في قلب الإسلام يكمن نظام قانوني شامل وشامخ يعرفه كل مسلم “الشريعة الإسلامية”، التي تعتبر مصدراً رئيساً للتشريع والقوانين في العديد من الدول ذات الأغلبية المسلمة، حيث تتسم الشريعة الإسلامية بالتعدد والشمولية، وتغطي جوانب مختلفة من الحياة الفردية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. كما يتفرد الإسلام بتقديم نظام قانوني يربط بين العبادة والحياة اليومية وهو ما نسميه بمقاصد الشريعة الإسلامية، مما يجعله يتميز بالاستقامة والعدالة في جميع الجوانب.
تقوم الشريعة الإسلامية على مبادئ أساسية من العدل والمساواة وحماية حقوق الإنسان، وتهدف إلى تحقيق الرفاهية العامة للمجتمع بأسره، وتعتمد على مصادر متعددة، بما في ذلك القرآن الكريم والسنة النبوية والإجماع والقياس، كما تتجلى قوة الشريعة الإسلامية في تفعيلها للقانون، حيث توفر أساساً متيناً للنظام القانوني وتسعى جاهدة لتحقيق العدل والمساواة بين الناس، وبفضل قيمها الأخلاقية والإنسانية، تعتبر الشريعة الإسلامية مصدر إلهام للتشريعات الحديثة ونموذجاً للعدالة الاجتماعية.
في هذا السياق، يتجلى دور الشريعة الإسلامية في توجيه القوانين وتحديد المعايير الأخلاقية التي يجب أن تسير عليها المجتمعات المسلمة، وتعتبر الشريعة الإسلامية مرشداً وهادياً يقود المسلمين نحو تحقيق العدل والرخاء والسلام في حياتهم الشخصية والعامة.
بالتالي، في الفقه القديم، والأساليب القانونية المعتمدة، والمدارس الفقهية التاريخية والحديثة، والآراء الفقهية الحديثة، جنباً إلى جنب مع الدساتير والتشريعات المدنية والقوانين الدولية والمحلية، والسوابق القضائية، واللوائح، كلها تمثل جسد القانون الوضعي الإسلامي، وبخلاف ذلك، هناك مرجعيتان إلهيتان، هما القرآن الكريم وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله سلم، وهما يشكلان الشريعة الأساسية للإسلام، فتجتمع هذه النصوص الإلهية مع نصوص القوانين الوضعية والدستورية لتشكل معاً المرجعية الشرعية الإسلامية.
الشريعة الإسلامية تعبير شامل يتضمن النصوص القرآنية والقوانين الوضعية، إلا أن جوهرها الأساسي يتجلى في النصوص الإلهية، فالقانون الأساسي هو ركنها الذي لا يتزعزع؛ جزء منها يتجسد في قواعد إلهية لا تتأثر بتقلبات الزمان وتغيرات الأمم وتقدم الزمن، بينما القانون الوضعي قابل للتطوير والتعديل، يتأقلم مع متغيرات الحياة ويتكيف مع تحديات العصر، يظهر تباينه من مجتمع إلى آخر، ومن زمان إلى زمن، ومن جيل إلى آخر، فلا ينبغي الخلط بين الثوابت القانونية ومرونة الشريعة، فكل منهما له مكانته ودوره في البنية القانونية الإسلامية.
أما من الناحية الفلسفية، يُعتبر القانون الوضعي نتاج العقل البشري الذي يصاغ لينظم مسارات الحياة البشرية، فحتى في المجتمعات التي لا تلتفت إلى مفهوم الخالق، يمكن أن تظهر قوانين ذكية لتهدئة جبروت الحكام، وتنظيم نسيج العائلات وتوجيه عمل الشركات، وتحقيق الرخاء، وتأمين الناس من أفعال الفوضى الداخلية وتهديدات الخطر الخارجية، ولكن بينما تكتشف النصوص الإلهية شريعة الله للبشر، فإنها تبتكرها بأيديها، هذه الشريعة التي تسبق عمق العقل البشري، ليس من الدقيق أن نفترض أنها متعارضة مع مفاهيم العقلانية البشرية، فمعظم مبادئ قانون الله تنسجم مع تفكير الإنسان، حيث لا تفصل بين العقل والإيمان، على الرغم من مرونة التطور البشري الذي قد يتغير مع مرور الزمن، لكن في بعض الحالات، قد يكون هناك تباين بين شريعة الله وفطنة الإنسان، عندما تبدو موازنة قوانين الله مختلفة عن التقدم الحضاري للإنسان، قد ينتقل البشر إما لاتباع قوانين الله أو لإنشاء قوانين وضعية تنسجم مع عقليتهم المتطورة، وفي مواجهة مثل هذه التضاربات المحتملة بين الشريعة الإلهية والعقل البشري، يلتزم المسلمون بالقانون الأساسي الذي يمثل شريعة الله.
بالتالي، المسلمون متيقنون بأن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كان شاهداً صادقاً على وجود الله وصدق القرآن الكريم ما يدحض روايات العلمانيين والمستشرقين المعادين للإسلام، وهذا يتماشى مع قواعد الإثبات التي تسمح للشهود الخبراء بالتصريح في المجالات الخاصة بهم: “إذا كانت المعرفة العلمية أو التقنية أو غيرها من المعرفة المتخصصة ستساعد محكم الوقائع على فهم الأدلة أو تحديد حقيقة مطروحة، فإن الشاهد المؤهل كخبير بالمعرفة، مهارة أو خبرة أو تدريب أو تعليم، يجوز أن تشهد على ذلك برأي أو غيره”، المسلمون متأكدون بأن الأنبياء والرسل، بما في ذلك موسى وعيسى عليهما السلام وسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، هم “شهود خبراء” لديهم معرفة خاصة بالله تبارك وتعالى وشريعته: “رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ كَثِيرًا”، إن هذه الإيمان الصادقة بمضمون الآيات القرآنية تضع أساساً راسخاً لشريعة الله عز وجل بالنسبة للمسلمين، وبالطبع، لا يمكن أن يُجبر أي محكم على تقبل شهادة الخبير كحقيقة لا يعتقدها.
كما يجب تمييز الفقه عن النظام الأساسي بشكل واضح، الفقه، بما في ذلك الفقه الكلاسيكي الذي تطور على مر القرون الأولى من الخلافات الإسلامية، يُعَد مصدراً إيجابياً للشريعة الإسلامية، ومن المرجح أن يظل كذلك لفترة طويلة غير متوقعة، وعلى الرغم من الطابع السائد للفقه في الشريعة الإسلامية، فإنه ليس إلهياً ولا متجانساً بل إنسانياً ومتنوعاً، حيث يقوم الفقه بتفسير النصوص الإلهية ولكنه يظل بشرياً، كما تُوفر المدارس المختلفة للتفسير تنوعاً في القواعد الفقهية التي تختلف من مدرسة إلى أخرى، سواء فيما يتعلق بالعبادات أو المعاملات، ومع ذلك، فإن عبارة “الفقه الكلاسيكي” لا تعني بالضرورة أن الفقه الكلاسيكي قد أصبح قديماً أو غير صالح، الفقه، سواء الكلاسيكي أو المعاصر، هو جزء لا يتجزأ من الشريعة الوضعية الإسلامية، منذ البدايات الأولى للإسلام، كانت هناك مصادر أخرى للقانون الوضعي الإسلامي، مثل المراسيم الإمبراطورية والأحكام القضائية والعادات المحلية، جنباً إلى جنب مع الفقه الكلاسيكي، ومع ذلك، فإن الفقه كان المصدر الرئيسي للقانون الوضعي الإسلامي في العصور الكلاسيكية وما بعدها لعدة قرون، بينما كانت المصادر الأخرى للقانون الوضعي ذات أهمية محدودة، ومع تقسيم الأمة الإسلامية إلى دول ومجتمعات إقليمية، تم استبدال هيمنة الفقه بمصادر أخرى للقانون الوضعي، وفي العصر الحديث، أصبحت الدساتير والتشريعات الوطنية والمسائل الوطنية هي المصادر الرئيسية للتشريع الإسلامي الإيجابي، حيث توفر الأنظمة الوطنية المختلفة، بالإضافة إلى الهيئات التشريعية والسلطات القضائية المستقلة، تنوعاً وثراءً غير مسبوقين للقانون الوضعي الإسلامي.
ولتفحّص مدى التشابه والاختلاف بين القانون العلماني والقانون الوضعي الإسلامي، يجب التمعُّن في جوانبهما المشتركة والمتباينة، فالتشابه بينهما يكمن في الجوهر؛ حيث إن كليهما يُصوَّر من قبل الإنسان لينظم الحياة الاجتماعية والمدنية، كما تختص كل دولة، سواء كانت مسلمة أو غير مسلمة، في وضع قوانين تتناسب مع طبيعتها وحاجاتها، وفي عصر الدول القومية الحديث، تمَّ اتِّخاذ القانون الوضعي بمستوياتٍ لم تشهدها في السابق، حيث شملت سلطتها مختلف جوانب الحياة، ففكرة سيادة القانون تكمن في عدم التساهل مع التقدير التعسفي من جانب الحكام، وتشجيع احترام القوانين واللوائح، وبالرغم من أن بعض الدول تفرض قيوداً أكثر تشدداً من غيرها، إلا أن النجاح في وضع قوانين فعَّالة أمر ضروري لضمان الاستقرار الداخلي والازدهار الشامل، فالفوضى والانحطاط الاجتماعي تهدد أي أمة، كما حصل في الصومال المعاصرة على سبيل المثال، عندما يكون نظامها القانوني الوضعي غير فعَّال وغير قادر على تحقيق النظام والأمن، وبالتالي، يكون القانون الإسلامي، بأهدافه النافعة، مشابهاً للقانون العلماني الذي يُنفَّذ في الدول غير الإسلامية، إذ يعزز سيادة القانون ويضمن النظام والأمن ويقيِّد التعسف الحكومي، كما يوفِّر القواعد اللازمة للتعاون في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية.
وبالرغم من أن القانون العلماني والقانون الإسلامي يتشابهان في بعض جوانبهما، إلا أن التفريق بينهما يعد أمراً بالغ الأهمية، إذ يخضع القانون الإسلامي لسيادة النصوص الإلهية المتمثلة في الإسلام والقرآن الكريم والسنة النبوية، بينما لا يخضع القانون العلماني لأي سيادة إلهية، بما في ذلك القانون الأساسي، ولكي يكون القانون الوضعي إسلامياً، فإنه يجب أن يتماشى مع مبادئ وأحكام القانون الأساسي، بحيث تتمثل الدساتير والقوانين والأنظمة والمعاهدات والأعراف والسوابق القضائية في إطار إسلامي، ومن هنا يتحوّل القانون الوضعي إلى قانون وضعي إسلامي، وببساطة، لا يمكن لأي قانون وضعي أن يُعتبر إسلامياً إذا كان يتعارض مع أسس القانون الأساسي، ومن غير الدقيق الادعاء بأن جميع القوانين الوضعية في الدولة الإسلامية هي قوانين وضعية إسلامية، وكما أشرنا في البداية، فإن الدولة الإسلامية قد تكون أو لا تكون دولة إسلامية بحد ذاتها، فالدولة الإسلامية هي تلك التي يشكل فيها المسلمون الأغلبية أو التعددية، وتلك التي تلتزم بسيادة القانون الأساسي، وبالتالي، فإن القانون الوضعي الإسلامي هو القانون الوضعي للدولة الإسلامية، أما من الناحية النظرية، قد تُصوِّر الدولة الإسلامية العلمانية، وتُفرِّق بين القانون الأساسي والقانون الوضعي، وتُمنح نفسها حرية وضع قوانين تخالف الأحكام القانونية الأساسية، فالدولة الإسلامية كهذه ستؤسس للقانون العلماني، وليس القانون الإسلامي بمفهومه الإيجابي، وبالتالي، فإن المعيار الأساسي لتحديد القانون الوضعي الإسلامي هو مبدأ الانقياد للقانون الأساسي.
