثر مجرد، وقد جاءت الآيةُ الثانيةُ بهذا الأثر، الذي يستطيع به المرءُ معرفةَ هذا المُكَذِّبِ، فقال: (فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2))… نعم.. يَدُعُّ اليتيمَ الذي انْهَدَّ رُكْنَاه أو أحدُهما، هو أضعفُ خَلْقِ الإنسان، وأدعاهم للرحمة، إلا أنّ المُكذَّبَ بالدين، المغرورَ بذاته وسطوته، منزوعةٌ منه الرحمةُ لأكثرِ البشر استحقاقا لها، لليتيم، فيَدُعُّه ويَتُعُه (أي يدفعه) ويقسوا عليه، فجَرَّم اللهُ أقلَّ الأمر (دَفْعَ اليتيم)، كما جرَّمَ قولَ “أفٍّ” للوالدين، فكيف بما هو فوقَه، من قهرٍ وجورٍ وظلمٍ، وللمسكين المنقطع عن أسباب الحياة، فيُضَيَّقُ عليه فوق ضيقه: (وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3))
ثم يأتي مَنْ ظَاهِرُه الإيمانُ بالدين (ولو كان باطنُه التكذيبَ به)، من خلال صلاتهم التي يأتونها، فابتدرهم الله بالويل لهم، فقال: ( فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4))، وذلك لأن أذاهم أذهبُ من الأوائل (المكذبين، ظاهري التكذيب) وأشدُّ، وأثرُهم أكبرُ وأعتى، فالأوائلُ معروفون، وقد ينطقون بذلك ولا يخجلون، وبينهم وبين المؤمنين بَرزخٌ وحِجرٌ محجور، ولكنّ الأخيرين جزءٌ من البيئة، ومن أبناء الجلدة واللسان والثقافة، يتَسَمَّونَ بأسمائهم، ويأتون أَشْهَرَ العبادات الدالةِ على ذلك وأظهرها، من صومٍ وصلاةٍ وحجٍّ، ولكنها في حقيقتها عباداتٌ وصلاةٌ، لا تُجَاوِزُ الحركاتِ والسكناتِ لديهم، فارغةٌ هي من كل معاني الذات، ليس لها أثرٌ حقيقي في الحياة، ولا في أعمال المصلي، بل يأتيها صاحبُها مُرَاءَاةً ومُدَارَاةً وعَادةً، أو عن بروتوكول ورثه من أجداده، وتَتَطْلبُهَا الوجاهةُ الاجتماعيةُ والزعامةُ، كالْمَلَكِيَّةِ، وزَعْمِ الهاشمية، أو غيرِ ذلك من أسبابِ المراءاةِ والمداراةِ، خاويةً من أيِّ روح، فهي أشبهُ بتمثالِ الشمعِ المجرّدِ من الحياة، ساهون هم عما تأمر الصلاة، وتُذَكِّرُهم به، وتحثهم عليه، وهو الدينُ، والتحضيرُ ليومِه، وأنّ كلَّ إنسانٍ مَدينٌ بعمله وما أتى، فوجبَ عليهم مراعاةُ ذلك في قولهم، وفعلهم، وردة فعلهم، واصطفافهم، ولكنْ أنَّى يَتَأتَى لهم ذلك، وهم يلتقون بالمكذبين بالدين رأسا في النتيجة، فبينما يَدُّعُ الأولون اليتيمَ، ولا يَحُضُّون على طعام المسكين، يمنع الأخيرون الماعون، ليكتمل الظلمُ بين مُنَكِّلٍ لليتيم والمسكين، قاهرٍ لهما بأصناف العذاب، بسلاح وغيره، وبين مانعٍ عنهم الماعونَ بطعامه وشرابه.