حديثاً، يعترف الاجتهاد المعاصر بدور القانون الأساسي كمرجعية دائمة للشريعة الإسلامية، فهو النقطة الثابتة التي تحكم تنظيم القواعد وتوجيهها، إن هذا المرجع الكبير يُعَدُّ القاعدة الأساسية التي تسود في حل النزاعات القانونية والإجرائية بين القواعد المختلفة، ففي السياق الأمريكي، على سبيل المثال، يحمل الدستور الفيدرالي هذا الدور الأساسي، فجميع القوانين الفيدرالية، والمعاهدات، ودساتير الولايات، والقوانين الفيدرالية والولاياتية، وعقود القضايا، واللوائح، والتفسيرات والآراء الرسمية للقانون، يجب أن تتماشى مع أحكام الدستور الأمريكي، وليس هناك أي مجال لأي قاعدة تخالف هذا الدستور، حيث تُعتبر باطلة، كما تعترف معظم الأنظمة القانونية بنفس المبدأ، حيث تحظى بنصوص فائقة واحدة أو مجموعة من النصوص الفائقة التي تُعَدُّ القاعدة الأساسية، ويعمل المشرعون والقضاة وغيرهم من المسؤولين القانونيين على الحفاظ على سلامة وسيادة هذه القاعدة في النظام القانوني، وتفرض بعض الأنظمة القانونية عقوبات على مخالفات القواعد الأساسية، حيث لا يُسامح بسهولة مع أي تجاوز دستوري، وبالرغم من عدم كمال أي نظام قانوني، فإن الاعتراف بالمعيار الأساسي يوفر إطاراً يسمح بحل النزاعات التفسيرية والمعيارية بطريقة مباشرة وعادلة.
أما في البلدان المتمسكة بمبدأ الاندماج، كباكستان والمملكة العربية السعودية، حيث يُؤكَّد على السيادة المعيارية للقانون الأساسي، يتم تنظيم جميع القوانين، على الأقل النظرية، وفقاً لتعاليم القرآن الكريم وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يُسمح لأي مرسوم حكومي بانتهاك هذه القوانين الأساسية، حيث يتأكد القضاة والمحامون من توافق القوانين المحلية مع القانون الأساسي، حيث قد تُسقط المحاكم العليا القوانين التي لا تتوافق مع الروح والنص الأساسي، بالإضافة إلى ذلك، يُمكن إنشاء مجالس شرعية لمراجعة توافق القوانين المحلية مع القانون الأساسي، بالتالي، تشبه عملية التحقق من القوانين الأساسية في البلدان المتمسكة بمبدأ الاندماج تلك الممارسة في الدول العلمانية، حيث يتم توافق القوانين مع الدستور، وبينما تتمتع المحاكم بالسلطة الرسمية في هذه الدول، يلعب الفقهاء البارزون دوراً فعّالاً في توجيه الفكر والتنسيق بين القواعد.
وفي استطلاع التوافق مع المبادئ العامة، يسلط الاجتهاد المعاصر الضوء على أهمية العقيدة التوافقية، التي شكّلت طفرة في المنهج التاريخي للاستدلال، عبر التاريخ، اعتمد الفقهاء البارزون من مختلف المدارس الفقهية الرصينة، مثل المذاهب القانونية والتفضيلات، لاستنباط قواعد جديدة من المرجعية الأساسية، وفي الدول الإسلامية الحديثة، يتم وضع مشاريع القوانين في لجان تشريعية، حيث يشارك المحامون والمختصون الآخرون في إعدادها، ويتم تبني هذه المشاريع من قبل المشرعين بالاستناد إلى الإجراءات الدستورية، في بعض الحالات، يتم تقديم القوانين إلى مجلس يضم قانونيين منتخبين من قبل الحكومة، حيث يتولى هؤلاء مراجعة القوانين لضمان توافقها مع النظام الأساسي، وفي حال وجود هذا التوافق، يصبح التشريع جزءاً من الشريعة الإسلامية، وهكذا، يُقدم نموذج الاستنباط الفقهي، بينما تُعزز العملية التشريعية القانون، بالتالي، إن كل من الفقه والقانون تجسيدان مميزان للتشريعات الإسلامية.
فقد أحدثت عقيدة التوافق تحولاً جوهرياً في تطوير الشريعة الإسلامية، إذ أضافت بُعدَيْن أساسيّيْن لعملية الاستنباط والتشريع، في البداية، جاء مبدأ التوافق ليعزّز كفاءة العملية التشريعية، فوفقاً لنموذج الاستقطاع، يجب استنتاج كل قاعدة جديدة من النص القانوني الأساسي، مما يتطلب تحليلاً دقيقاً وشاملاً للنصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وبفضل مبدأ التوافق، أصبحت التشريعات الحديثة أكثر استقلالاً عن القيود النصية للقانون الأساسي، إذ يتم مراجعة الأغراض التشريعية بشمولية لضمان عدم تعارضها مع مبادئ القانون الأساسي، كما يسهل توافق الأغراض عملية التحليل والمراجعة مقارنةً بالاستقطاع اللغوي للقوانين، حيث لا يتطلب مبدأ التوافق أن يكون كل جزء من التشريع مرتبطاً بشكل لغوي بالنص الأساسي، ومع ذلك، يحافظ نموذج الاستقطاع على أهميته، حيث يؤكد على الحاجة إلى تحليل دقيق للنصوص القانونية الأساسية، وهو الأمر الذي لا يستغنى عنه في سياق بناء التشريعات المتوافقة مع القانون الأساسي.
كما يُعَدُّ مبدأ التوافق بوابة مفتوحة أمام عملية تشريع الشريعة الإسلامية بطابعها الديمقراطي، حيث يزدهر نموذج الاستنباط بفضل خدمات الفقهاء البارزين والعُلَماء المُتَقِين، الذين يكرسون حياتهم لدراسة القانون الأساسي وتطوير مهاراتهم التفسيرية المتقدمة، بينما بعض القانونيين يحظون بشعبية دولية، بينما يختار البعض الآخر حياة هادئة ولكن إنتاجية، تظل عملية الاستقطاع عملية تحليلية وخاصة؛ فهي ليست ديمقراطية بالمفهوم العام، إذ تتطلب جهد الفقيه الشخصي في البحث عن رأي سليم يتماشى مع النظام الأساسي، بالتالي، أحدث مبدأ التوافق تحولاً في سلطة تشريع الشريعة الإسلامية، حيث نقل الصلاحية من الفقهاء إلى المسؤولين في الدولة، في الدول الإسلامية ذات النظام الديمقراطي، قد تتولى السلطة التشريعية المنتخبة أو المعينة من قبل الشعب سن القوانين، وليس الفقهاء بالضرورة، كما قد لا يكون لدى بعض المسؤولين المنتخبين المعرفة الكافية بالقانون الأساسي، إلا أن دساتير الدول تمنحهم صلاحيات القانون الأساسي، وبالرغم من أن مجلس الحقوقيين يقوم بمراجعة التشريع المقترح لضمان توافقه مع النظام الأساسي، فإن العملية الديمقراطية تمنح السلطة الأساسية لتشريع القوانين إلى المجالس التشريعية المنتخبة أو المعينة.
مقاصد الشريعة الإسلامية
في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، طرح علماء الفقه المسلمون من مختلف المدارس الكلاسيكية فكرة تنظيم الشريعة الإسلامية بإطارات فلسفية ونفعية تترابط بشكل متين، هذه الإطارات الشاملة تعمل على بناء وشرح مقاصد الشريعة، أو الأهداف الرئيسية للشريعة الإسلامية، وقد كان لعز بن عبد السلام (المتوفى عام 1261)، وابن قيم الجوزية (المتوفى عام 1351)، وأبو إسحاق الشاطبي (المتوفى عام 1388) تأثير كبير في هذا المجال، فالإمام الشاطبي، الفيلسوف الإسلامي المبتكر، عاش وكتب في آخر سنوات الحكم الإسلامي في إسبانيا، وكان لأعماله حول “مقاصد” القرآن الكريم والسنة النبوية تأثيراً واسعاً على علماء الشريعة الإسلامية المعاصرين، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، ويطلق الشاطبي على أهداف النظام الأساسي أسماء مثل “الأسس العقلانية”، و”اللؤلؤ النفيس”، و”الاستدلالات الجامعة”، كما أن جزء من جاذبية الشاطبي الفكرية، والتي يفضلها العلماء ذوو الروح الإصلاحية، تكمن في اهتمامه الشديد بالمفاهيم العامة التي تسعى جاهدة لفهم إرادة الله عز وجل وكشف الأسرار العميقة للنصوص الدينية، وكما قال الشاطبي نفسه، “توضيح أسس الفقه”.
وبصفته مفكراً موهوباً، تأثر الشاطبي بتعاليم الإمام الغزالي (1058-1111)، لكنه أدخل تطويرات جوهرية على فكره، مكّنها من أن تصبح نظريةً متينةً، في هذا الصدد، قال الغزالي: “الغاية الرئيسية للشريعة تكمن في تعزيز سعادة البشر، وهو ما ينبغي أن يُحافظ على إيمانهم، وأرواحهم، وعقولهم، وممتلكاتهم، كل ما يحقق هذه الأهداف الخمس يخدم المصلحة العامة ويُرحب به، بينما كل ما يعرضها للضرر يُعتبر مخالفًا لها ويُرغب في إزالته.”
بالتالي، كان فقه المصلحة العامة إضافة مذهلة لما كان في الأساس من علم اللغة والمنطق والتفسير النصي للقرآن الكريم، وباعتباره مبدعاً لا مثيل له، كان الغزالي مُفكراً معارضاً للعقلانية الضيقة، يتطلع إلى بناء جسور فكرية بين النصوص الدينية ورفاهية الإنسان، ولا يمكن أن يكون أي منهج لغوي أو قياسي أو نحوي في فهم القرآن الكريم والسنة النبوية كافياً في حد ذاته لإعطاء الفهم الصحيح لتلك النصوص.
وبناءً على مبادئ الغزالي، قام الشاطبي بتصنيف أهداف الشريعة الإسلامية إلى ثلاثة فئات مترابطة وشاملة، من بينها الضروريات، والاحتياجات، هذا التصنيف، رغم بساطته، يكشف عن جوهر إلهي يتجلى في خدمة إنسانية، يُؤكد على أن النظام الأساسي منح لحماية وتطوير حياة الإنسان، بما في ذلك حفظ الحياة والحرية وتوجيه احتياجاته المادية والروحية، ومع ذلك، يتعارض هذا التصنيف مع النموذج المضاد الذي يُعتبر فيه النصوص الإلهية كمصدر متعلق بالبشر فقط، دون اعتبار لأبعادها الروحية والكونية، ويُذكّر القرآن الكريم المؤمنين بأن الكون لم يكن شيئاً قبل الخلق، وأنه يجب أن تُعامل كرامته بأهمية متساوية، ولذلك، يجب علينا أن ننظر إلى الشريعة الإسلامية بمنظور يتجاوز البشرية ويشمل احتياجات الحياة الأخرى والبيئة.
من هنا، تتعامل إدارة القانون في الواقع مع الأهداف العامة التي تتجاوز التفاصيل الدقيقة للعلاقات القانونية، فهي تسعى إلى تحقيق رفاهية المجتمع، وترسيخ النظام الأخلاقي، وحماية الحياة والممتلكات، وهي أهداف قد تتغير مع تقدم المجتمع وتطوره، يعتبر هذا المفهوم جوهراً للقانون الوضعي الإسلامي، حيث تعمل الأهداف العامة على توجيه القانونيين والقضاة وغيرهم، وتوفير الإرشاد اللازم، كما يعكس تاريخ البشرية العديد من الأحداث التي تبرز أهمية إدارة القانون بشكل فعّال، حيث إن الإهمال أو الانحياز قد يؤدي إلى نتائج مأساوية وغير إنسانية.
بالإضافة إلى ذلك، تنسجم الأهداف العامة للقانون الوضعي مع مبدأ الخضوع في القانون الأساسي، متحدية النزعات الفقهية لإقامة قواعد دقيقة وصارمة ومحدودة، عندما يُفصل القانون عن تلك الأهداف، يتحول إلى عالم فني، يغمره التحليل اللغوي والمحدودية النصية، ويستمر الفنيون، بلا وعي بأهداف القانون، في بناء هياكل منهجية تصبح مع الزمن معقدة وغامضة، متسببة في الأذى والتشويش الاجتماعي، في بريطانيا على سبيل المثال، تم فصل إجراءات القانون العام عن الأهداف المدنية، ما يعني أن المدعي الذي لا يستطيع تصنيف دعواه في أي فئة يفقد حقه في العدالة، بغض النظر عن حجم الظلم الذي تعرض له، وكانت بعض قواعد الفقه مجرد امتدادات شكلية للمبادئ الأساسية مع قليل من التبريرات، دون النظر إلى الأهداف العامة للشريعة الإسلامية، ومن أجل تصحيح هذه التجاوزات، تقدم أهداف الشريعة الإسلامية إطاراً معيارياً للتقييم والتصحيح.
كما تعتبر الدساتير الحديثة للدول الإسلامية مصادر رئيسية لتحديد أهداف القانون الوضعي، حيث تتبنى مبادئها مضامين تتماشى مع التوجيهات الإسلامية، على سبيل المثال، ينص الدستور الباكستاني على “مبادئ السياسة”، التي تعتزم من خلالها الدولة دعم النمط الحياتي الإسلامي وتحقيق المساواة بين الجنسين وحماية حقوق الأقليات والتصدي للظواهر الاجتماعية الضارة، بالإضافة إلى تعزيز العدالة الاجتماعية وتحقيق التعاون بين الدول الإسلامية، وفي الجمهورية الإسلامية الإيرانية، يعتمد الدستور على “المبادئ الأساسية” التي ترتكز على احترام كرامة الإنسان وحقوقه المتعالية، مع تعزيز العدالة والاستقلال في النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بالتالي، تلتزم هذه الدساتير بتأمين حقوق الإنسان والأقليات والمجتمعات المتنوعة داخل الدولة، وتوفير الحماية القانونية لها.
بالإضافة إلى ذلك، إن أحد الأهداف المعاصرة للقانون الوضعي الإسلامي، والتي قد لم تكن واضحة للشاطبي في عصره، هي حماية مفهوم الفردية وتقرير المصير، ففي القرن الرابع عشر، كانت إسبانيا تتمتع بنظام نخبوي مرتب وهرمي، مما جعل الفردية مبدأً مهماً، يحمي القانون الأساسي اليوم ليس فقط تنوع الأمم والمجتمعات، بل يضمن أيضاً حقوق الأفراد، سواء كانوا رجالاً أو نساء، وعلى الرغم من أن مفهوم الفردية قد يثير بعض الجدل في بعض الأوساط، إلا أنه يحمل معنى عميقاً، حيث يُفهم عادة بأنه ترخيص للأنانية أو انعزالية الذات، ولكن في الواقع، يمكن أن يكون تعزيزاً للكرامة الإنسانية والحقوق الفردية، فالإسلام يعلم، مثل العديد من الديانات الأخرى، بأهمية العطاء والتواصل الاجتماعي، مما يجعل خدمة الأسرة والمجتمع واجباً دينياً مقدساً، ومع ذلك، فإن هذا الالتزام لا ينفي حق الفرد في تحقيق ذاته وتحديد مسار حياته بشكل مستقل ومسؤول.
ووفقاً للقانون الأساسي، يُعتبر كل فرد مسؤولاً شخصياً عن أفعاله، فالإسلام يرفض بشدة فكرة نقل الذنب بين الأجيال أو على مستوى العائلة، لا تلحق الخطايا بالأطفال لأنهم ليسوا مسؤولين عن أعمال آبائهم، إذ يتحمل كل شخص مسؤولية فردية تجاه الله وأسرته ومجتمعه، وهذا يتضح بوضوح في الالتزامات الشرعية كأداء الصلاة والصوم ودفع الزكاة السنوية، ومع ذلك، فإن هناك استثناءات لهذه الالتزامات تحت ظروف معينة، فالمريض معفى من الصوم أثناء المرض، ومقدار الزكاة يتناسب مع ثروة كل فرد في كل سنة، وبالتالي، يُعدل الدين ليلبي احتياجات الحياة الفردية لكل فرد، في كتاب الله تبارك وتعالى، يُؤكد أن “كل إنسان على رعيته”، ولكن تُخرج هذه الكلمات من سياقها عندما تحرم الهياكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الأفراد من اتخاذ قراراتهم الشخصية، فالنظم الأبوية القمعية التي تقيد المبادرة الفردية تنتهك النظام الديناميكي الذي أراده الإسلام لبشريته.
بجانب هذا، يتمتع كل إنسان بمواهبه وقدراته الفريدة، ولكنه في الوقت ذاته يحمل عبئاً من العيوب والإعاقات، فلا يوجد إنسان خالٍ تماماً من النقائص في مسار حياته، حيث تعتري التحديات حياة الجميع، إذ يجد الإنسان نفسه محملاً بمزاياه ومحاطاً بعوائقه، وعلى كل فرد، بمواهبه وإعاقاته، الحق الأصيل في تحديد مساره الشخصي، فالأشخاص ذوو الإعاقة يمتلكون نفس الحق في العيش بحرية وكرامة كأولئك الذين يتمتعون بمواهب استثنائية، بالتالي، إن الأنظمة التي تقيّد حرية الأفراد وتمنعهم من الاستفادة من مواهبهم تتعارض مع مبادئ الإسلام، وبالمثل، فإن الأنظمة الداروينية التي تهدف إلى البقاء للأكثر قوة تنتهك مبدأ تحديد المصير الفردي.
ومن المؤسف حقاً أن الدول الإسلامية لم تضع مبدأ تحديد المصير الفردي في قلب اهتماماتها بالشكل اللازم، فما زالت الممارسات الثقافية، مثل الاستعباد بين الأجيال والعنصرية والطبقية والقبلية، تتنافى مع تعاليم الإسلام، وفي هذا السياق، فإن الأفراد لم يتمكنوا بعد من تحرير أنفسهم من أساليب التصنيف الضارة التي تستخدمها الثقافة، فعدد من الدول الإسلامية ما زالت تمارس استبعاد النساء بشكل منهجي من المشاركة في المجالات العامة، حيث يحرمن من حقهن في التعليم والمشاركة الفعّالة في الحياة الاقتصادية والسياسية، وعلى الرغم من التقدم البسيط في بعض الدول، فإن النساء ذوات الإعاقة ما زلن يواجهن صعوبات كبيرة في ممارسة حقهن في تحديد مصيرهن.
بالتالي، ترسم الحركات الاجتماعية والسياسية الخطيرة، كحركة طالبان في أفغانستان وباكستان، صورة مأساوية عن تجاهل حق تقرير المصير الشخصي، إذ تفرض على الأفراد ممارسات قمعية تعتدي على حريتهم ومواهبهم الفردية، كما تواصل بعض الأنظمة القمعية سياساتها القديمة تجاه المرأة والعدالة الجنائية، حيث تحرم المرأة المسلمة من حقها الأساسي في التعليم، وتُظهر أن التعليم للنساء يعتبر غير قانوني أو غير إسلامي، وهو ادعاء يخل بالمبادئ الأساسية للشريعة الإسلامية، وبتجاهل الكرامة الإنسانية وحق تقرير المصير، حيث تقف هذه الحركات السياسية المتطرفة بكل جبروت على تفسيرات ضحلة للقوانين الإسلامية، مؤيدة عقوبات قاسية مثل الجلد وقطع الأيدي وقطع الرؤوس، دون مراعاة لشروط الإثبات الصارمة المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية، إن مثل هذه التفسيرات السطحية تشوه الفهم العميق والدقيق للقوانين الإسلامية، التي تحاول تطبيقها بموجب مبدأ الخضوع والعدالة في القانون الأساسي.
وفي زمن الاجتهاد المعاصر، يعود الحق الإلهي في تقرير المصير إلى الفرد، حيث تقر دساتير الدول الإسلامية بمجموعة من الحقوق الأساسية التي تؤمن بتنمية الذات لكل فرد، كما ينص الدستور الإيراني على حرمة كرامة الفرد وحقوقه وممتلكاته، مؤكداً أنها لا يجوز انتهاكها إلا في إطار القانون، كما يحظر التحقيق في معتقدات الأفراد والتحرش بهم، وفي السياق المصري، تعتبر الحرية الفردية حقاً طبيعياً مكفولاً، ورغم عدم إشارة الدستور السعودي مباشرة إلى حق تقرير المصير الفردي، يحمي حقوق الإنسان بما يتماشى مع الشريعة الإسلامية، بالتالي، تأتي هذه الضوابط في إطار المبادئ القرآنية التي تحث على عدم تكليف النفس إلا بما تطيق، وتؤكد على مسؤولية الفرد عن أفعاله ونتائجها، وعلى الرغم من التأكيد على المفاهيم الجماعية في الدستور السعودي، إلا أنه يدعم أيضاً فهماً للحقوق الفردية، وهو ما يعكس الشرعية والسنة النبوية، لكن، فقد يعتبر عدم التركيز الكافي على الحقوق والحريات الفردية تحت المعايير الدستورية المعاصرة خرقاً لتلك المبادئ الإسلامية الأساسية.
مفهوم الأمة الإسلامية
ينساب الاجتهاد المعاصر في مدار الاستقبال المتغير لمفهوم الأمة الإسلامية، وهو مفهوم يمتد جذوره الكلاسيكية ليشمل جميع المسلمين، سواء كانت هوياتهم متنوعة من حيث الأصول العرقية، العنصرية، اللغوية، القبلية، الجغرافية، أو الوطنية، فهم جميعًا جزء من هذا الجسد الإسلامي المتجانس، ينطوي المفهوم القرآني للأمة الإسلامية على تأكيد على التماسك والتضامن بين المسلمين كجماعة تخضع لإرادة الله، حيث يجعلهم القرآن أحد أممه لخدمته والتفاني في سبيله، كذلك، يبرز ميثاق المدينة المنورة فكرة الوحدة والتماسك بين المسلمين، حيث يصوغ هذا العهد القواعد التي تعتبر المسلمين كجسم واحد، بغض النظر عن الاختلافات في العرق أو الجنس أو أي سمة أخرى، ويؤكد على مشاركتهم المسؤولية كوحدة واحدة في الحياة الجماعية، ومن هنا، يظهر فهم المسلمين للأمة كمجتمع متماسك ومترابط في مختلف جوانب الحياة، ما يعكس روح الإسلام الحقيقية التي لا تقوم على فكرة التجانس القسري أو الانفصال عن الآخرين، بل تقوم على قيم التعاون والتضامن والتنوع التي تميز الدين الإسلامي.
بالتالي، إن الأمة الإسلامية ترتكز على تنوعها وشموليتها، متبنية مبدأ المساواة كقيمة أساسية، ففي إطار انتمائهم لها، يحافظ المسلمون على هوياتهم القومية واللغوية والعرقية، مع فتح أبواب التواصل والتفاهم مع المجتمع العالمي بروح من السلام والتعاون، كما تجسِّد فكرة الأمة الإسلامية دعوةً إلى الاحتفاء بتناغم نمط الحياة الإسلامي، وحماية الأمة من أي عدوان خارجي، وإقامة بنية من المؤسسات التي تعمل على تعزيز التعاون وتقديم الدعم المتبادل، وتُشجِّع هذه الفكرة على توزيع الموارد الطبيعية والبشرية بالتساوي، بهدف القضاء على أي انحياز اجتماعي أو نقص يعيق تطوير الأمة الإسلامية.
وبالرغم من تنوعها، فإن الأمة الإسلامية تنسجم ببلسم الحضارة الإنسانية العامة، وفي تسليط الضوء على تجانسها، تذكر الكتب المقدسة البشر بأنهم خلقوا كجماعة واحدة، ولكن يبدو أن التوحيد الإنساني يعاني من الصراعات والاختلافات، فالعالم المعاصر يعاني من تشظي واضح، رغم الجهود الحثيثة المبذولة تحت قيادة الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية لترسيخ السلام والأمن العالميين، كما أن الصراعات العسكرية، والمنافسة على الموارد، والصراعات الإيديولوجية، وأشكال الهيمنة، والعنصرية، والتعصب، والسيطرة الاقتصادية، كل هذه العوامل تعكس فقدان فرصة التوحيد، ومع ذلك، لا ينظر المسلمون بتشاؤم إلى مستقبل البشرية، بل يعملون بجدية على تقليل الانقسامات، ومع ذلك، فإنهم يدركون تحذيرات الواقع ويحذرون من الأماني الزائفة في تحقيق التوحيد البشري الكبير، والتاريخ يسجل فشل المجتمعات البشرية في تحقيق التوحيد، مع استمرار النزاعات والحروب والتناحرات التي تعصف بالسلام والعدل العالميين.
وبالنظر إلى فشل الإنسانية في تحقيق وحدتها كشعب واحد، يُشجَّع المسلمون على بناء الأمة الإسلامية وفقاً لمبدأ الاستسلام، كما يُلاحَظ أن هذه الأمة لا تقتصر على حدود عرقية أو ثقافية أو لغوية أو اقتصادية، فالمسلمون يتنوعون في ثقافاتهم وألوانهم ولغاتهم وجغرافياتهم وتجاربهم التاريخية والوطنية، حيث يُذكر القرآن الكريم بأن تلك التنوعات ليست إلا منحة الله لتعزيز الألفة بين البشر، وتجتمع الأمة الإسلامية ليس على أساس عنصري أو جغرافي، بل على أساس الالتزام بالشريعة الإسلامية، فتختلف المجتمعات الإسلامية في أنظمتها السياسية ودساتيرها وقوانينها وتقاليدها المحلية، ولكنها تتحد في الالتزام بالقواعد الأساسية التي تشكل هويتها.