اليومَ ترسمُ هذه السورةُ العظيمةُ ملامحَها في الاصطفافاتِ الظالمة على غزة وفلسطين، فالمكذبون بالدين (النظام الإمبريالي المتغطرس في أمريكا والغرب عامةً)، الذين يقفون وراءَ إرهاب الكيان النازي “المعادي للسامية والإنسانية”، يَدُّعُون اليتيمَ في غزة، بل يُبِيدُونَه ومَنْ بقي له من أهلِ بيته، ولا يَحُضُّون على طعام مساكينها، ويتفاخرون ويتفانَوْن في ذلك باستخدام كل وسيلةٍ ممكنةٍ، وصولا للڤيتو الجائر من دولة الشر العالمي، أما المصلون الساهون عن صلاتهم، المراؤون بها شعوبَهم وأناسَهم، الخادعون العالمَ بأسمائهم ولقلقة ألسنتهم بالآيات والسنة والأثر، أو ببيانات خارجياتهم وممثليهم في المحافل الدولية كالأمم المتحدة، وفي والإعلام وغيرِه، بينما أعمالُهم تشهد بكذبهم وكذب لسانهم، رِءاءًا ونفاقا ومُداراةً وسياسةً، ويحسَبونَ أنهم مهتدون، وأنّ ذلك دهاءٌ منهم وفهلوة، فدورُهم تماما كما جاءت به السورة، يمنعون الماعون عن غزة وأيتامها ومساكينها، ويخنقونها بالجوع والعطش، ويمدون السفاحَ بالمؤنِ، ويجازونه بخزي التطبيع، ويزعمون أنهم قوميون.. ديمقراطيون أحرار.. أو حتى إنسانيون بشر… بينما وصفهم ربهم بصفتهم الحقيقية: (أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَسۡمَعُونَ أَوۡ يَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا) الفرقان/ ٤٤…
.
فسبحان الله! كيف جَمَعَتْ سُورةُ الماعون الفربقينِ على غزة، فريقِ المكذبين بالدين، بدَعِّهِم اليتيمَ وقتلِه وسحلِه، وعَدَمِ حَضِّهم على طعام المسكين وذبحِه جُوعا، والمنافقين المرائين بصلاتهم، الساهين عن مستوجباتها وواجباتها، بقطعهم المعوناتِ عن غزةَ قطعا مباشرا، أو بالتضييق عليها، أو بإفسادها عبر طول مُكْثِها على الحدود، أو بضرب الأتاوات والرسوم الجائرة عليها، أو باستبدالها بما هو أقلُّ منها، أو بسرقتها، أو بإدخال النزرِ الزهيد الذي لا يكفي لبضعة عشرات من الأفراد، لإنقاذ مليونٍ ويزيد، أو ببناءِ جدارٍ صلدٍ أصمٍّ، كقلوبهم الميتة، وأجسادهم المهترأة، وَقُودِ جهنمَ، وحطبِها الهشيم، يخنقون بها غزة، بينما حدودُهم والكيانَ مشرعةٌ مفتوحةٌ، أو بغير ذلك من أصناف العذاب، من أفعالٍ لا يقوم بها إلا الصعاليكُ الهُمَّج، والرُّعاعُ الخُدَّج، فاستحقوا عليها وَعِيدَ الله سبحانه: (فويلٌ للمصلين)…. فويلٌ لهم ثم ويلٌ لهم..
فليستمرْ ذلك الشيخُ الوقورُ في رسم آياتِ الكتاب العزيز في الأفق، وَلْيُسْقِطْها على واقع العالم اليوم وأحداثه، لِتَعْلُوَ فِئاتٌ، وتَخْبْوَ فئات… نسأل الله تأويلَ كتابه، وفهمَه وتبليغَه…
اللهم جبرَكَ لأهلنا في غزةَ وفلسطين، فاجعلْ جائزةَ دماءهم الطاهرةِ الزاكية وثوابَها نصرَ المجاهدين، ودحرَ الصهاينة المعتدين عربا وعجما، وإقامةَ فلسطين حرّةً من البحر إلى النهر، وسقوطَ الكيانِ المتكبرِ الأثيم، والصهيونية العالمية جميعا، يا رب العالمين، وحَرِرْ ربَنا دولَنا العربيةَ والإسلاميةَ مما حلّ بها وألمّ… اللهم آمين.
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)) سورة الماعون
عبد الحميد بن حميد بن عبد الله الجامعي
الخميس
١٢ شعبان ١٤٤٥ هـ
٢٢ فبراير ٢٠٢٤ م