وفي سياق الالتزام المستمر بالقانون الأساسي، تبدو التحديات القائمة أمام المجتمعات الإسلامية، في ظل الأقلمة المعاصرة، كتحدٍّ لفكرة التضامن الإسلامي، إن تجزؤ الشعوب إلى دول قومية يمثل اتجاهاً واضحاً في عالم ما بعد الاستعمار، حيث جاء انهيار الإمبراطوريات الاستعمارية الغربية والحركات المنبثقة عنها، التي تمثلت في حق تقرير المصير، في خلق دول قومية مبنية على السيادة الإقليمية، ولم تتمكن المجتمعات الإسلامية من مواجهة صعود الدولة القومية ودورها في بناء القانون الدولي الحديث، حيث تُعرض الأناشيد الوطنية وتُرفع الأعلام الوطنية، كرموز للدولة القومية، بكل فخر في جميع أنحاء العالم الإسلامي، ومع ذلك، فقد أدى مفهوم الدولة القومية إلى زيادة الوعي العرقي، حيث تسعى المجموعات العرقية الإسلامية المميزة، مثل الأكراد، بدلاً من التعايش مع مجموعات عرقية مسلمة أخرى، إلى إقامة دول قومية منفصلة تعبّر عن هويتها الخاصة.
وقد زرعت حقبة الدولة القومية بذور الانقسام في مفهوم الأمة الإسلامية، فتحول هذا الانقسام إلى عائق أمام فكرة “شعب واحد”، على سبيل المثال، تشجع استغلال الموارد الطبيعية في منطقة ما رفض فكرة الأمة الإسلامية وترسيخ فكرة الدولة القومية، ففي دول الخليج، حيث تمتلك احتياطيات نفطية ضخمة، لا يوجد حافز كافٍ لتبني مفهوم الأمة الإسلامية، مما يعرّض حقوق المسلمين من المغرب إلى إندونيسيا في التمتع بالموارد الطبيعية للمنطقة للخطر، إذ تتحدث الدول الإسلامية الغنية عن السيادة بدلاً من الوحدة الإسلامية، وتظل أقل سخاءً من الدول الغربية في دعم الدول الإسلامية الفقيرة، فمستوى المعيشة الرفيع في هذه الدول، والمحصور بشكل رئيسي للسكان المحليين، لا يتناسب بالعدالة مع أجزاء أخرى من الأمة الإسلامية، وهذا الفارق غير العادل في نوعية المعيشة لا يمكن تبريره ضمن إطار العدالة والمساواة التي تعتمدها الأمة الإسلامية.
كما يواجه الاجتهاد المعاصر تحديات جسيمة في فهم مفهوم الأمة الإسلامية، يعود ذلك جزئياً إلى الانعكاسات السياسية لسقوط الدولة العثمانية، وجزئياً إلى نشوء دولة ما يسمى “إسرائيل”، وجزئياً أخرى بسبب الأيديولوجيات العرقية التي أثيرتها بعض النخب العربية، خاصةً في فترة حماس الثورة الاشتراكية بقيادة جمال عبد الناصر وأمثاله في بعض مناطق الشرق الأوسط، فقد أدخلت الدول القومية العربية فكرة الأمة العربية، محولة بذلك انتباه الناس من التضامن الإسلامي إلى الانتماءات الإقليمية المشتركة، إذ تركز المادة الأولى في دستور مصر على إدراج مصر ضمن الأمة العربية، وكذلك دستور سوريا الذي يفتتح بتأكيد للدور العظيم الذي قامت به الأمة العربية في بناء الحضارة الإنسانية على أساس توحدها، وهذا التحول نحو الأمة العربية بدلاً من الأمة الإسلامية يمثل انحرافاً واضحاً عن مفهوم التضامن الإسلامي الأصيل، أيضاً تحدد مادة الدستور الأولى في سوريا الدولة بأنها الجمهورية العربية السورية، وتُعرَّف مصر والإمارات وليبيا دولها على أنها جزء من الأمة العربية، وهذا يتناقض مع فكرة الجمهورية الإسلامية التي تتبناها دساتير دول مثل باكستان وأفغانستان وموريتانيا على سبيل المثال، حيث يكون التركيز على الإسلام كهوية أساسية للأمة، ويُحدَّد دستور العراق، نظراً لتنوع سكانه، أن العراق هو جزء من الأمة العربية والإسلامية على حد سواء.
أما في النظام الأساسي، لا يحرم المجتمعات الإسلامية من الفخر بتاريخها العريق، وتراثها الذي يمتد قبل الإسلام ويتواصل بعده، فمثلاً، يبدأ دستور العراق بتأكيد مكانة الشعب العراقي كرائد للحضارة، كونه موطن الرسل والأنبياء، حاملاً مذكرات الحضارة التي بدأها الإنسان على تلك الأرض، هذه الدساتير العربية ليست مجرد وثائق تأسيسية، بل هي بوابات لبناء روابط التضامن بين دول المنطقة العربية، وتُبرز المساهمات البارزة للعرب في تعزيز الحضارة الإسلامية، مما يبرز بأن الفخر بالتراث العربي لا يقلل من تماسك الأمة الإسلامية، فالفرس يمكنهم أيضاً أن يفتخروا بتراثهم الثقافي والأدبي قبل وبعد الإسلام، إذ تعتبر الدول الإسلامية مساحات زمنية مميزة تضيف إلى التنوع الثقافي العالمي للإسلام، وفي حال تحولت فرنسا أو إنكلترا إلى دولتين مسلمتين، فإن تاريخهما سيصبح جزءاً لا يتجزأ من تراث الحضارة الإسلامية، ومن خلال احترام الروابط الإقليمية، يسعى الاجتهاد المعاصر إلى تجديد فكرة الأمة الإسلامية، وإنشاء هوية عالمية مشتركة للمسلمين، وهذه الهوية ليست مجرد تجميل للصورة، بل هي أساسية لتعزيز الوجود الإسلامي على الساحة العالمية، ولتعزيز مكانة الشريعة الإسلامية في العالم.
القانون الأجنبي
إن القانون الإسلامي ينبغي أن يكون مفتوحاً للتأثيرات من التقاليد القانونية الأخرى، مما يتيح إمكانية الاقتراض والاستعارة من القواعد والإجراءات ومفاهيم العدالة وطرق حل النزاعات، كما يُعتبر مفهوم الاستقبال، الذي يشرح كيفية ممارسة الاقتراض بين التقاليد القانونية المختلفة، جزءاً من الشريعة الإسلامية، وعند بناء القانون الوضعي، يمكن للمشرعين المسلمين أن يستفيدوا من التجارب القانونية للثقافات الأخرى، ويمكنهم أيضاً استيعاب نماذج تحليلية ومفاهيم وسياسات ومبادئ وحتى قوانين محددة من مصادر متنوعة تاريخياً، وقد ساهمت الشريعة الإسلامية بدورها في تطوير التقاليد القانونية الأخرى، بما في ذلك القانون العام، وعلى الرغم من التحديات، يعمل علماء القانون المقارن على فهم العلاقات المعقدة التي يمكن أن يكون للقانون الإسلامي مع التقاليد القانونية الأخرى، سواء العلمانية أو الدينية.
كما أن استقبال القانون الأجنبي بطريقة تخالف مبدأ الخضوع ينحو إلى زعزعة فكرة القانون الإسلامي، فلا يُمكن لأية قواعد مُستَعارة، مهما كانت موضوعيّة أو إجرائية، أن تُعتبر جزءاً من الشريعة الوضعية الإسلامية إلا إذا كانت تتماشى مع النظام الأساسي، حيث يحمل المشرعون والفقهاء والقضاة المسلمون مسؤولية التحقق من هذا التوافق، بالإضافة إلى ذلك، إنّ المشرعين يُعتبرون حراس استقبال القانون الأجنبي، وعلى عاتقهم التأكد من عدم دخول أي تشريع أجنبي إلى النظام القانوني الإسلامي قبل إجراء فحص دقيق لمدى توافقه مع النظام الأساسي، حيث يُقدّم مجلس الحقوقيين، كهيئة استشارية مُعنية بمثل هذه القضايا، استشارات الخبراء حول استقبال القانون الأجنبي، وينبغي في النهاية أن يتسنى للقضاة إبداء رأيهم بشأن مدى توافق القانون المستورد مع النظام الأساسي، وذلك قبل تطبيقه، وتُشكّل هذه الطبقات المتعددة من التدقيق آلية تحمي الشريعة الوضعية الإسلامية من التلوث غير المرغوب فيه، وبما أن المشرعين والفقهاء والقضاة جميعاً جزءٌ من الحكومة، ينبغي أن يتمتع العلماء المستقلون بحريةٍ تامة في تقييم مدى استقبال القانون الأجنبي أيضاً.
تاريخياً، كان استقبال القانون الأجنبي في العالم الإسلامي لا يمر دون تشويش، فقد كان يتعرض للقسر والفرض، وأحياناً حتى للثورة، في القرن التاسع عشر، على سبيل المثال، فُرضت على مصر قوانين مدنية غربية من قبل القوى الاستعمارية، وطُرح فكرة التخلي عن القانون الإسلامي، بما في ذلك الفقه الكلاسيكي في التعاملات التجارية، وفي بداية القرن العشرين، شهدت تركيا ثورة علمانية ألقت بالقانون الإسلامي جانباً، بما في ذلك المجلس، واعتمدت بدلاً منه القوانين الغربية، بما في ذلك القانون المدني السويسري، وكان اعتماد القوانين المدنية الغربية، سواء بالقسر أو بالطوع، يستند إلى مبادئ الحداثة وتطوير القوانين، وتأثير نظرية معينة تنال إعجاب الغرب، خصوصاً في فرنسا، والتي تؤكد على ضرورة توافر القانون في كتاب واحد للجميع، بغض النظر عن مستوى التعليم، وكان قانون نابليون يُعَدُّ مثالاً لتلك العقلية القانونية الغربية، والتنويرية، والشعبوية، وكان الانجذاب القوي لقبول القوانين المدنية الغربية نتيجة لتقييم متشائم من قبل الطبقة الحاكمة الإسلامية، الذي جاء تحت تأثير سحر الانتصارات الغربية، بأن الشريعة الإسلامية تُعتَبَرُ عائقاً قديماً أمام التطور الاجتماعي والاقتصادي.
ومع ذلك، أبدأت الديناميكيات القانونية للشريعة الإسلامية في الوقت نفسه بتحدي السيادة السائدة للقوانين المدنية الغربية، في عام 1948، وُضِعَتْ مصر في قيادة التغيير عبر صياغة قانون جديد تحت إشراف عبد الرزاق السنهوري، الذي أكمل تعليمه في فرنسا، ورغم أن قانون عام 1948 أعاد دمج الشريعة الإسلامية في الأنظمة القانونية المصرية بشكل جزئي، ورغم أنه أدى إلى تبني القوانين النسخ في دول عربية أخرى، فإنه يشكل خرقاً صريحاً لمبدأ الخضوع، فقد تم دمج العديد من مبادئ الشريعة مع أحكام القوانين الأجنبية، لكن المادة الأولى من هذا القانون وضعت تسلسلاً هرمياً مثيراً للجدل للمصادر المستخدمة من قبل القضاة في القضايا، ووفقاً لهذه المادة، أصبحت أحكام القانون الأعلى في البلاد، وثاني مصدر محدد في هذا التسلسل هو العادات المحلية، وسيتم اللجوء إلى مبادئ الشريعة الإسلامية فقط في حالة عدم كفاية هذه المصادر لحل القضايا، هذا التسلسل الهرمي للمصادر أدى إلى تحويل الشريعة الإسلامية لتكون مرهونة بالقوانين الأجنبية والعادات المحلية، مما قلل من قوة مبدأ الخضوع الذي يجب أن تتبعه القوانين والعادات الأجنبية للقانون الأساسي، وليس العكس، ومع ذلك، في عام 1948، كانت إعادة إدخال الشريعة الإسلامية في القوانين الأجنبية تُحتفى به كنوع من الانتصار على الهيمنة الغربية.
ومع بداية تراجع الهيمنة الغربية في الشرق الأوسط العربي، أُلقي القبض على المادة الأولى من قانون عام 1948 بمكانها بوصفها انحرافاً لا يُحتمل، وفي الأردن، حيث أُصدر القانون المدني في عام 1977، جاء هذا القانون كمزيج غني من المصادر القانونية الأجنبية والإسلامية، مع اندماج العديد من أحكام الفقه الكلاسيكي في هيكله، حيث أُعطيت مبادئ الشريعة أولوية على العادات المحلية، لكن تم الحفاظ على سيادة القانون فوق الشريعة، أما في دولة الإمارات العربية المتحدة، فقد أُخذت خطوات قليلة إضافية نحو استعادة مبدأ الخضوع، حيث تقبل المادة الثالثة من قانونها سيادة “الأحكام الشرعية الضرورية” و”المبدأ الأساسي للشريعة الإسلامية”.
بالتالي، إن استمرار بعض الدول في التردد عن تبني مبدأ الخضوع بشكل كامل قد يعزى جزئياً إلى نقص الثقة في النظام القضائي، في الزمن القديم، كان الفقيه هو من كان يبني القانون الإسلامي، وليس القاضي إذ يطبق القضاة القوانين التي يستمدونها من الفقهاء، ويبررون تطبيقها بموجبها، فقد كان كبار الفقهاء يترددون في تولي المناصب القضائية، لأنهم كانوا يعتبرون القضاة مسؤولين في الدولة أكثر من كونهم مجرد مترجمين للنصوص الدينية، بالتالي، إن الغموض الذي يحيط بشخصية الفقيه المسلم، والذي يتجلى في التقوى الشخصية والتفاني في فهم النصوص الدينية، يستمر في إثراء التقاليد القانونية الإسلامية، ومع ذلك، وعلى الرغم من الثقل التاريخي لهذه التقاليد، فإن الاجتهاد المعاصر ينظر إلى القضاء المستقل كجزء لا يتجزأ من مبدأ الخضوع، وبناءً على ذلك، يحق للقضاة أن يعلنوا أن قوانين القانون الوضعي (سواء كان القانون المدني أو التشريعات) تتعارض مع مبادئ القانون الأساسي.
وفي مواجهة استقبال القوانين الأجنبية، يثير منهج السنهوري، الذي يقترن بخلط القانون الأجنبي مع الفقه الإسلامي كما حدث في قانون مصر المدني لعام 1948، مخاطر التلوث، عندما تتداخل أحكام القانون الأجنبي بشكل كبير مع الفقه الإسلامي، فإنه يشكل تحدياً صعباً أمام الفقهاء والقضاة في تقييم صحة القواعد المتشابكة بموجب مبدأ الخضوع، فقد يكون من الصعب على القضاة تمييز الأجزاء النقية من الأجزاء الملوثة في الأحكام المختلطة، ومع ذلك، عندما يتم استعارة القانون الأجنبي دون الانتباه للتوافق مع القواعد الإسلامية، فإن غرابته تتواصل كالإبهام المؤلم، وتهدد شرعيته، ولذا، يتحمل المشرعون والقانونيون مسؤولية خاصة في تقليل مخاطر التلوث وفحص الآثار العملية للقوانين المختلطة بعناية بموجب مبدأ الخضوع قبل اعتمادها.
وقد تكون بعض صور القانون الأجنبي متميزة لدرجة أنها تثير التساؤلات بين المشرعين وأصحاب الرأي حول كيفية تقييم مدى توافقها مع القانون الأساسي، فعلى سبيل المثال، يُعتبر مفهوم الشركة ككيان مستقل قانونياً عن مساهميها ومستمراً بعد وفاة المساهم، توازناً دقيقاً بين مفاهيم إسلامية مثل الشراكة والوقف، التي احتضنها الفقه الكلاسيكي عبر العصور، بشكل عام، يُنهي الفقه الكلاسيكي الشراكة عند وفاة الشريك ما لم يلتزم ورثته بالالتزام بالشراكة بموجب الاتفاقية الأصلية أو المعدلة، ومع ذلك، يُوزع قانون الميراث الإسلامي، المنصوص عليه في القرآن الكريم، التركة بين أفراد الأسرة المتبقية، بما في ذلك الأم والأب الباقين على قيد الحياة، وبين الأطفال من زيجات متعددة وأمهاتهم، وبالتالي، يكون من الصعب على الورثة المشروعين للشريك المتوفى الموافقة على مواصلة الشراكة دون تقسيم التركة، وبالتالي، تنتهي معظم الشراكات عند وفاة الشريك، مما يؤثر على استمرارية العمل بشكل كبير.
أما في خلاف مفهوم الشراكة، يُقدم مفهوم الوقف منهجاً قانونياً يمكن للأفراد من خلاله إيداع الأصول في صندوق يُعرف بالوقف، والذي يظل قائماً بعد رحيلهم عن الدنيا، حيث لا يخضع الوقف لقوانين التركة المعتادة، وقد يتضمن المستفيدون منه الواهب نفسه، والورثة، وأفراد العائلة، وأي شخص يُعيَّنه الواهب، كما يُمكن أن يمتد الوقف عبر الأجيال، ويُمكن استئجار أصوله لتوليد الدخل، مما يجعله وسيلة للاستثمار الشرعي وتحقيق الأرباح، وبينما يُقام الوقف الخاص للحفاظ على أصول العائلة، يُنشأ الوقف العام لأغراض خيرية وعامة، وهكذا، يُقدم مفهوم الوقف طريقة قانونية للحفاظ على الأصول ككيان غير قابل للتجزئة، وهو مفهوم يتعارض وظيفياً مع فكرة توزيع التركة.
وبتفكير مرن ومبدع، تشكلت فكرة الشركة باستيحاء من مزيج متقن لعنصري الشراكة والوقف، رغم عدم تمكن الفقهاء المسلمين من صياغتها ككيان قانوني يهدف للربح ويبقى حتى مغادرة المساهمين، إن مفهوم الشركة، ورغم التحديات التي واجهته، يمثل تطويراً جديراً بالتقدير في مسيرة الإبداع البشري، حيث يجمع بين الموارد والمواهب لإنتاج السلع والخدمات، مما يسمح لأصحابها بالتغيير دون تعطيل العمل أو مصير الشركة، وبالطبيعة، قد تفلس الشركات أو تغلق أبوابها عندما لا تكون منتجاتها مطلوبة بعد الآن، ولكن فكرة الشركة، واستمرارها في القانون، أحدثا نقلة نوعية في عالم رأس المال وإنتاج الثروة.
تسعة وتسعون قاعدة في الفقه
بينما يظل القانون الأساسي ثابتاً وغير قابل للتغيير، يظل الفقه مرناً وعرضة للتطور، وفي سياق الفقه الكلاسيكي، يتمتع الاجتهاد المعاصر بالقدرة على إعادة تقييم الآراء القانونية السابقة بما يتناسب مع الزمان والمكان، فالتقاليد القانونية لا تتخلى عنها السهولة، فهي تمثل تراكماً عريقاً من التحليل والدراسة عبر الأجيال، ومن خلال مفهوم السوابق الصارمة، يتم الحفاظ على الاستقرار ومنع الفوضى في النظام القانوني، إذ يلزم الفقهاء الجدد بالالتزام بالقواعد السابقة في قضايا مشابهة، ومع ذلك، يجب ألا يخلط الفهم بين السوابق الصارمة وتجديدها، فالاجتهاد المعاصر يحترم التقاليد القانونية السابقة، لكنه لا يعتبرها محجوزة تماماً، إذ يحق للمهنيين القانونيين تحدي السوابق القانونية، حتى إذا كانت مقدمة من قبل علماء فقه بارزين، وبالمثل، يحق للمجالس التشريعية تبني قوانين جديدة، ويحق للقضاة اتخاذ قرارات تتنافى مع السوابق الفقهية السابقة، ومع ذلك، يجب على المشرعين والقضاة عندما ينقضون السوابق القانونية أن يثبتوا موافقة القواعد الجديدة مع القانون الأساسي.
تعتبر المبادئ القانونية للفقه الكلاسيكي خير دليل على ثبات القوانين. فهي تتجذر في مبدأ الخضوع، وتخضع للاختبار من خلال تطبيقات عملية متعددة، حيث تم صياغتها بإيجاز ودقة وإدراجها في القانون المدني العثماني، الذي أُصدر تحت اسم “المجلة” في أواخر القرن التاسع عشر، قبل سقوط الدولة العثمانية، ومع أن “المجلة” لم تبتكر هذه المبادئ، إلا أنها تمثل تجسيداً لجهود مشتركة للفقهاء المسلمين على مر العصور، حيث تم توضيحها وتحسينها لتناسب الزمن والمكان، وقد اعتمدت بعض الدول مثل الأردن والعراق والإمارات العربية المتحدة هذه المبادئ رسمياً في قوانينها المدنية الحديثة، ويستفيد العلماء المعاصرون من هذه المبادئ في أعمالهم التحليلية والاستشرافية، فعلى الرغم من الاختلافات الثقافية واللغوية والاقتصادية والدستورية، يجب أن تظل القواعد الفقهية جزءاً لا يتجزأ من القانون الوضعي الإسلامي في الدول الإسلامية.
بالتالي، إن القواعد الفقهية التسعة والتسعون تشكل جزءاً أساسياً من القانون الإسلامي، إذ تعكس مبادئ الحكمة القانونية والفكر الرئيسي للشريعة الإسلامية، ومهما كانت مصادرها البشرية، فإنه يجب فصلها بوضوح عن الأوامر الإلهية الموجودة في القانون الأساسي. ورغم أنها ليست مقدسة، فإن هذه المبادئ تمثل إرثاً قانونياً يمكن الاستناد إليه في حل القضايا، وبناء الحجج القانونية، وتفسير النصوص، وصياغة التشريعات الحديثة، وتقييم العادات الجديدة، وتحليل قواعد القانون الدولي. وحتى في حال عدم اعتمادها رسمياً من قبل دولة إسلامية معينة، فإنه يمكن استخدام هذه المبادئ في تعليم القانون، وتدريب المحامين، وتفسير الأحكام القضائية، والدفاع عن الرؤى الفقهية.
بالتالي، إن التطرق إلى القواعد القانونية التسعة والتسعين يتخطى حدود هذا الفصل، ولكن تمت دراسة بعض المبادئ القانونية لتوضيح فوائدها المحتملة في فهم وتطوير الشريعة الإسلامية، فقد تجسّدت تلك الفوائد في قاعدة فقهية تعكس الحكمة: “إذا عجز العطاء حل القرض”، والتي تنص على أنه في حالة عدم قدرة الشخص على تقديم العطاء المتفق عليه، يجب استرجاع قيمته، أما في الزمان الحاضر، تعكس هذه المبادئ القانونية فكرة توازن بين الأداء المحدد للعقود وتعويض الأضرار، وتضعها في سياق القانون العام، فعلى سبيل المثال، في القانون العام، يتم تعويض الأطراف المتضررة مالياً في حال عدم تنفيذ العقد، بينما تنظر القاعدة الفقهية إلى الأداء المحدد كحلا لتنفيذ العقود، مع فرض التعويض المالي فقط عندما يكون الأداء المحدد غير ممكن، والأهم من ذلك، فإن هذا المبدأ القانوني يقدم حلاً عملياً يلبي متطلبات القرآن في تنفيذ العقود، ويتيح للقضاة التدخل لتحديد الحلول الملائمة في حالات الخرق، سواء كانت تعويضات مالية أو أداء محدد.
وبنظرة عميقة على قاعدة قانونية أخرى تمسّ جوهر تفسير النصوص بحرفية، تنص هذه القاعدة على مبدأ بسيط: لا تُعتد باستدلالات الحجج التي تنافي معاني البيان الواضح، وهنا يظهر اتجاه في الفقه نحو استنتاجات تفسيرية تتعارض مع البيان الواضح للنص، حيث يمكن للفقهاء أحياناً أن يُشوّهوا المعاني الواضحة لأنهم لا يوافقون على النتيجة المنطقية لها، ولتبرير هذا التحريف التفسيري، قد يقدم الفقهاء حُججاً مُعقّدة للتحايل على المعاني الواضحة، حيث تبدو بعض هذه الحُجج جذابة، وذلك بناءً على خبرة الفقيه ومهارته في التفسير، وترتبط هذه القاعدة بتوجيهات من القرآن الكريم، التي تنهى عن تأويل الآيات المجازية بشكل ضار وتحث المسلمين على التركيز على الآيات ذات المعاني الواضحة، وهذه القاعدة الشرعية تتماشى مع السنة النبوية التي تنهى عن الترويج للمصالح بطرق غير مشروعة.
كما تعتبر التحريفات التفسيرية للبيانات الواضحة ظاهرة شائعة بين المحامين والقضاة الذين يستخدمون النصوص القانونية كأدوات لتعزيز أفكارهم ومعتقداتهم، فتحول النصوص إلى ساحة للتأويل المنحاز للأيديولوجيات يقود إلى إغفال معنى البيانات الواضحة، تُقبل هذه التحريفات بشكل متباين في ثقافة القانون، حيث تحظى الجدالات بتقدير كبير، وعادة ما لا تثير هذه التلاعبات بالنصوص الواضحة سوى انزعاجاً طفيفاً في نظام الخصومة، حيث يُقدم الأطراف نسخها المحرفة من القوانين للمحكمة وتترك لها القرار بتقييم التفسيرات، أما في القانون الإسلامي، رغم سماحه بالتفسيرات المتعارضة، لا يشجع على ثقافة التحريف التي تنفذ معاني البيانات الواضحة، والأهم، أنه لا يفترض أن النصوص القانونية فارغة من المعاني ويجب استنتاج المعنى فقط من قراءتها، وبدلاً من ذلك، يُعتبر القانون الإسلامي أن النصوص قد تحمل معانٍ موضوعية وواضحة ومستقلة، بعيداً عن التأويل الشخصي للقارئ.
وفي سياق حكم سيادة القانون، تنادي التطورات القانونية الحديثة بتوسيع أفق الأساليب المستخدمة في تفسير القوانين الأساسية، على الرغم من أهمية الطرق التقليدية في التفسير، مثل المقارنة والإجماع، إلا أنه لا يمكن تجاهل الأساليب الجديدة التي تقدم وجهة نظر مختلفة لفهم النصوص القانونية الأساسية، حيث يدل القبول الشائع لمبدأ التوافق على استعداد الدول الإسلامية لإعادة النظر في تشريعاتها باستخدام أساليب متنوعة، فالتوافق في الأغراض يُعتبر آلية قانونية مفيدة لتقييم مدى توافق التشريعات مع الشريعة الإسلامية والقوانين الدولية والسابقات القضائية، وبالمثل، إذا كانت العادات والتقاليد المحلية تتفق مع مبادئ النظام الأساسي، فإن الفقهاء قادرون على اعتبارها جزءاً من الشريعة الإسلامية، ويمكن استخدام أساليب قانونية أخرى، مثل الضرورة والإكراه، لوضع قوانين جديدة تتلاءم بشكل أكبر مع الظروف غير المعتادة.
بالتالي، إن الاجتهاد المعاصر يتجاوز حدود الأساليب الفقهية التقليدية في تفسير النصوص الإلهية، بل يفتح أفقاً جديداً للأساليب القانونية لتحليل المصادر القانونية الإيجابية، مثل الدساتير والقوانين والمعاهدات والآراء القانونية والسابقات القضائية، كما يتيح الاجتهاد المعاصر الاستفادة من أساليب قانونية مبتكرة لفهم النصوص الدينية، وقد استخدمت المدارس الفقهية التقليدية أساليب قانونية مختلفة، مثل القياس والقياس والإجماع، لتفسير وتنظيم قواعد الشريعة الإسلامية، القياس، كوسيلة قانونية، يُستخدم عالمياً في جميع التقاليد القانونية لتوسيع مفهوم النص القانوني، وهو أداة توجيهية تُسهم في فهم البشر للتعاليم الإلهية، وفي القرآن الكريم، يُستخدم القياس كأسلوب تعليمي يتخذه الله عز وجل لتوجيه البشر، بالتالي، إن استخدام القياس والإجماع قد أتاح فرصاً لتحليل شامل ومتنوع، حيث سمح القياس للفقهاء بالاستفادة من خبرتهم الشخصية وفهمهم العميق للقانون الأساسي، بينما حدد الإجماع المؤسسة القانونية للقرارات بشكل محدد.
فقد كانت مؤسسة الإجماع كجدار حصين، ترفع الآراء الفقهية إلى مراتب القواعد الثابتة في الشريعة الإسلامية، حيث إذا اتفق الفقهاء بإجماعهم، كانت قاعدتهم محل احترام وامتثال من جميع الطوائف، كانت هذه القواعد تعتبر شبه إلهية، فإن العلماء المرموقين والمؤمنين الأتقياء، الذين تجلت فيهم الصدق والجدية، وجدوا لهم أتباعاً غفيرين بين الناس، رغم وجود تباين في الآراء، إلا أنهم توصلوا إلى اتفاق على أن قاعدة الإجماع تمثل تفسيراً مميزاً، وأحياناً حصرياً، للشريعة الإسلامية الأساسية، كما كان لوزن الرأي الروحي والفكري لقاعدة الإجماع تأثيره الساحق، حيث اعتبرت أي قاعدة بديلة تتحدى قاعدة الإجماع بمثابة انحراف، وحتى تهميش للعقيدة، إن استخدام الإجماع كوسيلة لتأسيس قواعد الشريعة الوضعية الإسلامية ليس ممراً سهلاً ولا خالداً، ومع ذلك، يمكن أن يكون له دور مختلف في الزمان الحاضر، فإذا استوعبت واقع العصر، فإن النسخة الحديثة من الإجماع قد تضع قواعد جماعية جديدة تخدم الأمة الإسلامية في الزمن الحاضر.
وإن تأملنا قليلاً في أفق القضاء العليا في دولة إسلامية كــباكستان، كمثال توضيحي، إذا أصدرت المحكمة العليا الباكستانية قراراً بالإجماع دون أي معارضة، فسيكون هذا القرار مرجعاً قانونياً قوياً في باكستان، وإذا تم تبني أو الموافقة على قرار مماثل في دول إسلامية أخرى، فإن الإجماع المتجسد في دولة واحدة يمكن أن يتحول تدريجياً إلى إجماع للأمة الإسلامية بأكملها، وإذا تم إنشاء محاكم مستقلة ونزيهة في جميع الدول الإسلامية، وإذا كانت للمحاكم العليا القدرة على دراسة وتبني آراء المحاكم في الدول الإسلامية الشقيقة، فإن فقهاً جديداً للإجماع قد ينبثق، ومع ذلك، يجب إزالة الحواجز اللغوية واللوجستية لتحقيق الإجماع القضائي في العالم الإسلامي، وعندما يتم التغلب على هذه العوائق من خلال ترجمة القرارات القضائية وتوفير الوصول إليها، يمكن لمفهوم الإجماع القضائي أن يترسخ بثبات.
صعود التشريع
يرتبط مفهوم الدولة القومية بمصدر التشريع، فهو مصدر قانوني تحول إلى شهرته في القرن العشرين، عبر عدة قرون، داخل العالم الإسلامي وخارجه، كان التشريع يشكل مصدراً شبه معدوماً للقانون، ففي إنكلترا، على سبيل المثال، ورغم وجود البرلمان لعدة قرون، كان القانون العام، وليس التشريع، هو المسيطر في مجال القانون، وفي عام 1776، عندما كانت الثورة الأمريكية على وشك الاندلاع، أعلن ويليام بلاكستون أن القانون العام قد أصبح مثالياً، وهذا الادعاء لم يكن مختلفاً عن ادعاء الفقهاء المسلمين الذين أكملوا الفقه الإسلامي قبل قرون، ومع ذلك، تم طعن كلا الادعاءين في القرن التاسع عشر، مع تغيرات اجتماعية واقتصادية هائلة في العالم، فإذا كان القرن التاسع عشر شهد ظهور قوانين مدنية، فقد شهد القرن العشرين تطوراً لافتاً للتشريعات، واتخذت الثورة التشريعية قوة أكبر في مرحلة ما بعد الاستعمار، مع ظهور المئات من الدول القومية الجديدة، والعديد منها كانت دولاً إسلامية، حيث خضعت القوانين والأنظمة الإمبراطورية للتشريعات الوطنية، كما ساهمت التشريعات في تغييرات كبيرة في وسائل الإنتاج وتجميع الثروات الجديدة وخلق أسواق عمل جديدة، مما أدى إلى تحول اقتصاديات المجتمعات التقليدية من الزراعية والرعوية، وتحت قيادة الدولة القومية، أصبحت تفضيلات المجتمع متعددة أكثر من أي وقت مضى، وبات التشريع هو السبيل لتجنب الألم الاجتماعي وتعزيز المتعة الاجتماعية الإجمالية، وهو نموذج فعال وفعال يُنسب إلى جيريمي بينثام.
أما في عالمنا الإسلامي، تجعل قوى الحداثة من الحكومات أمراً لا بد منه، لتنظيم الجوانب الجديدة للحياة والتقدم التي لم تكن مألوفة لدى العلماء الفقهاء القدامى، فعلى سبيل المثال، لم يتناول الفقه الكلاسيكي قوانين حركة المرور لتنظيم السيارات التي تملأ الشوارع والطائرات التي تعبر السماء بأعداد هائلة، وبالمثل، هناك حاجة ملحة لتشريعات جديدة تنظم عمل الأطفال، وتحارب التمييز في سوق العمل، وتدير الموارد الطبيعية، وتحمي العلامات التجارية، وتضمن حقوق الابتكار والنشر، وغيرها من المجالات التي جلبتها الحياة الحديثة إلى دول العالم الإسلامي، وفي حين كانت القوى الإسلامية التقليدية تشعر بالريبة تجاه الحداثة، بأسباب تعتبر وجيهة في بعض الأحيان، وتنصح بالحذر والتأني، إلا أن معظم الحكومات والشعوب الإسلامية تتجنب المفاهيم العزلة والتقشف، وهي مفاهيم تعوق التطور والتواصل مع باقي العالم، فالحضارة الإسلامية جزء لا يتجزأ من الحضارة البشرية، وبناءً على هذا المبدأ، يسعى المسلمون بقوة لمواكبة التطورات الحياتية على الأرض، مع الحفاظ دائماً على مبدأ الخضوع والطاعة.
بالتالي، إن المشاركة الفاعلة في عصرنا المعاصر تتطلب إقرار قوانين شاملة ومستمرة، فالطريقة التقليدية لاستنباط القوانين من المصادر الرئيسية تستهلك وقتاً طويلاً وقد لا تكون فعّالة بشكل مضمون، إذ يأتي التشريع، سواء كان عبر المراسيم الملكية، أو الأوامر العسكرية، أو القوانين البرلمانية، كحلاً جيداً لمتطلبات التطورات الحديثة، على الرغم من أنه ليس السبيل الأمثل لإنشاء القوانين، حتى الجهود الرومانسية التي قام بها نابليون بونابرت في تصميم قانون مدني شامل لحل كافة الألغاز القانونية، فشلت، لأن تقلبات الزمان وتحديات الحياة تتطلب باستمرار تعديلات وتحديثات على القوانين السائدة.
بما أن التشريع الإسلامي يجب أن يتوافق مع النظام الأساسي، فإن هناك سلسلة من الأسئلة التي ينبغي الإجابة عليها، هل يجب أن يكون المشرعون، أعضاء المجالس التشريعية في الدول الإسلامية، فقهاء مؤهلين؟ وإذا لم يكونوا جميعاً فقهاء مؤهلين، هل يجب عليهم على الأقل أن يكونوا مسلمين ملتزمين؟ فمن غير المألوف أن يتولى غير الملتزمين بالإسلام سلطة تشريعية لصالح أمة إسلامية، وهكذا، يثار السؤال أيضاً حول ما إذا كان ينبغي لغير المسلمين أن يكونوا أعضاء في الهيئات التشريعية، فالتشريع بموجب مبدأ الخضوع يمكن أن يكون مثار قلق إذا سُمح لأعضاء غير المسلمين في المجالس التشريعية بالتصويت على التشريعات، ومن ناحية أخرى، فإن السلطة التشريعية، خاصة في النظام الديمقراطي، قد تفشل في تمثيل جميع شرائح المجتمع إذا تم استبعاد الطوائف غير المسلمة المقيمة في الدولة.
وفي تصويب هذه الشبهات، يتضح أن الدستور الباكستاني يوفر إطاراً محدداً، ينص على مجموعة من المؤهلات التي يجب توفرها للتأهل لعضوية أي من مجالس الهيئة التشريعية الوطنية المؤلفة من مجلسين، حيث لا يُعتبر أي شخص مؤهلاً ليتم انتخابه أو تعيينه كعضو في الهيئة التشريعية ما لم يكن يتوفر فيه، بين أمور أخرى: أن يكون حسن الخلق ولا يُعرف عادة بأنه من يخالف أحكام الإسلام؛ أن يكون لديه المعرفة الكافية بتعاليم الإسلام، ويمارس الفرائض، ويمتنع عن الكبائر؛ وإنه حكيم وصالح وغير مسرف وصادق وآمين.
وتُظهر هذه المؤهلات أهمية أن يكون المشرعون مسلمين ملتزمين ولديهم معرفة كافية بالتعاليم الإسلامية، ومع ذلك، فإن المؤهلات الدينية لا تنطبق على غير المسلمين المنتخبين أو المعينين كأعضاء في الهيئة التشريعية، ومع ذلك، فحتى غير المسلمين يجب أن يتمتعوا “بسمعة أخلاقية جيدة” وفقاً للدستور، وعلى الرغم من أنه يُسمح لغير المسلمين بالمشاركة في الانتخابات العامة لمقاعد المجلس التشريعي، إلا أن عدداً محدوداً من المقاعد مخصص لغير المسلمين في الجمعية الوطنية، ويُسمح أيضاً بتعيين غير المسلمين في مجلس الشيوخ، ولكن لا يُخصص الدستور حصة من المقاعد لهم في هذا المجلس، وفي كليهما، يتمتع أعضاء غير المسلمين بحق التصويت بالمساواة مع الأعضاء المسلمين في أي تشريع.
وفي الهيئات التشريعية الديمقراطية، كما يحدث في باكستان، تبدو المؤهلات الإسلامية المطلوبة للمشرعين ضعيفة في بعض الأحيان، مما لا يضمن تماماً أن القوانين التي يتم إقرارها ستتماشى مع مبدأ الخضوع، ويقدم الدستور الباكستاني طرقاً إضافية لفحص الطابع الإسلامي للتشريعات.
أولاً، يُسمح بتقديم التشريعات إلى مجلس الفكر الإسلامي، وهو هيئة دستورية تم إنشاؤها لمراجعة التشريعات وفقاً لمبدأ التقديم، وليس كل تشريع يمر عبر المجلس، حيث قد تتطلب عضوية الرئيس أو خمسين عضواً (أقل من الأغلبية البسيطة) في مجلس الهيئة التشريعية الوطنية مراجعة جزء من التشريع بناءً على تناقضها مع القانون الأساسي؛
ثانياً، تمتلك المحاكم صلاحية إلغاء القوانين التي لا تتوافق مع القرآن والسنة النبوية، ومع وجود هذه الآليات، يعمل الدستور الباكستاني على تعزيز القوانين الديمقراطية ضد العوامل الغير إسلامية، وربما غير الشرعية.
وكما ذكرنا آنفاً، العادات المحلية كانت جزءاً لا يتجزأ من القانون الإسلامي، وعندما يعتنق مجتمع جديد الإسلام، يُسمح له بالحفاظ على عاداته الشرعية، كما فعلت القبائل العربية في مكة والمدينة، شريطة أن تكون متماشية مع النظام الأساسي، كما ينطبق مبدأ الخضوع على كافة العادات المحلية لجميع المجتمعات الإسلامية، سواء كانت قديمة أو حديثة. ليس من الضروري على المجتمع المسلم أن يقبل عادات مجتمع آخر، ولكنه حر في اعتماد عادات المجتمعات الإسلامية، على سبيل المثال، قد يختار الكثيرون من المسلمين، من محبتهم العميقة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، اعتماد عادات مكة والمدينة، المدينتين التي نزل فيهما القرآن الكريم، ولكن يجب ألا يختلط بين التبني الطوعي لعادات مجتمع آخر وبين الإجبار.
بالتالي، إن المسلمين في أي مكان في العالم، سواء كانوا في الدول الإسلامية أو خارجها، ملزمون بعدم اتباع العادات المحلية التي تتعارض مع القوانين الأساسية، يُحترم الإسلام العادات المحلية ويصوِّبها، فقد رفض القرآن الكريم والسنة النبوية العديد من العادات المحلية في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، كما في مسألة الزواج والحياة الجنسية، عن طريق إرساء مبدأ بسيط ينص على أن الزواج يجب أن يكون عقداً يُبرم بالرضا، كما حظر القانون الزواج القسري، بما في ذلك الزواج بالقوة أو بالمال، بالإضافة إلى ذلك، عزز الإسلام مبدأ الموافقة والكرامة الشخصية، كما حرَّم الإسلام العادات المحلية مثل الزواج المؤقت والزواج الجماعي وزواج العلم، والذي يمثل شكلاً من أشكال الدعارة.
أيضاً، حيازات القضية تشكل جزءاً أساسياً من المنهجية القانونية في الشريعة الإسلامية المعاصرة، وتعتبر ثلاثة تحولات بارزة أساساً في جعل حيازات القضية مصدراً رئيسياً للقانون الإسلامي:
أولاً، جعل إنشاء المحاكم العليا الوطنية القضايا المحددة ذات الأهمية الدستورية في مركز الاهتمام القانوني، فقد أنشأت جميع الدول الإسلامية تقريباً محاكم عليا تتمتع بصلاحيات شاملة في البت في المسائل الدستورية الحيوية للأمة؛
ثانياً، مع تسهيلات الإبلاغ والتوثيق اللوجستية للحالات، أصبح من السهل على الخبراء القانونيين الرجوع إلى القضايا السابقة ومراجعة الرأي القضائي الملائم في التعامل مع القضايا الحالية، وفي العصور القديمة، كان توثيق الآراء القضائية تحت حكم الإمبراطوريات الإسلامية شبه غير موجود، ومع ذلك، فإن عصر الإنترنت قد يساهم في تخفيض تكاليف الإبلاغ عن الآراء القضائية وتعزيز إمكانية الوصول إليها؛
ثالثاً، تم وضع منهج فقهي يؤكد على ضرورة التعامل مع القضايا المشابهة بالمثل، فإذا كانت حقائق القضية الحالية مماثلة لتلك في قضية سابقة، فإن العدالة والاتساق القضائي يتطلبان تطبيق المبادئ السابقة على القضية الجديدة.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أن الحيازة السابقة قد لا تكون دائماً مقبولة في القضية الحالية إذا لم تعد عادلة أو منصفة، بالتالي، عند النظر في نقض عقد سابق، يتعين على المحكمة تبرير قرارها بشكل مقنع، والنقطة الأكثر أهمية هي أن الحيازة الجديدة يجب أن تتفق مع مبدأ الخضوع، كما يتماشى مبدأ نقض السوابق القانونية مع مبدأ الخضوع بشكل كامل، حيث يعكس الواقع أن المشكلة القانونية قد تتيح أكثر من حلاً ممكناً وفقاً للقانون الأساسي، كما يؤكد الفقه الكلاسيكي على أن الفقهاء الذين لديهم نية طيبة قد يقدمون تفسيرات متعددة للقانون الأساسي لإيجاد حلول ملائمة للمشكلات القانونية، بينما تتماشى جميعها مع نصوص القوانين الإلهية، ومن بين هذه الحلول المقبولة قانوناً، يجب على المحكمة اختيار التفسير أو المبدأ القانوني الأكثر ملاءمة لإنصاف القضية، ومع ذلك، فإن الحل القانوني الذي يكون مناسباً في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية محددة قد لا يكون فعالاً في ظل مجموعة مختلفة من الظروف الاجتماعية والاقتصادية، لذا، وعلى الرغم من حساسية السياقات الاجتماعية والاقتصادية المتغيرة، يجب أن تكون للمحكمة السلطة القضائية لتقديم حل قانوني جديد مقبول قانونياً، وبالتالي، يكون من الضروري نقض الحكم السابق.
على سبيل المثال، في بعض بقاع العالم الإسلامي، تصطف المحاكم العليا بفخر لمراجعة التشريعات وفق مبدأ الخضوع، وكانت باكستان قد شهدت في عام 1999 قراراً تاريخياً نادراً من هيئة الاستئناف الشرعية في المحكمة العليا، حيث حظرت بشدة جميع أشكال الربا المتداولة في التمويل الحديث، كما برزت روح القرآن الكريم في هذا القرار، إذ أعلنت المحكمة أن كل صفقة تتضمن الفائدة تعتبر غير دستورية، فإن دستور باكستان يقوم على أساس يحرم الربا، في إطار ذلك، قام القاضي تقي عثماني، الذي كان يتمتع بسمعة عالية كفقيه مسلم وقاضي، بتوضيح الأحكام الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية، مؤكداً أن أي مبلغ مضاف على رأس المال في صفقة القرض أو الدين يجب أن يُعتبر ربا، الذي يُحَرَّم بالقرآن، وفي رأيه المنفصل، استند القاضي عثماني إلى تحليل شامل للربا ونهج حظره في الصفقات والتعاملات المالية، كما رفضت المحكمة مبدأ الضرورة الذي يبرر الأشياء غير القانونية بموجب الدستور، مؤكدة على أنه لا يمكن الاستمرار في المعاملات الربوية بشكل دائم بناءً على مبدأ الضرورة، وعلى الرغم من مقاومة بعض المصرفيين والخبراء الماليين والأكاديميين لهذا القرار، إلا أن الحقيقة المنطقية والواضحة أثبتت أن أساليب التمويل الإسلامية ليست فقط مجدية بل تتمتع بفوائد عديدة، تساهم في تحقيق اقتصاد متوازن ومستقر للبلاد.
القانون الدولي الإسلامي
تُظهر التطورات القانونية المعاصرة عودةً للقانون الدولي الإسلامي، المعروف تقليدياً بـ “السير”، يسمح القانون الأساسي للمسلمين بالمشاركة في معاهدات السلام والتعاون مع غير المسلمين، وفي السنوات القليلة الماضية، شهد القانون الدولي توسعاً هائلاً في مختلف المجالات، بدءاً من المعاملات التجارية إلى حقوق الإنسان، حيث تلعب الدول الإسلامية دورًا فعّالًا في تشكيل المعاهدات الإقليمية والدولية، وحماية والحفاظ على القانون الدولي، ويُعتبر القانون الدولي ضرورياً بشكل كبير لسير دول العالم الإسلامي، حيث لا تستطيع أي دولة منفردة الازدهار في عزلة، ومع ذلك، يحتاج القانون الدولي إلى مشاركة الدول الإسلامية بقدر ما تحتاج تلك الدول إليه، على سبيل المثال، لا يمكن تحقيق إطار قانوني عالمي موحد دون موافقة الدول الإسلامية السبع والخمسين، كما أن القيم العالمية لا يمكن أن تتجاوز توجيهات الشريعة الإسلامية.
وتُستخدم مبادئ التوافق بشكل واسع في دول الإسلام، خاصة تلك التي تتبنى مبدأ الخضوع، لتوافق المعاهدات الدولية مع الشريعة، وتُستخدم التحفظات والتفاهمات والإعلانات للحفاظ على سيادة القانون الأساسي، حيث يتم رفض أي جزء من المعاهدة لا يتماشى مع القانون الأساسي، وتُستخدم هذه الوسائل لحماية القيم الأساسية المحلية، فكما تحمي الولايات المتحدة سيادة دستورها، تحافظ الدول الإسلامية على سيادة الشريعة بتحفظاتها وتفاهماتها وإعلاناتها.
وتتعلق أغلب التحفظات المبنية على الإسلام بمعاهدات حقوق الإنسان، وخاصة المقتضيات المتعلقة بقوانين الأسرة، ويُعبر التحفظ الأكثر شهرة عن المعاهدات عبر لغة التوافق، كما في تحفظ المملكة العربية السعودية على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، الذي ينص: “في حالة تضارب بين أي شرط من أحكام هذه المعاهدة وأحكام الشريعة الإسلامية، لا يلتزم النظام السعودي بمراعاة هذا التضارب”، كما تتنوع التحفظات التي تُبديها الدول الإسلامية لدعم سيادة الشريعة، ولكن لا يُعرف بوضوح ما إذا كانت تلك الدول تتبنى نظرة متزنة للشريعة تقتصر على القانون الأساسي، أم تميل إلى نظرة متطرفة تشمل الفقه الكلاسيكي، ويُقترح أن تُعبر الدول الإسلامية عن التحفظات للحفاظ على القانون الأساسي، بدلاً من الفقه الكلاسيكي أو الأجزاء الأخرى من الشريعة.
ومن التطورات البارزة الأخرى في القانون الدولي الإسلامي، يظهر ظهور ما يُمكن تسميته “قانون الأمة الدولي”، الذي ينظم العلاقات الخارجية بين الدول الإسلامية وبينها، في السابق، كانت جميع المجتمعات الإسلامية تشكل دار إسلام واحدة، وكان القانون الدولي ينظم العلاقات بينها وبين العالم غير الإسلامي، ولكن مع اعتبار الدولة القومية الوحدة الأساسية للنظام القانوني الدولي، تم تقسيم دار الإسلام نفسها إلى دول قومية، واليوم، يُستخدم القانون الدولي لإدارة العلاقات الدولية بين الدول الإسلامية وداخلها، وتسعى كل دولة إسلامية بشكل منفصل لحماية سيادتها واستقلالها السياسي، وتدخل في معاهدات مع دول أخرى وتشارك في تحالفات وتحالفات دولية، ومع ذلك، فإن الخلافات بين الدول الإسلامية ليست نادرة، حيث تعبر بعضها عن عداء متبادل ويتآمر البعض الآخر مع الدول غير الإسلامية ضد بعضها البعض، وتُفسر هذه الخلافات جزئياً بوجود أنظمة غير ديمقراطية في المنطقة، حيث يظل الزعماء الحاكمون، الذين يتمتع الكثير منهم بالسلطة الشخصية، في السلطة، وهو ما يعكس العداء الشخصي إلى سياسة خارجية.
وتظهر سياسات بعض الدول الإسلامية المعاصرة تعارضاً مع القيم الأساسية، فبينما يحق لها التعاون مع دول غير الإسلامية، يجب أن يكون هذا التعاون خالياً من العدوانية والظلم تجاه الدول الإسلامية الأخرى، بالتالي، يشدد القرآن الكريم على هذا الأمر: “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما يحرم عليكم الله أن تولوهم ولكن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وساعدوا على إخراجكم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون.”
ومن ناحية أخرى، لم تنجح الدول الإسلامية المعاصرة في كبح الجماعات الإرهابية والأنظمة التي ترتكب جرائم دولية وتُسبب الأذى للأبرياء، “انصر أخاك مظلوماً أو مظلوماً”، وعندما سُئل كيف يمكن مساعدته إذا كان ظالماً للآخرين، كان الجواب: “بمنعه من الظلم”، وهذا يساعده”. من خلال تشكيل تحالفات مع الجهات العدوانية وغير الحكومية، فشلت الدول الإسلامية في الوفاء بتعاليمها الدينية، بالتالي، إن تطبيق القانون الأساسي يلزم الدول الإسلامية بصياغة سياسات خارجية تتعامل بشكل مشترك وفعال مع كل أشكال الظلم التي وصفها النبي.
وعلى الرغم من التنافر والتشتت، تُبذل جهود حالياً لإحداث تغيير مؤسسي دولي فعّال للدول الإسلامية، بناءً على نموذج الاتحاد الأوروبي وغيره من الهيئات الدولية، بدأت الدول الإسلامية في تجميع جهودها لتحقيق أهداف مشتركة اقتصادية ودولية، وتعمل المنظمات الإقليمية والعالمية على تطوير إجراءات تعاونية، وعلى الرغم من استمرار الحكومات غير الديمقراطية في السلطة وعدم الثقة المتبادلة، فإن التعاون الدولي بين الدول الإسلامية قد لا يكون قوياً أو مستداماً في الوقت الراهن.
وتبرز منظمة المؤتمر الإسلامي كمنظمة حكومية دولية بارزة، تضمُّ في جوفها دول الإسلام حول العالم بكل وضوح، فتحتضن حالياً سبع وخمسين دولة، تضاف إليها دولة فلسطين، وتُفتح أبواب عضويتها أمام أي دولة تحمل غالبية سكانها الإسلامية، ويشبه ميثاق المؤتمر الإسلامي إلى حدٍ كبير ميثاق الأمم المتحدة، حيث يُحافظ على سيادة الدول الأعضاء واستقلالها وسلامتها الإقليمية، ومع ذلك، فإنه ليس مجرد معاهدة علمانية بين الدول الإسلامية، بل هو ميثاق يتغنى بروح الإسلام، يُفتتح بآية البسملة من القرآن الكريم “بسم الله الرحمن الرحيم”، ويتعهد الدول الأعضاء بتعزيز دور الإسلام في العالم وتحقيق التنمية المستدامة والازدهار لشعوبها. يحافظ الميثاق على القيم الإسلامية مثل السلام والرحمة والتسامح والمساواة والعدل والكرامة والاعتدال والاحترام للتنوع، ويعززها، كما يعتز بحماية الرموز الإسلامية والتراث المشترك، ويُدافع عن صورة الإسلام الحقيقية ويُقاوم تشويهها ويشجع على حوار الحضارات والأديان، وفي سعيها لتحقيق هذه الأهداف، تلتزم الدول الأعضاء بالاستناد إلى القيم الإسلامية النبيلة، التي تشمل الوحدة والأخوة.
ويتضمن ميثاق المؤتمر الإسلامي مصطلح “الأمة” في عدة سياقات مختلفة، مما يُظهر تنوع التجمعات الشعبية، بما في ذلك الأمة والأمة الإسلامية وشعوب الدول الأعضاء والشعوب الإسلامية. ورغم أن عبارة “الأمة الإسلامية” تُستخدم في سياق الحل السلمي للنزاعات بين الدول الأعضاء، فإن الميثاق لا يميز بين الأمة والأمة الإسلامية، ويُقرأ المصطلحين بشكل مترادف. وعلى الرغم من ذلك، فإن عبارة “الأمة الإسلامية” تأتي بطابع جديد، حيث يستخدم القرآن عبارة “الأمة الإسلامية”، وتُستخدم أيضاً في الوثائق الأخرى للمنظمة، وتشير كلمة “أمة”، التي أصبحت مشهورة عالمياً في جميع اللغات، إلى التضامن والوحدة والأخوة بين المسلمين.
بالتالي، يبدو أن نص ديباجة ميثاق منظمة التعاون الإسلامي، والأهداف المدرجة في المادة الأولى منه، قد تجاهلت الأمة تماماً، فالتركيز الأساسي كان على مصالح الدول الأعضاء وقيم الإسلام، دون أدنى إشارة إلى وحدة المسلمين بمفهومها الأوسع خارج حدود الدولة الوطنية، لو كانت الأمة مُذكورة في بداية الميثاق، وكانت رفاهيتها هدفاً أساسياً، لكان لذلك أثر إيجابي في تعزيز فكرة التماسك بين المسلمين، بغض النظر عن الحدود الجغرافية، وعلى الرغم من هذا الإغفال، يتجاوز ميثاق المؤتمر الإسلامي توجهاته النمطية نحو رعاية رفاهية الأمة فقط، إذ يمنح المؤتمر القمة الإسلامية – الجهة العليا لصنع السياسات – السلطة للنظر في “القضايا التي تهم الأمة”، ويُعقد جلسات استثنائية للقمة كلما استدعت ذلك مصلحة الأمة، وتنظر هذه الجلسات في “المسائل ذات الأهمية الحيوية للأمة”، وتعد القمة خططاً لتوجيه موارد المنظمة نحو تحقيق هذه الأهداف.
على سبيل المثال، في القمة الإسلامية الاستثنائية الثالثة التي عُقِدَت في مكة المكرمة عام 2005، تعهدت الأمة الإسلامية بتحقيق العديد من الالتزامات، ولكن تلك الالتزامات المدونة في خطة العمل العشرية تبدو مُبهمة للغاية، وتفتقر إلى التفصيل والتوجيه العملي، بل تبدو أكثر تجريداً وإحباطاً للآمال من كونها خطوات فعلية، تتحدث الالتزامات عن “نهضة” الأمة الإسلامية، وعن تطوير رؤى ومفاهيم “للحلول المثلى” للتحديات المتعددة التي تواجه الأمة، وعن تحقيق “مستقبل أكثر ازدهارا وكرامة للأمة”، كما تتعلق بمكافحة الإرهاب وتحديات كراهية الإسلام، ورغم مرور السنوات الخمس الماضية، لا تبدو هناك خطوات عملية قد اتُخذت لتحويل هذه الالتزامات إلى فوائد فعلية للأمة الإسلامية.
وإلى جانب مصطلح “الأمة”، تعكس عبارات أخرى مستخدمة في ميثاق منظمة التعاون الإسلامي جوانب الجهد الحديث، على سبيل المثال في افتتاحية الميثاق، تلتزم الدول الموقعة بالعمل من أجل “التنمية المستدامة والتقدم والرخاء لشعوب الدول الأعضاء”، ولكن هذا الالتزام لا يقتصر على تعزيز رفاهية المجتمعات الإسلامية في الدول الأعضاء فحسب، بل يشمل أيضاً الشعوب غير المسلمة التي تعيش في تلك الدول، “شعوب الدول الأعضاء” تضم المسلمين وغير المسلمين، بغض النظر عن جنسياتهم، وتؤكد على أن الميثاق يتوافق مع القانون الأساسي الذي يلزم الدول الإسلامية بحماية سلامة وممتلكات وكرامة الإنسان، سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين الذين يعيشون تحت حماية الشريعة الإسلامية، يعتبر الالتزام بضمان رفاهية الشعوب عموماً – وليس فقط المسلمين – التزاماً قانونياً لا يمكن الاستغناء عنه بموجب القانون الأساسي.
كما تشير عبارة “الشعوب المسلمة” إلى مجموعات قومية وعرقية متميزة في الدول الأعضاء، أما من الناحية الوطنية، يعتبر المصريون والإندونيسيون والإيرانيون، على سبيل المثال، شعوباً متميزة، ومن الناحية العرقية، فإن البشتون والبنجاب والسنديين والبلوش، على الرغم من كونهم جميعاً باكستانيين وينتمون إلى نفس المجتمع الوطني، إلا أنهم مع ذلك ينتمون إلى شعوب عرقية متميزة، وبالتالي، تشمل عبارة “الشعوب المسلمة” كل من المجموعات القومية والعرقية التي تقيم داخل حدود الدول الأعضاء، كما يتماشى هذا التصنيف مع القرآن الكريم، الذي يشير إلى “الشعوب القومية والقبلية” لتعزيز المشاعر الطبيعية للألفة المتبادلة بين هذه المجموعات، وعلى الرغم من ذلك، يمكن أن تكون المشاعر الوطنية والعرقية أحياناً قوى تفرق بين المجموعات القومية والعرقية. لذا، تلتزم الدول الإسلامية، بشكل جماعي وفردي، بضمان تعايش الشعوب القومية والعرقية بسلام، واستجابة لهذا الالتزام، يلزم ميثاق منظمة التعاون الإسلامي الدول الأعضاء بـ “تعزيز وتقوية أواصر الوحدة والتضامن بين الشعوب الإسلامية والدول الأعضاء”.
وباعتبار الدور الحيوي والمؤثر الذي تلعبه الشريعة الإسلامية في توجيه القوانين وتحديد مسار العدالة والمساواة، نجد أنها تمثل ركيزة أساسية في بناء النظام القانوني وتعزيز قيم العدل والإنصاف، بالتالي، إن تطبيق القوانين بناءً على الشريعة الإسلامية يسهم في تعزيز الثقة بالنظام القانوني وتعزيز الاستقرار والسلام في المجتمعات.
وبوصفها مصدراً للمبادئ الأخلاقية والقيم الإنسانية، تعمل الشريعة الإسلامية على تعزيز الأمان والاستقرار الاجتماعي، وتوجيه الفرادى والمجتمعات نحو مسار الصواب والعدل، وبناءً على ذلك، فإن التمسك بالشريعة الإسلامية في تشريعاتنا وتطبيقها يمثل ضامناً للحفاظ على القيم الإنسانية وتحقيق العدل والرخاء للجميع.
لذا، يجب علينا أن نعمل على تعزيز دور القانوني القائم على الشريعة الإسلامية، ودعم تطبيقها العادل والمتساوي لجميع أفراد المجتمع، ومن خلال الالتزام بمبادئ الشريعة الإسلامية، نضع الأسس لمجتمعات أكثر عدلاً وسلاماً، حيث ينعم جميع أفرادها بالكرامة والحقوق المتساوية دون تمييز أو تفرقة، فلنعمل معاً على تعزيز دور القانون الشرعي في بناء مجتمعاتنا، ولنجعل من العدل والإنصاف قيماً أساسية تحكم حياتنا وتوجه سلوكنا، لنحقق بذلك رؤية الإسلام في تحقيق السلام والرخاء والازدهار للجميع.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.